في وقتٍ مبكرٍ من فترة ولاية دونالد ترامب، وصف الرئيس السابق القيادة العسكرية الأمريكية بأنهم «جنرالاته»، كما يلفت مارك بيري، في مستهل تحليلٍ، نشرته مجلة «فورين بوليسي»، إلى أن هذا الوصف كان يمكن أن يزعج الجيش، لولا قرار ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي بنحو 100 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات. 

عززت فورة الإنفاق، التي تضمنت زيادة رواتب أصحاب الزي العسكري، مكانة ترامب في وزارة الدفاع وفي الميدان (في أوساط المسؤولين والجنود)، ومنحته دعم الكثيرين في الجيش، حتى في أوساط أعلى الرتب وأكثرها تشككًا، لدرجة الاحتفاء بسخريته المرتجلة من التقدميين. 

دولي

منذ سنتين
هل نجح ترامب في تغيير عقيدة الجيش الأمريكي خلال سنوات ولايته؟

لكن هذه العلاقة الطيبة بين ترامب والجيش لم تدم طويلًا. ويُرجِع الكاتب ذلك إلى أسلوب ترامب التقريعيِّ الساخر، على غرار قوله خلال أول اجتماع شامل له مع هيئة الأركان المشتركة في يوليو (تموز) 2017: «أنتم جميعًا خاسرون. لم تعودوا تعرفون كيف تحرزون الفوز». 

قوَّض هذا الأسلوب مكانة ترامب بصفته قائدًا أعلى، وبحلول نهاية فترة ولايته، كان الجيش قد سئم منه. يستدل التحليل على ذلك باستطلاعات الرأي التي أجريت في عام 2020، وأظهرت أن بايدن هو المرشح المفضل في أوساط كافة رتب الجيش، في مقابل تراجعٍ مذهل في دعم ترامب بين تلك المجموعة التي صوتت له بأغلبية ساحقة قبل أربع سنوات. 

يؤكد اللواء المتقاعد في الجيش الأمريكي، بول إيتون، هذا التحوُّل، وإنْ رفض ذكر ترامب بالاسم، قائلًا: «لقد صُدِمت حقًّا بعدد زملائي السابقين الذين صوتوا للرئيس السابق، ودعموه علانية. لكن عندما انقلب ترامب على الجيش، انقلب عليه الجيش». 

هذه التجربة التي خاضتها الولايات المتحدة في عهد ترامب، جعلت صورة الرئيس الجديد، جو بايدن، حتى داخل الجيش، لا ترتبط إلى حد كبير بهويته الشخصية، ولكن بمدى اختلافه عن سلفه. والفرق بين بايدن وترامب، لا يكمن في أن بايدن يُحجم عن مواجهة الجيش، بل على العكس تمامًا. فعلى مدى عقود، اتسمت تعاملاته مع الضباط بالإصرار على إظهار عدم خشيته منهم. بيدَ أن سلوك الرئيس الجديد يصطبغ بأساليب واشنطن، وليس بعروض تلفزيون الواقع. وحتى قبل أن تتاح لبايدن أي فرصة لاستخدام صلاحياته في إبرام الصفقات في الخارج، كان يستخدم بالفعل مجموعة كاملة من مهاراته الدبلوماسية في التعامل مع البنتاجون.

من هو بايدن؟ لا تزال الإجابة لغزًا للجيش الأمريكي

لا يزال بايدن لغزًا إلى حد كبير بالنسبة للجيش، وهناك سبب وجيه لذلك يوضحه الكاتب قائلًا: بينما خدم بايدن لمدة 36 عامًا في مجلس الشيوخ، كان احتكاكه بالرتب العليا في الجيش عَرَضيًّا. يؤكد ذلك جوردون آدامز، المسؤول السابق في البيت الأبيض للشؤون الدبلوماسية والمساعدات الخارجية والدفاع والاستخبارات قائلًا: «علينا تذكر أن بايدن ترأس لجنتي القضاء، والعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. هذا لا يعني أن بايدن لم يكن يعرف القادة العسكريين أو يتحدث معهم، بل فعل ذلك بالتأكيد، لكن اتصالاته الأساسية كانت مع الدبلوماسيين، وليس الجنرالات».

Embed from Getty Images

وأضاف آدامز، زميل مركز ستيمسون بواشنطن، أن أحد الأمور التي يعرفها الجيش عن بايدن هو أنه «يعرف وزارة الخارجية، ومعرفته بها جيدة. شكلت هذه الخبرة وجهات نظره. فهو لا يرى السياسة العسكرية على أنها سياسة خارجية». وفي السنوات التي قضاها في رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، من عام 2001 إلى عام 2003، ومرة ​​أخرى من عام 2007 إلى عام 2009، رأى بايدن عن كثب إلى أي مدى يمكن تحريف مسار الأولويات الدبلوماسية بسهولة من خلال جداول الأعمال التي وضعها الجيش.

عندما بدأ الرئيس، جورج دبليو بوش، الضغط من أجل شن هجوم عسكري ضد العراق في عام 2002، صاغ بايدن مشروع قرار حظي بموافقة الحزبين، يؤكد أن الدبلوماسية مقدمة على القوة العسكرية. لكن مشروع القرار الذي صاغه بايدن، أُزِيح عن الطاولة مدفوعًا بتعهد وزير الخارجية آنذاك (والرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة)، كولن باول، بأن مسيرة أمريكا إلى الحرب لن تكون سباق عدوٍ سريع، ووعد بوش بأنه سيعطي الأولوية للدبلوماسية قبل القوة، وتطمينات القادة العسكريين بأن حرب العراق كانت آخر شيء يريدونه. 

قال كل من باول وبوش والجيش: إنهم يتفقون مع بايدن في تفضيل ما وصفه أنطوني بلينكين، كبير مساعدي بايدن للسياسة الخارجية في ذلك الوقت، بـ«الدبلوماسية الصارمة». وكان أن صدقهم بايدن، بل صوَّت لصالح منح بوش سلطات حرب واسعة، وهو الموقف الذي يحاول تبريره منذ ذلك الحين. ثم حاول بايدن تصحيح موقفه في عام 2007، بعدما تبين أن حرب العراق أصبحت بالفعل مستنقعًا؛ فعارض زيادة إدارة بوش عدد القوات لإنقاذ الموقف العسكري الأمريكي، واقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول: كردية وسنية وشيعية، ودعم نوري المالكي رئيسًا للحكومة العراقية.

لكن معارضة بايدن لزيادة القوات أثبتت خطأها عندما ساعدت القوات الإضافية في استقرار العراق – بحسب التحليل – ووصم ضباط الجيش اقتراحه بتقسيم العراق بأنه ساذج، ولا يستند إلى معلومات مستنيرة، وبدا دعمه للمالكي يفتقر إلى الحكمة عندما أدت سياسات الزعيم العراقي المناهضة للسُّنة إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية. هذه الأخطاء جعلت وزير الدفاع الأمريكي السابق، روبرت جيتس، يوجه نقدًا قاسيًا وعلنيًّا لسجل بايدن؛ إذ كتب في مذكراته عام 2014، حاكيًا عن الفترة التي قضاها في الحكومة: «أعتقد أنه (يعني بايدن) كان مخطئًا في كل قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الرئيسة تقريبًا على مدار العقود الأربع الماضية». 

Embed from Getty Images

بالنظر إلى سجل بايدن، يجد الكاتب صعوبة في الاختلاف مع استنتاج جيتس. لكنه يستدرك موضحًا: في كل الحالات تقريبًا، كان بايدن يفضل الدبلوماسية على التدخل العسكري، ليس هذا فحسب، بل جادل أيضًا بلا كلل من أجل زيادة تمويل وزارة الخارجية، وإن لم يكبح ذلك كثيرًا ميلُ الولايات المتحدة لاستخدام الجيش في الاستجابة لتحديات السياسة الخارجية.

يرى الكاتب أن انخراط بايدن في السياسة الانتخابية حرَّره من الاعتماد على سخاء الجيش أو التهيب من سطوته. وليس من المفاجئ إذًا أن بايدن بدأ فترة ولايته نائبًا للرئيس باراك أوباما – بعد 36 عامًا قضاها في مجلس الشيوخ، وخطوتين خالفهما التوفيق بشأن العراق – بتشكيك عميق بشأن ما قاله الجيش أن بمقدوره أن يفعله. 

قد يساعد ذلك في تفسير خلافه الحاد مع قرار التدخل العسكري في ليبيا في مارس (آذار) 2011، وخلافه البارز مع قرار شن الغارة التي قتلت أسامة بن لادن في مايو (أيار) من ذلك العام، ودعمه القوي لسحب جميع القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية عام 2011. كما أنه يساعد في تفسير سبب تبني كبار الضباط العسكريين موقف الانتظار والترقب بشأن ما سيفعله كرئيس، حتى عندما أبلى بايدن بلاءً حسنًا في استطلاعات الرأي التي أجريت في أوساط الجيش خلال الانتخابات الرئاسية.

نهج بايدن الدبلوماسي في التعامل مع الجيش

يرى الكاتب أن صراعات بايدن الشخصية مع ضباط الجيش حين كان نائبًا للرئيس، تسلط الضوء على نهجه الدبلوماسي في التعامل مع البنتاجون. كان القاسم المشترك في تلك المواجهات هو الطريقة التي أصر بها بايدن على التمسك بموقفه، بينما رفض أيضًا اللجوء إلى تكتيكات الأرض المحروقة. 

يستشهد الكاتب بما يعتبره الصراع الأكثر شيوعًا في صيف وخريف عام 2009، عندما اشتبك بايدن مع الجيش أثناء مراجعة إدارة أوباما لسياسة الولايات المتحدة بشأن أفغانستان، حين وصل الصراع مع طالبان إلى نقطة تحول. خلال تسعة اجتماعات مكثفة، بدأت في سبتمبر (أيلول) 2009، شكك بايدن في إستراتيجية مكافحة التمرد، وقدَّم بدائل لها، وحاول تجنيد ضباط عسكريين يوافقونه في وجهة نظره، لكنه خسر. صحيح أن الجيش لم يحصل على كل ما يريده (استقر أوباما على 30 ألف جندي)، أيد الرئيس خطة مكافحة التمرد، رافضًا آراء بايدن. 

دولي

منذ سنتين
«واشنطن بوست»: وزير الدفاع الأمريكي الجديد جنرال متقاعد.. ما خطورة ذلك؟

على الرغم من أن بايدن أبلى بلاء حسنًا في استطلاعات الرأي التي أجريت في أوساط الأفراد العسكريين خلال الانتخابات الأخيرة، فإنه كان يدرك ضرورة تعزيز دعمه في البنتاجون، من بين أولوياته كرئيس. كان هذا أحد الأسباب التي دفعته إلى إلغاء حظر ترامب على انضمام الأفراد المتحولين جنسيًّا إلى الجيش، ثم ترشيحه امرأتين (الجنرال في سلاح الجو جاكلين فان أوفوست، والجنرال في الجيش لورا جي ريتشاردسون). 

على القدر ذاته من الأهمية، أخبر البيت الأبيض الصحافيين بهدوء بأنه على الرغم من ضغوط التقدميين في الحزب الديمقراطي، فإن الرئيس الجديد سيُبقي على ميزانية الدفاع بما يتماشى مع إنفاق البنتاجون لعام 2021، مما يخفف المخاوف من أن بايدن سيخفض الإنفاق العسكري خلال عامه الأول في منصبه.

تراجع ثقة الشعب الأمريكي في الجيش

بيدَ أن بايدن ورث جيشًا أنهكته 20 عامًا من الحرب، ليس هذا فقط، بل وفقًا لاستطلاع رأي أُجرى مؤخرًا، فإنه فقد ثقة الشعب الأمريكي، على النقيض تمامًا من استطلاعات الرأي السابقة التي أظهرت أن الجيش كان من أكثر المؤسسات الموثوقة في الولايات المتحدة. وبينما لا يزال غالبية الأمريكيين (56%) يثقون في الجيش، يلفت التحليل إلى أن هذه النسبة انخفضت من 70% المسجلة في عام 2018، وهو انخفاض غير مسبوق في ثلاث سنوات فقط. 

لقد كان تمرد 6 يناير (كانون الثاني)، الذي أظهر تلكؤ الجيش في وقف العنف في مبنى الكابيتول، أحد أسباب فقدان الثقة هذه. لكن هذا الحادث ليس الوحيد؛ إذ تعرض الجيش لعدد من الفضائح البارزة، من بينها فضيحة تتعلق بضابط في البحرية، متهم بارتكاب جرائم حرب – عفا عنه ترامب – ومشهد رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميلي، الذي يشغل أعلى منصب في القوات المسلحة الأمريكية، وهو يرافق ترامب إلى كنيسة سانت جون خلال احتجاجات «حياة السود مهمة» التي اشتعلت الصيف الماضي. 

Embed from Getty Images

قال الكولونيل المتقاعد بالجيش الأمريكي، أندرو باسيفيتش، خريج ويست بوينت ورئيس معهد كوينسي ومقره واشنطن: «لا أعتقد أن هناك أي شك في أننا نواجه أزمة في العلاقات المدنية-العسكرية، وهذا يقوض الركيزة الوحيدة الأكثر أهمية لديمقراطيتنا كأمة. يجب أن تكون تلك الأزمة أول شيء في أجندة الرئيس الجديد».

لا يزال إيتون، اللواء المتقاعد في الجيش، واثقًا من أن تجربة بايدن، كمشكك مثير للجدل خلال سنوات أوباما، وتعيينه أوستن وزيرًا للدفاع، وتركيزه على الدبلوماسية قبل التدخل العسكري، وذكائه سيساعد في حل المشكلة. يقول إيتون: «الجنود الأذكياء سيتبعون القادة الأذكياء دائمًا. ووجهة النظر السائدة داخل الجيش هي أن بايدن ذكي، بغض النظر عن الآراء المتعلقة بسياساته».

ولا يزال بايدن يخشى – مثلما أعرب عن مخاوفه في عهد أوباما – من أن رئيسًا عديم الخبرة قد يتأثر بعقلية الجيش المفرطة في الثقة. وشكوك بايدن المستمرة، وتساؤلاته الملحة، والإعراب عن قلقه من مزاعم الجيش خلال تلك الحقبة تركَ انطباعًا لا يمحى. حتى إنه قال لمساعديه، عندما كان نائبًا للرئيس، حسبما تشير التقارير: «لا يستطيع الجيش أن يتلاعب معي. لقد كنتُ موجودًا منذ فترة طويلة. ببساطة، كان الجيش وضباطه قادرين على تحدي ترامب؛ لأنه كان يشعر بالرهبة منهم». يعلق الكاتب على ذلك في نهاية تحليله قائلًا: لكن بايدن ليس كذلك.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد