مع تطور وتعدد مصادر المعرفة، نكتشف مع الوقت أنَّ بعض القصص التي نشأنا عليها هي في الحقيقة نسخ منقحة لقصص قد تحمل معاني أخرى أو مقاصد غير التي نعرفها. أصبحنا نعرف مثلًا أنَّ أختي سندريلا في النسخة الأصلية من قصتها كانتا أكثر شرًا بكثير، وأنَّ قصص «ألف ليلة وليلة» الأصلية مليئة بالتلميحات الإباحية والجنسية، لكن هل كنا نتصور فعلًا أن قصة مثل «بينوكيو» لها وجهٌ آخر؟
الإجابة هي نعم، وفقًا للكاتبين جون هوبر، وآنا كراتشينا. نشر جون وآنا مقالًا في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية يكشفان فيه القصة الحقيقية لأنف بينوكيو الشهيرة.
أشار جون وآنا إلى أنَّ بينوكيو الوغد الكاذب قد يبدو أيقونةً جاهزة لعصر الأخبار المزيفة، والبوتات، والحقائق البديلة، ومتصيدي الإنترنت، والتشكيك في مصداقية الإعلام التقليدي. ويتجلى هذا في حقيقة أنَّ اثنين من مخرجي الأفلام المرموقين في العالم يعملان على مشاريع مستلهمة من الدمية الشهيرة.
إذ اختار جييرمو ديل تورو، مخرج فيلم «شكل الماء The Shape of Water» الفائز بالأوسكار، قصة بينوكيو موضوعًا لفيلم الرسوم المتحركة الأول الذي يخطط لإنتاجه؛ ويخطط ماتيو جاروني، مخرج فيلم «جومورا Gomorrah» الذي حظي بإشادةٍ واسعة، لإنتاج فيلمٍ آخر عن الدمية المتحركة، يُمثل فيه روبيرتو بينيني، الكوميدي الإيطالي الحائز على الأوسكار. (وهناك مناقشاتٌ في شركة ديزني لإنتاج فيلمٍ ثالث، ليكون إعادة إنتاج حية لنسخة والت ديزني الكرتونية التي أُنتجت عام 1940).
لكن ما اعترف به ديل تورو، الذي تحدث عن هوسه طوال حياته ببينوكيو، وما لا يحتاج جاروني بصفته إيطاليًا مثقفًا أن يعرفه، أنَّ القصة الأصلية عن بينوكيو بالغة التعقيد، تشبه قصص «أليس في بلاد العجائب»، أو «رحلات جوليفر»، وأكثر كآبة من أسطورة ديزني المبهجة عن الثمن الذى دفعه الفتى لقاء كذبه.
«مغامرات بينوكيو»
بحسب المقال، خرجت فكرة بينوكيو إلى الوجود في المرة الأولى منذ 138 عامًا، في صفحات جريدة مخصصة للأطفال. اخترعه الكاتب الإيطالي كارلو كولودي، ونشر مغامرات الدمية في كتابٍ بعنوان «مغامرات بينوكيو» لاحقًا بعد عامين. وفُقدت الرسالة المقصودة من الكتاب على نطاقٍ واسع بعد غرقها تحت الهالة العاطفية التي نثرتها هوليوود عليها في رأي الكاتبين.
كارلو كولودي هو الاسم المستعار لكارلو لورينزيني، الصحفي والكاتب التهكمي الذي كسب عيشه من عمله موظفًا حكوميًا. ولد كولودي في فلورنسا عام 1826، وكان مساهمًا غزير الإنتاج في الدوريات الثقافية والسياسية، وناقدًا دؤوبًا لقيادات بلده، إذ يوبخها باستمرار على إهمالها للفقراء والمهمشين اجتماعيًا. لم يُعرف سبب توجهه للكتابة للأطفال في منتصف السبعينيات. وربما أمكن استنتاج دوافعه من مراسلاته، لكنَّ أخيه باولو حرق رسائله بعد اكتشافها، إذ كان بعضها وفقًا لابن أخيه «قد يفضح سيدات معروفات وعلى قيد الحياة».
ويشير الكاتبان إلى أنَّ أحد النظريات حول المسألة تتكهن بأنَّ التهكم السياسي كان يتضارب مع وظيفة لورينزيني الدائمة باعتباره موظفًا حكوميًّا. لكن هذا لا يمكن أن يكون التفسير الكامل لما فعله، نظرًا لاستخدامه لقلمه بين الفينة والأخرى لهجاء السلطات. والأرجح أنَّه كان لديه غرضٌ محدد في ذهنه لتأليف القصة.
فلطالما كان لورينزيني مؤيدًا متحمسًا لتحرير إيطاليا من الحكم الأجنبي، وتوحيدها كما حدث بالفعل عام 1861. وعرَّض حياته للخطر مرتين لأجل تلك القضية الوطنية، إذ انضم للجيش لمحاربة النمساويين في حربي الاستقلال الأولى والثانية. لكنَّه، كما تُظهر الكثير من مقالاته، أُصيب بخيبة أمل عظيمة في الدولة الجديدة التي خرجت من حركة التوحيد تحت راية ملكها الأول فيكتور إيمانويل الثاني. إذ كان يتزايد فساد واستهتار حكوماتها، وكان مسؤولوها في رأي لورينزيني غير عابئين بالظروف اليائسة التي يعيش فيها أغلب الإيطاليين.
ويمكن استشفاف استياء لورينزيني من السطور التي يبدأ بها كتاب المغامرات: «كان ياما كان، كان هناك … سيقول قرائي الصغار بسرعة ويقين: «ملك». لكن لا يا أطفال، أسأتم الفهم. كان ياما كان، كانت هناك … قطعة من الخشب».
قارن لورينزيني الملك بقطعة من الخشب. وبهذا، في رأي الكاتبين، كان لورينزيني يقترب من الخطر حين بدأ سلسلته عام 1881 بهذه الطريقة. وتبعها بـ«قصة خيالية» خالية من الأمراء والأميرات، والفرسان الشجعان والآنسات الضعيفات.
تجري الأحداث في بيئة عرفها الكاتب جيدًا في طفولته؛ عالم المناطق الريفية الفقيرة التي سُرَّ معظم السياسيين الإيطاليين بتجاهلها. ويظهر تهكم لورينزيني بوضوح من إيطاليا الجديدة في أحداث قصة بينوكيو، حين تذهب الدمية إلى المحكمة بعد تعرضها للسرقة، فيحكم القاضي القرد بإرسالها إلى السجن عقابًا لها على سذاجتها.
ويأسًا من مبادئ أقرانه، يبدو أنَّ لورينزيني قرر أنَّ أفضل مساهمة يمكنه فعلها لمستقبل بلده هي استثمار موهبته في تحسين المستوى الأخلاقي للأجيال القادمة، لكن كيف؟
العبرة ليست في عاقبة الكذب
يشير الكاتبان إلى أنَّه عند سؤال الناس عن المغزى من قصة بينوكيو، سيقول معظمهم بيقين إنَّها قصة تحذيرية عن الكذب. لكنَّهما يوضحان أنَّ أنف الدمية المشهورة بتمددها لا تظهر إشارة على الكذب في أي جزء من السلسلة الأصلية، التي انتهت نهايةً قاتمة بمشهد يُعلق فيه اثنان من الأشرار بينوكيو في شجرة ليموت. وحظيت القصة بشهرة واسعة، فطُلب من لورينزيني أن يكمل السلسلة. وفي الجزء الثاني تنمو أنف بينوكيو عند الكذب، ولم تكن تنمو في كل مرةٍ كذلك.
لكن في الواقع، موضوع القصة الرئيسي هو أهمية التعليم، الذي كان لورينزيني مدافعًا شغوفًا عنه. فما نقل بينوكيو من تعاسةٍ إلى أخرى هو نفوره عن الذهاب للمدرسة. وتظهر عواقب عدم الحصول على التعليم في إيطاليا نهاية القرن التاسع عشر بشكلٍ مروع في أحد أكثر حلقات سلسلة «المغامرات» شؤمًا؛ إذ يذهب بينوكيو وصديقه إلى منطقة تُعرف في القصة باسم «تويلاند»، معتقدين بأنَّها جنةٌ ما.
لكن بمجرد وصولهما، تحولا إلى حمارين. هرب بينوكيو من الذبح بصعوبة بالاختباء، لكنَّ صديقه اضطر للعمل حتى الموت، وهذا هو المصير الذي كان ينتظر العديد من العمال غير المؤهلين أيام لورينزيني، لكن بشكلٍ أقل درامية من القصة.
ويوضح جون وآنا أنَّ كلمة حمار في الإيطالية تنطبق على الذين يعملون إلى درجة الإجهاد، أو الموت في النهاية، وعلى من لا يبلون بلاءً حسنًا في التعليم، ليس بالضرورة لأنَّهم أغبياء، لكن لأنَّهم يرفضون الاستذكار. وكانت فكرة لورينزيني هي أنَّ كون الشخص حمارًا في المدرسة يقوده إلى العمل كالحمار بعد ذلك، والطريقة الوحيدة لتجنب حياة وموت الحمير هي التعليم.
وكان التعليم أساسيًا أيضًا للنتيجة التي آلت إليها القصة الخرافية في النهاية، والتي جعلت بينوكيو يتوقف عن كونه دميةً ويصبح ولدًا. فقبل النهاية بسبعة فصول، يذهب بينوكيو إلى المدرسة ويتفوق في دراسته، ويتلقى وعدًا بالتحول لإنسان. لكنَّه حينها يرتكب خطأً فادحًا؛ وهو الذهاب إلى تويلاند، حيثُ يتحوَّل إلى حمار. ثم بعد فترةٍ من الشقاء المرعب، يبدأ الدراسة مرةً أخرى، لكنَّه لم يكسب حقه في أن يصبح إنسانًا إلا حين بدأ تحمل مسؤولية نفسه ومن يحبهم.
مغزى القصة إذن في رأي الكاتبين ليس أن يتعلم الأطفال قول الحقيقة دائمًا، لكن أنَّ التعليم أمر أساسي، ويسمح بالتحرر من حياة العمل القاسي. والأكثر أهمية هو أنَّه يتيح الوعي بالذات والشعور بالواجب تجاه الآخرين. ورسالة «المغامرات» هي أنَّك ستبقى دمية للأبد يجذب خيوطها أشخاصٌ آخرين إذا لم تنفتح على المعرفة والبشر. وهي ورسالة وثيقة الصلة بأوقات الاستبداد التي نعيشها.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».