نشر الباحث بول بيلر مقالًا على موقع «ناشونال إنترست» يقول إنَّ يوم 29 مارس (آذار) الماضي، صادفَ مرور 50 عامًا على انسحاب آخر القوات الأمريكية من فيتنام. ويصف بيلر أنَّ نهاية الحرب الأمريكية كانت الأكثر دموية، قياسًا بحجم الخسائر الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. ورحلت آخر طائرة معبأة بالجنود، وبلغت فترة الانسحاب نحو 60 يومًا كما حدد في اتفاقية السلام، التي تفاوض عليها هنري كيسنجر، ولو دوك ثو، ووقع عليها في باريس يناير (كانون الثاني) 1973.
يذكر بيلر أنَّه كان على متن الطائرة الأخيرة، بصفته ملازمًا في الجيش بالوحدة التي عالجت القادمين من فيتنام أو خارجها، وتعين عليه إدارة مغادرة الجنود الآخرين الذين لم يكونوا قد غادروا فيتنام، قبل أنَّ يتمكن هو وزملاؤه من حزم حقائبهم والعودة إلى الوطن. ويشير بيلر إلى أنَّ هذه التجربة أثارت اهتمامًا دائمًا بإنهاء الحروب، لدرجة أنَّها أصبحت موضوعًا للكتابة، وأطروحات دكتوراه، ومحورًا للتفكير في النزاعات.
اتفاقيات السلام
يسهب بيلر بالقول إنَّ اتفاقية السلام لعام 1973 كانت، على الرغم من الانتقادات الكثيرة، تعد المسار الصحيح لأمريكا، وكان عدم التوصل إلى هذا الاتفاق سيعني إدامة التورط الأمريكي المكلف في صراع سينتهي حتما لصالح حركة «فيت مين» (التي أصبحت تحكم فيتنام الشمالية) وجسدت القومية الفيتنامية الساعية لإنهاء الاستعمار.
يشير بيلر إلى أن بعض الاتفاقيات التي تُنهي الحروب لا تحظى بشعبية بقدر ما هي ضرورية، وجاء الانتقاد الداخلي لسياسات كيسنجر والرئيس ريتشارد نيكسون في فيتنام في المقام الأول من أولئك الذين جادلوا بأنه كان يجب أن تنسحب أمريكا في وقت أبكر. لكن انتقادات مختلفة جاءت من أولئك الذين اعتقدوا (وهو الاعتقاد الذي ظل قائمًا في بضع دوائر صغيرة لعقود) أن أمريكا لا يزال بإمكانها تحقيق نتيجة ناجحة لحرب فيتنام إذا ما استمرت في القتال.
الحركة المناهضة للحروب
تتشابه هذه الانتقادات مع الانتقادات الموجهة لسياسات إدارة الرئيس جو بايدن تجاه الحرب في أوكرانيا، ويجادل البعض بأن أمريكا يجب أن تتراجع عن دعمها لأوكرانيا، بينما دعا البعض الآخر إلى زيادة الدعم. وتدور هذه الخلافات جزئيًّا حول كيفية خوض الحرب، وأيضًا حول كيفية نهايتها؛ لأن الحجج تحمل نتائج طبيعية حول الظروف في ساحة المعركة التي ستؤدي أو لا تؤدي إلى شروط طاولة المفاوضات حول السلام.
وتعد اتفاقيات التسوية هي القاعدة، والنصر التام أو الهزيمة هي الاستثناء، وفي الحروب التي تهم الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عادة ما يترك كلا الجانبين طاولة المفاوضات غير راضين عن بعض الأشياء، وكان هذا صحيحًا بالنسبة لاتفاقية باريس لعام 1973. فقد كان عدم الرضا من الجانب الأمريكي يقابله إحباط هانوي من الاضطرار إلى التأجيل مرة أخرى (كما فعلت حركة فيت مين عند التفاوض مع الفرنسيين في عام 1954) إذ كان هدفهم حكم فيتنام موحدة.
وربما كانت علامة الإحباط أن القاعدة الجوية التي كنت متمركزة فيها تعرضت للقصف الصاروخي من قبل القوات الشيوعية بعد توقيع الاتفاقية، وقبل 90 دقيقة من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ولعلهم شعروا بأن الأمر سيمثل إهدارًا لو حملت تلك الذخائر على طول ممر هو تشي مينه دون توجيه ضربة أخيرة للأمريكيين.
كيف تنتهي الحروب؟
يرى بيلر أنه للتوصل إلى اتفاقية سلام من نوع ما، ستضطر الأطراف للتخلي عن عامل «الصدفة». فلم يكن بإمكان أحد التنبؤ بدقة بكيفية وقوع الأحداث في المنافسة بين شمال فيتنام وجنوبها مع رحيل القوات الأمريكية. وتوقع نيكسون وكيسنجر أن فيتنام الجنوبية لن تكون قادرة على الصمود إلى أجل غير مسمى، لكنها ستقف طويلًا بما يكفي لنسيان الأمريكيين إلى حد كبير مسألة فيتنام والانتقال إلى قضايا أخرى.
كان هذا هو مفهوم «الفترة الزمنية اللائقة» التي تستحق النقد بقدر ما كانت الإستراتيجية مدفوعة باعتبارات داخلية. ومع ذلك، فإن ترك الكثير من المستقبل القريب لفيتنام الجنوبية للصدفة ربما كان ضروريًّا في سد فجوة التفاوض بين واشنطن وهانوي والتوصل إلى أي اتفاق على الإطلاق.
اجتماع الوفدين الأمريكي والفيتنامي لتوقيع اتفاقية باريس للسلام عام 1973
يشير بيلر إلى أنَّ الحروب الخاطئة خاصة عرضة للفوضى عند انتهائها، أو عندما تنسحب الولايات المتحدة منها. وعادة ما ينطوي الخطأ ذاته على فشل النظام العميل في أن يصبح قويًّا وشرعيًّا بما يكفي للصمود بمفرده. ومن ثمَّ، فإن انهيار ذلك النظام هو جزء من الخاتمة القبيحة.
وفي فيتنام، جاء هذا الانهيار بعد عامين، وسط صور لعمليات إنقاذ في سايجون. وفي أفغانستان، جاء ذلك مع انهيار حكومة أشرف غني في أغسطس(آب) 2021، وسط صور للأفغان المتشبثين بالطائرات في مطار كابول. أبرزت سرعة الانهيار الأخير عدم جدوى العقدين الماضيين من محاولات بناء الدولة في أفغانستان من خلال القوة العسكرية.
وشكلت العلاقات بين واشنطن والأنظمة العميلة بُعدًا مهمًّا لخوض الحروب وإنهائها. واستغل نيكسون هذا البعد خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 1968 عندما استخدم مبعوثين سرًّا لحث الرئيس الفيتنامي الجنوبي نجوين فان ثيو على رفض مبادرة سلام إدارة جونسون التي، إذا نجحت، ربما كانت ستحقق النصر للمرشح الديمقراطي هوبرت همفري.
وبعد أن علم ثيو قوة مثل هذه الجرأة، طبقها لاحقًا على نيكسون نفسه حين كان كيسنجر وثيو يقتربان من نهاية مفاوضاتهما. إحدى النتائج كانت حملة القصف المدمرة ضد فيتنام الشمالية في ديسمبر (كانون الأول) 1972 والمعروفة باسم قصف عيد الميلاد (وهو أكبر هجوم جوي بقاذفات ثقيلة منذ الحرب العالمية الثانية) والذي كان يهدف إلى الضغط على ثيو لعدم إعاقة الاتفاق، وكذلك للضغط على هانوي.
يؤكد بيلر أن أسئلة السياسة المتبعة تجاه الحرب في أوكرانيا حساسة وصعبة حول العلاقة بين واشنطن وكييف، وكيف تتباعد مصالحهما. هناك اختلافات كبيرة، بالطبع، بين هذه الحرب والحرب في فيتنام، ليس من بينها فقط أن الولايات المتحدة لم تشارك مباشرة بقواتها الخاصة، ولكن أيضًا أن أوكرانيا تقودها حكومة شرعية تحظى بدعم شعبي كبير وكانت ضحية عدوان خارجي سافر، بدلًا من إرث إنهاء الاستعمار الجزئي. لكن من المرجح أن تتضمن نهاية هذه الحرب مرة أخرى إقناع حليف أوكراني بقدر ما ينطوي على ضغط خصم روسي.
النهاية التعيسة
يقول بيلر إنَّ الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام استمرت داخل أمريكا عدة سنوات بحلول الوقت الذي وُقِّعت فيه اتفاقية 1973. وظهر العديد من الخصائص غير المفيدة والمتكررة للعديد من هذه الاحتجاجات، منها الاغترار بالنفس، والاهتمام بالحجم والعاطفة أكثر من الاهتمام بالآثار العملية في السياسة، ونقص واضح في التقدير لما يتطلبه الأمر لإنهاء الحرب. عومل حدث مثل تسريب أوراق البنتاجون على أنه عمل بطولي، مع أن التسريب لم يفعل شيئًا للإسراع في سحب القوات الأمريكية، والذي كان بالفعل قيد التنفيذ في وقت التسريب.
وبلغ عدد القوات الأمريكية في فيتنام ذروته عند نحو 540 ألفًا في الوقت الذي تولى فيه نيكسون الرئاسة. إن إعادة جيش بهذا الحجم إلى الوطن كانت مهمة هائلة، ليس فقط من حيث الخدمات اللوجستية الأساسية ولكن أيضًا، في خضم حرب مستمرة، مثل أمور تتعلق بالأمن، واستمرار تناوب الأفراد الذي سيحافظ على هيكل قوة متوازن حتى تستمر وظائف الدعم الأساسية. يؤكد بيلر أن أحد انعكاسات ذلك هو أن الكثير من عمله خلال السنة التي قضاها في فيتنام (على الرغم من الانسحاب السريع) تضمن نقل أفراد الجيش إلى فيتنام وإجلاءهم منها.
ويرى بيلر أن عمله هو وزملاؤه خلال تلك الفترة ساعد (بطريقة مباشرة وقابلة للقياس) في إخراج القوات الأمريكية من فيتنام أكثر من أي شيء أنجزه شخص يحمل مكبر صوت أو لافتة في شارع أمريكي. لم يكن العمل بطوليًّا بالتأكيد ولكنه ضروري. وجنبًا إلى جنب مع العديد من المهام اللوجستية الدنيوية، كانت هناك حاجة للتعامل بطريقة إنسانية مع العدد الكبير المقلق من الجنود الذين، في تلك المرحلة من الحرب، أصبحوا يتعاطون الهيروين.
استمرت الفوضى حتى النهاية، وكان من المفترض أن يُنسَّق انسحاب 25 ألف جندي من فيتنام عندما وقِّعت اتفاقية باريس مع إعادة أسرى الحرب الأمريكيين المحتجزين في فيتنام الشمالية.
لقد سار التنسيق سيرًا مُرضيًا حتى الأسبوعين الأخيرين، عندما أدت الخلافات حول نقل الأسرى إلى تجميد رحلاتنا الجوية. بمجرد حل هذه المشكلة، كان لدى الأمريكيين ثلاثة أيام فقط لإخراج آخر بضعة آلاف من القوات. يؤكد بيلر أنه لم ينم تقريبًا خلال تلك اللحظات الأخير، قبل أن يصعد على متن طائرة C-141 والنوم معظم الطريق عبر المحيط الهادئ.
وبمجرد وصوله إلى كاليفورنيا، شارك بيلر في احتفال قصير أُلغي فيه تنشيط وحدتي (الكتيبة البديلة 90) رسميًّا. سأله أحد المراسلين في الحفل عن رأيه، فأعرب عن أمله في ألا تحتاج الوحدة – التي ظهرت أول مرة على المسرح الأوروبي في الحرب العالمية الثانية – إلى إعادة تنشيطها من أجل حرب خارجية أخرى.
ويختتم بيلر بأنَّه منذ ذلك الحين، أدت الوحدات الأخرى الوظيفة نفسها المتمثلة في تحريك القوات الأمريكية داخل حروب لاحقة متعددة وخارجها. والأفكار حول كيف يمكن لهذه الحروب الأمريكية المستقبلية أن تنتهي لا يزال بالإمكان استخلاصها من تجربة فيتنام. لكن الذكريات تتلاشى، وما يقرب من ثلثي الأمريكيين على قيد الحياة اليوم لم يكونوا قد ولدوا بعد في عام 1973.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».