خلال حملته الرئاسية، تعهد الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بإعادة عمليات التعذيب، بما في ذلك الإيهام بالغرق والتقنيات التي كانت أسوأ من ذلك بكثير. والآن يبدو أنه سيكون جادًا بشأن إعادة التعذيب: فقد تم تسريب مسودة لقرار تنفيذي إذا صدر سيمهد الطريق لوكالة المخابرات المركزية لاستجواب الإرهابيين المشتبه بهم بوحشية في سجون سرية في جميع أنحاء العالم.
تقرير نشره موقع Vox «فوكس» الأمريكي قال إن القرار التنفيذي الذي نشرته أولًا صحيفة «نيويورك تايمز» ونشر بالكامل في صحيفة «واشنطن بوست»، من شأنه أن يلغي الحظر الذي فرضته إدارة الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» على عمليات الاستجواب الوحشية التي تجري في منشآت «المواقع السوداء»، وكذلك الحظر الحالي على أساليب الاستجواب التي لا يشملها حاليًا الدليل الميداني للجيش الأمريكي، بما في ذلك محاكاة الغرق. ويقول أيضًا إنه من «مصلحة الولايات المتحدة» الحفاظ على مركز الاعتقال الأمريكي المثير للجدل في خليج جوانتانامو في كوبا – السجن الذي حاول «أوباما» إغلاقه ولكنه فشل.
أشار تقرير الموقع الأمريكي إلى أن هذه الخطوات لن تفسح المجال على الفور لإعادة التعذيب، حيث لا يزال يتطلب الأمر إزالة بعض العوائق التي تحول دون ذلك. ولكن القرار من شأنه أيضًا أن يسفر عن البدء في مراجعة شاملة رفيعة المستوى لعودة هذه الأنشطة مرة أخرى – الخطوة الأولى في التحرك الفعلي نحو كون أمريكا، مرة أخرى، هذا البلد الذي يستجوب بوحشية المشتبه بهم المحتجزين في سجون سرية في جميع أنحاء العالم.
الآن، ليس من الواضح ما إذا كان القرار في طريقه فعلًا للصدور. نفى السكرتير الصحفي للبيت الأبيض «شون سبيسر» صحة التسريب الذي نشرته الصحف الأمريكية. ولكن بيان الرئيس الأمريكي الأخير، بالنظر إلى مقابلته مع قناة ABC، يبدو مربكًا للغاية. البيان يقترح أن «ترامب» نفسه يدعم إعادة التعذيب – ولكنه قد يولي تنفيذ الأمر إلى وزير دفاعه، «جيمس ماتيس»، ومدير وكالة المخابرات المركزية، «مايك بومبيو»، اللذين يعارضانه.
فيما أضاف التقرير أن المدافعين عن حقوق الإنسان يشعرون بالقلق بشكل كبير، لا سيما في ضوء خطاب «ترامب» القاسي بشأن التعذيب في الماضي.
«يشير القرار إلى أن الإدارة تبحث عن سبل لتنفيذ ما قال ترامب إنه سيفعله خلال حملته الانتخابية – وهو إعادة العمل بالتعذيب»، هكذا تقول «ماريا مكفارلاند»، المدير المشارِكة لبرنامج الولايات المتحدة في منظمة «هيومان رايتس ووتش» لحقوق الإنسان.
أوضح التقرير أنه بينما يدرس واضعو السياسات العودة إلى بعض من أحلك أيام الحرب على الإرهاب، فإن الوقت الحالي هو وقت مناسب جدًا لمراجعة سجل التعذيب في عهد إدارة «بوش». وتشير أفضل الأدلة العامة إلى أن التعذيب يؤدي إلى الحصول على معلومات كاذبة واعترافات كاذبة، مما يجعل من المستحيل الثقة في المعلومات المكتسبة خلال عملية التعذيب – ناهيك عن عدم أخلاقية إلحاق الألم بأناس لا حول لهم ولا قوة.
المشكلة هي أن «ترامب» مقتنع أن التعذيب يؤتي ثماره. وهذا يعني أن الأمر سيعود كما كان، بحسب ما ذكر التقرير.
كيف يمكن لهذا القرار التنفيذي أن يطلق عملية العودة إلى التعذيب؟
عندما تولى «أوباما» منصبه في عام 2009، أصدر قرارًا تنفيذيًا لمنع التجاوزات التي وقعت في عهد إدارة «بوش»، والتي شملت الضرب والإيهام بالغرق، والحرمان من النوم، والوقوف في أوضاع مجهدة مؤلمة على قدم أو يد مكسورة.
قرار الإدارة الأمريكية السابقة منع أي ضابط أو موظف أو إدارة أخرى تابعة للحكومة الأمريكية (سواء كانت عسكرية أو وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الاتحادي، أو أي جهة أخرى) من استخدام أي طريقة استجواب ليست من بين تلك الطرق المذكورة في الدليل الميداني للجيش الأمريكي. لا يتضمن الدليل الإيهام بالغرق أو غيره من «تقنيات الاستجواب المعززة» التي فضلتها إدارة «بوش»، مما يعني أنه لم يعد متاحًا استخدامها.
في عام 2015، عملت إدارة «أوباما» مع الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، لجعل الدليل الميداني للجيش جزءًا من قانون أمريكي فعلي. حظي التشريع بدعم قوي من الحزبين، ومرر في مجلس الشيوخ بتصويت ساحق، حيث وافق عليه 91 عضوًا بينما رفضه ثلاثة أعضاء فقط. وبدلًا من أن يضمن التشريع عدم قدرة الرؤساء في المستقبل على إعادة عمليات التعذيب دون الحصول على موافقة الكونجرس، فقد احتوى على ثغرة كبيرة.
نقل التقرير عن «روبرت تشيسني»، وهو أستاذ وعميد مشارك في كلية القانون بجامعة تكساس، ما ذكره في مدونة «Lawfare» أو «الحرب القانونية»، من أنه ليس هناك شيء يوقف وزير الدفاع، الذي تم تعيينه من قبل الرئيس، من تغيير الدليل الميداني للجيش. الواقع أن القانون يطلب فعلًا من وزارة الدفاع «استكمال المراجعة الشاملة» للدليل الميداني كل ثلاث سنوات.
وهذا يعني – بحسب التقرير – أن «ماتيس» يحتمل أن يدفع الجيش لتغيير الدليل الميداني ليشمل أشياء مثل محاكاة الغرق في قائمة أساليب الاستجواب المعتمدة، مما يجعل جميع الضمانات التي وضعها «أوباما» غير ذات جدوى.
وفقًا للتقرير، يبدو أن مشروع نص القرار التنفيذي للرئيس الأمريكي «ترامب» مصمم بشكل جيد للاستفادة من هذه الثغرة. ويقول مشروع القرار إن وزير الدفاع «يتعين عليه مراجعة سياسات الاستجواب المنصوص عليها في الدليل الميداني للجيش».
هذا هو السبب في أن المعارضة العلنية لوزير الدفاع المعين حديثًا من قبل «ترامب» مهمة جدًا. لمَ ولا فوزير الدفاع الحالي «ماتيس» كان مناهضًا للتعذيب لفترة طويلة – خلال خدمته جنرالًا في العراق، وقد لاحق بشدة الجنود الذين كانوا تحت قيادته، الذين قاموا بضرب أحد المعتقلين العراقيين حتى الموت. وخلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ، قال «ماتيس» بشكل قاطع إنه «يرفض» أي أوامر لإعادة التعذيب. تعيين «ترامب» لـ«ماتيس» إذن يمكن أن يسد هذه الثغرة.
ولكن التقرير استدرك بقوله إنه في نهاية المطاف، فإن «ماتيس» يخدم في إدارة الرئيس – وكذلك مدير وكالة المخابرات المركزية الجديدة «بومبيو»، الذي أعرب أيضًا عن معارضته لإعادة التعذيب.
إذا أصر «ترامب» على إعادة التعذيب، فإنه يمكن أن يمارس الكثير من الضغط على معاونيه – أو يطلق النار عليهم ويستبدل بهم مسؤولين أكثر مرونة، بحسب ما ذكر التقرير.
خلاصة القول هي أنه سيكون من الصعب على «ترامب» إعادة برنامج الاستجواب الوحشي الذي انتهجته وكالة الاستخبارات المركزية، لكنه لن يكون مستحيلًا.
التعذيب لا ينجح
سواء أقر «ترامب» هذه المسودة وأعاد أساليب الاستجواب الوحشية أم لا، فقد أوضح التقرير أنه يجدر بنا أن نتذكر أن معظم المشرعين والأكاديميين الذين درسوا هذه القضية، يعتقدون أن عمليات التعذيب لا تنجح.
النظرة الرسمية الأكثر وضوحًا لتاريخ الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتعذيب، جاءت من تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، الذي صدر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2014، والذي استند إلى استعراض واسع النطاق للأدلة العلنية وتقارير سرية من ضباط وكالة المخابرات المركزية. كانت هذه وثيقة حزبية صادرة عن الأغلبية الديمقراطية آنذاك. أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون أصدروا تقريرًا بديلًا، مع نتائج مختلفة، ورفضت وكالة المخابرات المركزية علنًا استنتاجات التقرير.
«هذا التقرير هو صورة ناقصة وانتقائية لما حدث. فسجل التقرير لا يدعم نتيجة الدراسة أن الوكالة ضللت بشكل ممنهج ومتعمد الرأي العام حول فعالية البرنامج»، هكذا قال مدير الوكالة آنذاك «جون برينان».
قال تقرير «فوكس» إنه في عملية مطاردة «أسامة بن لادن»، زعيم تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، جاءت المعلومات الأكثر أهمية من استجوابات قياسية أو معلومات من مصادر غير معتقلة. التعذيب قد يؤدي في الواقع إلى نتائج عكسية.
وهذا يتفق مع ما يقوله العديد من المسؤولين السابقين في الحكومة الأمريكية الذين استجوبوا في الواقع إرهابيين مشتبهًا بهم.
«مارك فالون»، وهو وكيل خدمة التحقيقات الجنائية البحرية (NCIS) السابق والمحقق الذي ترأس مجموعة الاستجواب الأمريكية رفيعة المستوى، وهي هيئة الحكومة الأمريكية المكلفة بمراجعة الأدلة على ممارسات الاستجواب، كان قد أجرى في عام 2015 مقابلة مع مجلة «نيوزويك»، أوضح فيها الأسباب التي تشير إلى أن التعذيب غير فعال.
وقال «فالون»: «لا أريد أن أجبر الناس على أن تقول لي أشياء، لأنهم بعد ذلك سوف يقولون لي الأشياء التي حتى لا يعرفونها».
فيما قال «علي صوفان»، وهو عميل سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي أشرف على استجواب الإرهابيين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، قال في كتاب «الرايات السوداء»: «الأدلة المكتسبة من التعذيب لا يمكن الاعتماد عليها. ليس هناك طريقة لمعرفة ما إذا كان المعتقل صادقًا، أو يتحدث فقط سواء لتخفيف آلامه أو أنه يقدم عمدًا معلومات كاذبة».
التعذيب ثقافة
من أجل فهم الإطار الكامل للضرر الذي قد يجلبه مجرد التكهنات عن عودة التعذيب مرة أخرى، قال التقرير إننا بحاجة إلى فهم أن التعذيب ليس مجرد ممارسة؛ إنه ثقافة.
وأشار التقرير إلى أن أستاذ القانون في جامعة جورج تاون «ديفيد لوبان» كان أول من تعرف على ثقافة التعذيب وشرح آلية عملها.
يقول «لوبان» إنه بمجرد قيام الحكومات بالسماح بالتعذيب حتى لجمع المعلومات الاستخبارية المحدودة، فإن منطق استخدامه فقط يشجع على مزيد من التعذيب. إن أي إرهابي مشتبه به يحتمل أن يكون لديه معلومات استخباراتية منقذة للحياة. إذا كان يمكنك استخدام التعذيب للحصول على بعض من هذه المعلومات، لماذا لا يمكنك استخدامه للحصول على الكل؟
في عام 1987، على سبيل المثال، منحت لجنة إسرائيلية المحققين الضوء الأخضر لاستخدام «الضغط البدني المعتدل» فقط في الحالات التي يكون فيها لدى الضحية معلومات عن هجوم وشيك. بحلول الوقت، حظرت المحكمة العليا الإسرائيلية التعذيب في عام 1999، فيما تعرض ثلثا الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية لتلك «الضغوط»، وفقًا لتقرير في مجلة «ذي أتلانتك».
وفقًا لـ«لوبان»، فإن ذلك هو السبب الذي جعل برنامج التعذيب في عهد «بوش» مرهقًا. الآليات البيروقراطية والنفسية التي تغذي التعذيب، بما في ذلك الإذن القادم من أعلى المستويات، جعل التعذيب الملاذ الأول.
قال التقرير إن الطريقة الوحيدة لإصلاح هذا التطبيع مع التعذيب هو جعله غير طبيعي وغير مقبول ثقافيًا. يحتاج المسؤولون في حكومة الولايات المتحدة أن يشعروا بالعار لما حصل من أجل دفعهم لعدم التفكير في التعذيب كمجرد وسيلة يمكنهم سحبها من صندوق الأدوات.
وتابع التقرير بقوله إنه حتى لو لم يُجِز «ترامب» التعذيب بشكل مباشر، فإن المستويات الأدنى في وكالة الاستخبارات المركزية قد ترى تعليقاته العلنية وقراره التنفيذي، باعتبارهما إذنًا ضمنيًا – الشعور بأن «ترامب» سيدعمهم، أو على أقل تقدير لن يحاكمهم.
وأخيرًا، قال التقرير إن التعذيب ليس مجرد أداة أخرى في صندوق الأدوات. إنه ممارسة وحشية تمارس مع المشتبه بهم الذين قد يكونون أبرياء في حين أنه مهين أيضًا لأولئك الذين مارسوه. فعل الرئيس «أوباما» كل ما في وسعه لمنع الأمريكيين من توظيفه مرة أخرى، بينما قد يفعل الرئيس «ترامب» كل ما في وسعه لإعادته.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».