لعبت منصة «تليجرام» دورًا هامًّا في الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة، قبل أن تعطل السلطات الإيرانية الوصول إليها بعد أن أدركت أهميتها. تشرح الباحثة التقنية الإيرانية مهسا علي مرداني – في تقرير نشرته مجلة «بوليتيكو» الأمريكية – دور «تليجرام» في الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة، والمسؤولية التي تقع على منصة كهذه، في وقت أصبحت فيه صوت المحتجين على الإنترنت، ووسيلة التنظيم التي يعتمدون عليها. يشير التقرير أيضًا إلى حوادث تدعو للشك حول تعاون المنصة مع الحكومة الإيرانية، وتدعو الشركة للالتزام بمسؤوليتها تجاه مستخدميها في إيران.
اقرأ أيضًا: «هآرتس»: إيران تنفق مليارات في حروب بالوكالة في المنطقة.. أين تذهب هذه الأموال؟
توضح مرداني في البداية أن السلطات الإيرانية كانت قد تعلمت درسًا هامًا من الاحتجاجات الكبيرة عام 2009، ألا تسمح لشبكات التواصل الاجتماعي بالخروج عن سيطرتها أبدًا. حجبت «فيسبوك» و«تويتر» في 2013، بعد أن ساهما في دعم الإصلاحيين، وفي فترة ما قبل الانتخابات من العام نفسه، قيدت الإنترنت وأبطأته، وأصبحت تلك الوسيلة المفضلة لتمنع أي أحداث سياسية مثيرة.
لكن الإيرانيين ظلوا راغبين في التواصل مع بعضهم البعض، فسمحت الحكومة لمنصة «تليجرام» أن تزدهر، وهي منصة للتواصل الفوري ترتبط بهواتف المستخدمين وتسمح برفع مقاطع الفيديو والصور والملفات الأخرى بسهولة.
قد يبالغ البعض في تقدير أثر التكنولوجيا على الحشد للاحتجاجات مثلما حدث في «الموجة الخضراء» عام 2009، حين كان القليل من الإيرانيين يستخدمون تويتر؛ لكنها كانت الوسيلة التي تعرف بها العالم على الاحتجاجات، ولهذا برزت على أنها «ثورة تويتر» الأولى في العالم، وهو ما لم يكن صحيحًا.
أما الآن، فيتظاهر الآلاف من الإيرانيين ضد النظام في مختلف مدن البلاد، يهتفون بشعارات ثورية لم تكن تخطر على البال قبل عقد من الآن. ولا تعد مبالغة إن قلنا إن التكنولوجيا تلعب دور محوريًا هذه المرة، تسمح للناس بتنظيم أنفسهم، ومشاركة المعلومات مع بعضهم البعض، وتنبيه العالم الخارجي لما يحدث.
اقرأ أيضًا: بعيدًا عن العقوبات.. 5 أسباب وضعت إيران في مأزق اقتصادي فجر المظاهرات
لماذا «تليجرام» تحديدًا؟
تضيف الكاتبة أن الإيرانيين قد أصبحوا خبراء في تجاوز الحجب وتفادي العقبات الحكومية على الإنترنت منذ عام 2009، كما أصبح «تليجرام» وسيلة فعالة وواسعة الانتشار بسبب أدائه الجيد في ظل السرعات المنخفضة، ولأنه متاح خارج مجال الحجب الإيراني؛ أصبح وسيلة التواصل ومشاركة المعلومات في لعبة «القط والفأر» التي يلعبها الناس مع من يحاولون التحكم بهم.
يمكن بسهولة تخزين ومشاركة الملفات الكبيرة – مثل مقاطع الفيديو – على منصته، ويعمل جيدًا مع الكتابة الفارسية، ويوفر إمكانية تطوير ملصقات وحسابات روبوتية (bots) باللغة الفارسية، كل هذا من خلال واجهة بسيطة.
على عكس تويتر، يستخدم ملايين الإيرانيين منصة تليجرام في حياتهم اليومية، وصل عدد مستخدميه في إيران إلى 40 مليونًا من بين 45 مليون مستخدم للإنترنت، طبقًا لآخر إحصاءات الاتحاد الدولي للاتصالات. يعتمدون في أغلب الوقت على مجموعاته الخاصة للتواصل مع الأهل والأصدقاء، ولاستقبال الأخبار من القنوات العامة لمصادر الأخبار الفارسية في الداخل وفي المهجر، أو لاستقبال آخر مستجدات الطقس والحالة المرورية والتسوق والترفيه، كما يستخدم 20 مليونًا منهم «إنستجرام» أيضًا.
بعد كل ما ذكر، وبعد سنوات من ازدهار «تليجرام» و«إنستجرام» بعيدًا عن الرقابة، لم يكن من المفاجئ أن تتحكم السلطات في محتوى هذه المنصات بعد اشتعال الاحتجاجات، بشكل «مؤقت» و«للحفاظ على الاستقرار» كما أوردت محطة التلفزيون الحكومية.
هل تتعاون «تليجرام» مع السلطات؟
كانت السلطات الإيرانية تتناقش حول سياسة عدم التعرض لـ«تليجرام» منذ عام 2015، وهي شركة منتشرة عالميًا ومسجلة في المملكة المتحدة. أعلنت في مرات عدة عن التعاون مع «تليجرام»، وهو ما نفته الشركة لاحقًا في أغلب المرات. لكن الشركة أعلنت عن تنصيبها لـشبكات توزيع المحتوى (CDN) ضمن القنوات العامة في إيران خلال يوليو (تموز) الماضي. أثار هذا شك الإيرانيين لاعتمادهم الكبير على المنصة، وأدركوا متأخرًا أنها كانت بداية اتجاه «تليجرام» نحو التعاون مع الحكومة الإيرانية.
بحسب مرداني، كانت أحد أسباب قلقهم أن «تليجرام» لا يفعل خاصية التشفير التام بين الطرفين في محادثاته افتراضيًا، وحتى عندما يفعّل المستخدمون خاصية المحادثة السرية، فهم يستخدمون بروتوكول تشفير كان قد انتقده بعض أهم المتخصصين في التشفير، ووصفوه بأنه غير آمن، ما يوحي بأنه من المحتمل أن الملايين من الإيرانيين قد تشاركوا معلومات تتعلق بالاحتجاجات وهم يظنون خطأً أنهم آمنون.
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2016، اختُرقت حسابات العديد من الصحفيين الإيرانيين عبر هجمات تستغل خاصية التوثيق الثنائي عبر الرسائل النصية. حجب «تليجرام» أيضًا حسابات روبوتية إباحية، وملصقات فارسية خارجة، وهو ما أثار مزيدًا من الشك.
أصبحت هذه المخاوف مبررة، بحسب مرداني، بعدما أغلق تليجرام قناة «آماد نيوز» في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، وهي قناة عامة للأخبار يتابعها أكثر من 700 ألف مشترك. طلب وزير الاتصالات الإيراني محمد جواد أزاري جهرومي من المنصة أن تحجب القناة «لتحريضها على الكراهية واستخدام المولوتوف والانتفاضة المسلحة والاضطراب الاجتماعي». أعلن بعدها أحد مؤسسي التطبيق «بافل ديوروف» عن انصياعه للأمر، مشيرًا لـ«سياسة الاستخدام» التي تخضع لها القنوات العامة.
كان هذا انتصارًا لبعض الفئات السياسية في النظام الإيراني، فقد ضغط المتشددون لشهور على «تليجرام» من أجل إزالة هذه القناة، والتي تدعي التحدث باسم «الموجة الخضراء»، وتهدف لـ«فضح فساد النظام وأنشطته السرية».
لاحظت مرداني وبعض زملائها العاملين في مشروع لمعهد أكسفورد – يركز على الدعاية السياسية الحاسوبية – أن حسابات روبوتية إيرانية تمطر حسابي دوروف و«تليجرام» على «تويتر» بالرسائل، وتستخدم هاشتاج «احجبوا_قناة_آمادنيوز». بدأت الحسابات في الظهور مباشرة بعدما نشرت القناة قصة كاذبة انتشرت بشكل كبير، تزعم فيها أن ابنة رئيس السلطة القضائية الإيرانية صادق لاريجاني تعمل جاسوسة للسفارة البريطانية.
اقرأ أيضًا: مترجم: اعتراضًا على أسعار البيض ثم لإسقاط النظام.. ماذا يحدث في إيران الآن؟
انتقادات واتهامات لـ«تليجرام»
لقي تصرف «تليجرام» – بـحجب القناة – موجة من الانتقادات وجهها لها مناصرو الحقوق الرقمية، وكان من بينهم إدوارد سنودن، لكن الشركة أظهرت مشكلة مقلقة في شفافيتها تجاه هذا القرار. أحد الأمثلة كانت عندما ضغطت الناشطة الرقمية الإيرانية ناريمان غريب على ديوروف، من أجل توضيح ما فعلته تلك القناة تحديدًا لتنتهك به سياسة الاستخدام. لم يقدم أي دليل واضح، وقال فقط إن «تليجرام» اتخذت «قرارًا مصيريًا».
كان اعتراض النشطاء وجيهًا، فسياسة الاستخدام الخاصة بـ«تليجرام» لا توضح عملية إزالة القنوات، وهو على ما يبدو من «الأسئلة الشائعة» للمنصة على الأقل. دافع ديوروف عن تصرفات الشركة بالإشارة إلى أنه رفض الانصياع لطلب آخر بإزالة قناة «صداي مردم»، والتي أنشأها مسؤولو «آماد نيوز» بعد إزالة القناة الأصلية.
تضيف مرداني أن شركات الإنترنت الإيرانية، التي تقع بنيتها التحتية تحت إمرة وزارة الاتصالات والمرشد الأعلى، قد وضعت قيودًا على الإنترنت بعد ارتفاع حدة الاحتجاجات. عانى ملايين الإيرانيين إما من استخدام الإنترنت على هواتفهم أو من فشل الاتصال بأي مواقع خارجية، كل بحسب التكتيكات المختلفة لموفر الخدمة لديه. انتشرت أيضًا أنباء في الأول من يناير (كانون الثاني) عن اضطرابات في الاتصال المنزلي، مثل السماح بالوصول للمحتوي المحلي فقط، وهو ما أثار مخاوف من أن تكون هذه بداية استخدام شبكة الإنترنت القومية «حلال نت»، والتي بدأ الحديث عنها منذ وقت طويل.
يبقى من المحتمل أن تعيد الحكومة حساباتها تجاه قرارات تقييد الإنترنت بعد أن تنتهي من الحجب، فقد قال وزير الاتصالات جهرومي على تويتر – المحجوب في إيران منذ 2009 – إن من يقولون بأن حجب وسائل التواصل الاجتماعي أمر دائم ينشرون الفوضى الاجتماعية بحديثهم هذا.
اقرأ أيضًا: مترجم: السعودية وإيران.. صراع غير محسوم.. دليلك لفهم الصراع التاريخي على النفوذ
تختم مرداني بالقول إنه في حال صح كلام الوزير، فيجب على المديرين التنفيذيين لـ«تليجرام» أن يتخذوا قرارًا هامًا، فهل سينصاعون لرغبة الحكومة الإيرانية بتضييق الخناق على كل مصادر المعلومات المستقلة، أم يلتزمون بالمسؤولية والشفافية أمام مستخدميهم الذين يعتمدون على منصتهم في التواصل بحرية؟ هل سيطورون أدوات أفضل وأكثر أمانًا ليسمحوا للناس بتجاوز الحجب، أم يتعاونون مع نظام يحاول التحكم في حيوات الناس على الإنترنت؟ ربما يقع على عاتق «تليجرام» التزام – أكبر من أي شركة تكنولوجيا في التاريخ – تجاه الشعب الإيراني في وقت محنته؛ فهل ستستخدم الشركة سلطتها بشكل حكيم وإنساني؟
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».