نشرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية مقالًا لروبرت فيسك، صحفي بريطاني شهير ومراسل لمنطقة الشرق الأوسط لدى صحيفة الإندبندنت البريطانية، تحدث فيه عن معركة إدلب القادمة، والوضع القائم في إدلب وما حولها، ويسأل أينَ سيذهب المقاتلون الجهاديون الأجانب بعد انتهاء المعركة؟


من الميدان.. الأرض تستعد

يقول فيسك إنّ الحروب يصعب التنبؤ بها، ويصف المشهد الميداني بأن السهل الشاسع تحت أرض معركة إدلب يُطبخ تحت الشمس البيضاء في صمت، ناهيكَ عن الوحدة العسكرية التابعة لقوات النظام السوري فوقَ قمم جبل الأكراد وأسلحتها التي تُشير إلى الميادين الساخنة والقرى المهجورة التي يسيطر عليها الإسلاميون شرقًا. تقف تحت الأشجار، عند قنوات روافد الأنهار الرطبة أسفلَ النهر قطعانُ أبقار سوداء وبيضاء. يرتاح جنود النظام تحت الشجيرات، قليلًا نحو الطريق الرئيسي. مجموعةٌ من دبابات T-72 مصطّفة، رَسَت نحو الأرض تحت فروع الشجر.

يسأل فيسك نفسه وهو يقود إلى الشمال نحو بلدة جسر الشغور «أهذا هو الأمر؟» حيث أنها لا تزالُ في يد جبهة النصرة، ولكن بعد 10 أميال فقط، فكرةُ أن هذا الريف القديم مع بيوته الحجرية والجرف الأخضر من نهر العاصي سيصيرُ موقعًا للمعركة الأخيرة والنهائية في الحرب السورية، تبدو بشكل غريب غيرَ مناسبة.

هل سيتدفق السوريون من حوض نهر العاصي ليملؤوا محافظة إدلب، الأرض التي كانت خصبةً لوقت طويل لأعداء سوريا؛ مُقاتلو جبهة النصرة والدولة الإسلامية في الشام والعراق، وجهاديّون آخرون رفضوا الاستسلام عندما أخلَوا المدن السورية الكبرى.

خريطة سوريا وتظهر فيها الإشارة لموقع إدلب. (مصدر الخريطة: Google maps).

قبل ساعات من وصول فيسك، أُسقطت بطلقٍ ناري طائرة درون فضيّة اللون بعثَها «الإسلاميّون» فوقَ الخطوط السوريّة. كتبت النُصرة على الجناح: «إذا وصلتكم هذه الرسالة؛ الأسوأ قادم»، مُوقعةً بـ«طارق بن زياد، من الأندلس»، ومعها على الأجنحة ثلاثة صواريخ صغيرة.

صورة الأسد مع بوتين.. أصدقاؤنا الروس!

وبالعودة للحاضر، يسأل فيسك: هل ستكون هذه المعركة حاسمةً للتراجيديا الضخمة للحرب السورية؟ هل ستكون المعركة التي تخشى الأمم المتحدة أن تصيرَ مشهدَ خسارة غير مسبوقة للبشرية؟ المذبحة التي يُحذر منها أردوغان؟ الهجوم المتهور الذي يغمغم عنه ترامب؟ «الضربة» الأخيرة لـ«خراج الإرهاب» التي يتحدث عنها سيرجي لافروف؟

يقولُ فيسك عليكَ أن تكون حذرًا قليلًا وأنت تقود حولَ هذه الطرق والنواحي الضيقة صاعدًا نحو التلال، حيث أسلحة الجنرال سلطان جهاد من قوات الأسد مثبتةٌ خلف الحواجز الأرضية. مؤكدًا أن «الإسلاميين» صوّروا جوانب الجبال عدّة مرات بالدرون (وأيضًا بالطبع الولايات المتحدة بأقمارها الصناعية)، والروسيّون يعرفونها بشكل ممتاز لأنهم حلفاء السوريين. ويذكر فيسك أن هذه الأسلحة ليست للاستعراض، أطلقت النار في الصباح الباكر بعد أن وُجّهت الصواريخ نحو السوريين. ويتساءل فيسك أين كانت فيالق القوات البريّة والمدرعات الضخمة للتقدم الكبير؟

كثيرٌ من القرويين بالقرب خلفَ الخطوط السورية، يجلسون في المقاهي ويرعون المواشي في الحقول ويتجولون لغسل الأسوِجة. أطلقَت كتائب «الإسلاميين» رشقةً من الصواريخ والقذائف نحو الجبهة السورية، بعد ساعات من خروج فيسك من «جورين»، مُتفجرةً في البلدة. الهجوم كان قصيرًا –والثاني في أسبوع- ويفسره فيسك أن القصدُ منه بوضوح «استفزاز» قوات النظام. ولأن المُشتبه بهم المُعتادين؛ المعارضة المسلحة في جسر الشغور، لا يُمكن اعتقالهم، فيمكنهم –فيما يفترض فيسك – أن ينتظروا القذائف المعتادة.

صورة من مكتب الجنرال سلطان جهاد، ويظهرُ في الخلفية علم سوريّ وروسيّ مع صورتين لبشار الأسد، رئيس النظام السوري، وفلاديمير بوتين رئيس روسيا. سلطان جنرالٌ في الجيش السوري النظاميّ والمسؤول عن عملية إدلب. (مصدرُ الصورة).

أوّل ما لاحظه فيسك في مكتب الجنرال سلطان أنه يحملُ لقب «قائد لجنة أمن إدلب»، يقول فيسك رغمَ أننا ما زلنا (فقط) في محافظة حماة وليسَ في محافظة إدلب. –صورتان كبيرتان في ترويسة مكتبه: بشار الأسد وفلاديمير بوتين. وعلمان كبيران سوريّ وروسيّ يُحيطان بالصورة-. قد لا تكون هذه عمليةً روسية- سوريّة مشتركة على الأرض ويضيف فيسك: فلم أرَ سوى سيارة شرطة عسكرية روسيّة واحدة، ولكنها حتمًا ستكون مشتركةً جويًا، إن وقعت.

كانَ الجنرال سلطان ملازم دبّابة في معركة السلطان يعقوب اللبنانية خلال اجتياح 1982 الإسرائيلي، يتحدث الجنرال عن «أصدقائنا الروس»، ويؤكّد عَلى فيسك: «سأكون داخل جسر الشغور في سبع أيامٍ فقط منذ لحظة الصفر».

أخلت قوات النظام المدينة تحت النيران في 2015، يقول فيسك أن جنودًا من النظام أصيبوا من مجموعات النصرة المُقاتلة بجانب نهر العاصي بينما قاتل زملاؤهم للخروج مع أكبر عدد من المدنيين الذين أمكنهم الفرار. قتلت النصرة عوائلًا -يؤكّد فيسك: لا شكّ في وقوع حمام الدم هذا (فعلتها قوات النصرة أثناء تراجع الجيش السوري) ويُدلل على ذلك بمقابلته بنفسه في ذلك الوقت لجرحى ناجين-، ولربما كانَ –خروج الجيش السوري من إدلب- محفزًا لوصول دعم روسيا لنظام الأسد بعد شهور قليلة. ولذا لدى هذه البلدة الصغيرة أسباب للتسوية.

بحسب فيسك فالجنرال سلطان، خدمَ لثلاث سنوات في حوض العاصي. ويزعمُ الجنرال سلطان أن لديه «مُعاونين» في محافظة إدلب يُرسلون له معلومات عن الأسلحة ومُقاتلي المعارضة. ويستعرض هاتفه قائلًا: «أحدهم أرسل لي هذه الصورة». تُظهر الصورة عددًا من الرجال ينصبون بشيء أشبه بمشنقةٌ حديدية كبيرة، فيما يبدو في بلدة معرّة النعمان التي في يد النُصرة رغمَ أنهم قُوتلوا فيها عدّة مرات، وفُجّرت من السوريين والروسيين أيضًا وغُسلت بدم التاريخ. وكما أورد فيسك في مقاله بأن الصليبيين أنفسهم كتبوا في هذه البلدة عن كيفية سفرهم جنوبًا من أنطاليا، إذ أنهم كانوا يتضورون جوعًا واضطروا أن يأكلوا أجساد خصومهم المسلمين الساراسين (العرب المشارقة).

عودة إلى «الآن»

ويؤكد فيسك أن على المرء قول هذا «فلنعد إلى الحاضر» . ويصف فيسك أيضًا أن هناك خريطة مثبتة فوقَ مجموعة من ضباط الجنرال سلطان الذين ينقرون على حواسيبهم السوداء، وخريطة عمليات لكامل شبه جزيرة المعارضة وأراضيها مع بروز نهر العاصي بالتفصيل، وعشرات مواقع سوريّة ومواقع للنصرة مُعلَّمة على خط الجبهة.

«سوريا» ملوّنة بالأحمر، والنصرة وحلفاؤها بالأسود. يتحرك حول هذه الخطوط -شمال غربيّ اللاذقية وجنوب غرب حلب- كبار جنرالات سوريا، بمن فيهم القائد العنيف الذي يعرفه جميع السوريّون بـ«النمر». الجنرال صالح بقدمٍ واحدة، نتيجة تعرضه للغمٍ شرقيّ حلب، والجنرال الذي يُناديه رجاله بالـ«قيصر» بعد معركته مع «داعش» شرقيّ حماة العام الماضي. لا ينحو هؤلاء القادة إلى الهجوم المباشر. تكتيكهم مُثبتُ الجدوى هو استلال القليل من أرضٍ من هنا، ودعم خط مواجهة هناك، وخطف قريتين بعد فرار المعارضة.

يتساءل فيسك في مقاله هل يمكن لمعركة إدلب الكبيرة والأخيرة أن تتحول  إلى شأن سياسيّ أبطأ مما تصوّر سياسيّو –ومُحررو- العالم؟

وقت وفير من المحادثات الروسية التركيّة، والمحادثات الروسية الأمريكيّة. ساعاتٌ طويلة من اجتماعات المصالحة المحليّة بين مُقاتلي المعارضة وجيش النظام بحضور روسيّ، هذا ما حصل مرارًا في حِمص ودمشق ودرعا. في درعا اليوم بالفعل قُرى تحكمها الحكومة اسميًا وتجوبها دوريات غير حكوميّة تخضعُ لها الحكومة السوريّة تحت اتفاقية وقف إطلاق نار مُعقدة.

إلى أين سيعود المُقاتلون؟

وينتقل فيسك إلى سؤال مهمٍ آخر أين سيذهب بعد ذلك كلّ المقاتلين الذين أقسموا أن لن يستسلموا؟ فعندما استسلموا عن معاقلهم في المدن السورية الكبرى نُقلوا بالحافلات إلى «صندوق قمامة الإسلاميين» في إدلب. هنالك دهليز بين إدلب والحدود التركية –وهنالك مواقع عسكرية تركيّة لـ«تخفيف التصعيد» داخل إدلب-، الـ12 موقع بالكاد تبعد 12 ميلًا عن مركز قيادة الجنرال سلطان.

السوريون يمكنهم البقاء ولكن على الأجانب الرحيل، يُصرُّ سلطان –هذا هو المعيار-، ولكن من سيُعيد الأجانب؟ أشكّ أن فلاديمير بوتين، مُحدقًا للأسفل من على حائط مكتب سلطان بعينيه الزرقاوين الشاحبتين الحادّتين، أشك أنه سيرحّب بعودة الشيشانيين إلى الشيشان. ولا تركمانستان سترحب بعودة التركمان، أو أوزباكستان بالأوزبك. ماذا عنهم وعن غيرهم ممن يقررون القتال مُحاطين بمدنيي إدلب؟

عندما نظر فيسك في سهول نهر العاصي كان صحنُ السماء فوق جسر الشغور فارغًا، ولكن قبل ذلك بيوم كان هنالك عدّة غارات جويّة سوريّة. ينقلُ فيسك ما أعلنت عنه المعارضة من مقتل 10 مدنيين، ويقول أنّها نادرًا ما تُعلن عن قتلاها. لكن، هنالك عوائل لجنود الحكومة بينَ عشرات آلاف المدنيين في محافظة إدلب. فرضية الجنرال سلطان أنّ المُقاتلين «الإسلاميين» الأجانب وضعوا أُسَرَهم في جسر الشغور، فعلٌ خطير من المُعارضة إن كان صحيحًا، ويكمل فيسك مقاله مخاطبًا القارئ يمكن أن تُمعن النظر في القرى الرماديّة المقصوفة والفارغة على جانب النصرة وابحث -عبثًا- عن إنسان واحد.

جنديّ نظاميّ يحرسُ مدفع 30 مم روسيًّا، على قمة من قمم جبل الأكراد. (مصدرُ الصورة).

ينقلُ فيسك بعضًا من محادثاته مع الجنرال النظاميّ سلطان، أنه يتحدث بحرية شديدة عن الجنود الذين انسحبوا من الجيش السوري في أيام الحرب الأولى، وعن كم منهم عادوا لمرتباتهم. ويتحدث عن الفقر الذي دفع الرجال لينضموا للمعارضة قائلًا: «لاحقًا، أدركوا بحلول 2015 أنّ قتالهم لم يكن للديمقراطية وحقوق الإنسان. وأصدقاؤنا من روسيا الفدريالية دعمونا بأسلحة مناسبة عندما حاربت سوريا».

ويختتم فيسك مقاله بأن الجنرال سلطان يُوافق على أنّ الجيش السوري دُرّب للقتال في التلال؛ للحرب النهائية في الجولان المحتل إسرائيليًا، لا للحرب النهائية في إدلب المحكومة من النصرة. وإدلب –كما هو ظاهر- على عكس اتجاه الجولان، وهذا ما يوافقُ عليه. وللجولان يومه الذي يفترض أنه سيأتي. وتلك قصة أخرى.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد