«نشأت في ضواحي الطبقة المتوسطة البيضاء في ثمانينيات القرن العشرين، كانت أمريكا تشبه غسيل الدماغ. لقد نشأت معتقدة أن الحصول على المال هدف يجب السعي إلى تحقيقه، وأن الحياة منافسة قاسية. عملت بجد في المدرسة، وحصلت على وظيفة جيدة لأن ذلك ما كان منتظرًا مني. كان هذا مسار السعادة المفترض، إلا أنني اتبعت هذا الطريق، ولم أكن سعيدة».
هكذا استهلت الكاتبة ليز بروفيت لمارشاند مقالها في موقع «هافينجتون بوست»، الذي كتبته تحت عنوان «لماذا غادرت الولايات المتحدة منذ 20 عامًا.. ولماذا لن أعود»، وتروي الكاتبة تجربتها الخاصة في هجرة أمريكا وأسباب هذه الهجرة.
وتقول الكاتبة: «عندما كنت في سن الثالثة والعشرين، كنت أعيش بالفعل سباق الفئران نحو الشركات، وعمل ما يقرب من 60 ساعة في الأسبوع لصالح تكتل الشركات متعدد الجنسيات في العاصمة واشنطن، وشعرت بأنني صغيرة جدًا على هذا النمط من الحياة. وخلال السنتين اللتين قضيتهما هناك، حولتني واشنطن من خريجة علوم سياسية ساذجة تطمح لتغيير نظام سياسي فاشل إلى سيدة عجوز متهاوية».
وتضيف: «جاءت نقطة التحول بينما كنت جالسة في المنزل مساء الأحد، إذ شعرت بإحساس متعاظم بالخوف من احتمال الذهاب إلى العمل في اليوم التالي، وبدأت في وضع استراتيجية من أجل الحصول على إجازة بضعة أيام. عند هذا أدركت أنني تعرضت للخداع».
كنت أؤمن بكل كلمة في الحلم الأمريكي – العمل الجاد، كسب المال، السعادة- لكن الأمر لم يكن كذلك. شيء ما يجب أن يتغير.
وتستطرد الكاتبة: «كان لدي أصدقاء يعملون بجد للتحضير للتقاعد المبكر، وعلى الرغم من أنني لم يكن لدي أي فكرة عما يمكنني القيام به، لم يكن هناك أي طريقة للانتظار كل هذا الوقت للاستمتاع بالحياة.
أحد الخيارات الواضحة التي اقتُرحت عليّ بشكل مستمر -معظمها من الرجال- هو العثور على زوج. قد تكون هذه هي الخطوة المنطقية التالية بالنسبة لمعظم الناس، ولكن بعد أن قرأت دليل The Grown-Up Guide to Run Away From Home لروزان كنور، كنت مقتنعة بأنني في حاجة إلى الابتعاد. سافرت على نطاق واسع في إجازات عائلية طوال طفولتي، وعُدت مؤخرًا من رحلة تتعلق بالعمل في هندوراس. فكرت في تلك التجارب وحلمت برؤية العالم، وتعلم اللغة والانغماس في ثقافات مختلفة.
يبدو أنني بحاجة إلى القيام بشيء جذري للعثور على السعادة التي لم أجدها في (الحلم الأمريكي)، وماذا يمكن أن يكون أكثر راديكالية من ترك بلدي للعيش في بلد آخر؟ لقد كانت لحظة محورية في حياتي. كنت أعلم أني إذا قمت بهذه الفكرة وساءت الأمور فسوف أندم كثيرًا.
بعد أن قرّرت التحدث إلى كل شخص يمكنني البوح له عن حاجتي لمغادرة البلاد، أدركت أنني أعرف الكثير من الناس الذين يعرفون أناسًا فعلوا ما أردت فعله بالضبط. ساعدتني إحدى تلك القصص في اختيار وجهة: إذ قد انتقل صديق أحد أصدقائي إلى جزر فيرجن، وكان يجني مالًا من خلال الغطس مع السائحين أكثر من المال الذي كان يجنيه من عمله المكتبي. كان الأمر كذلك: إذا لم تكن منطقة البحر الكاريبي رمزًا للسعادة، فما الذي سيكون!
لم أتردد في تقديم خطاب استقالتي إلى رئيسي بعد هذه المحادثة، وقللت متعلقاتي إلى حقيبة ظهر فقط: من امتلاك خزانة مليئة بالأزياء إلى (شورتين)، وثلاثة قمصان (تي شيرت) وصندل».
وأوضحت الكاتبة أنها اختارت جوادلوب، وهي منطقة فرنسية في جزر الهند الغربية، وعن السبب تقول: «لأنني أردت العيش في بلد غير ناطقة بالإنجليزية، لكنني أعرف أن الحاجز اللغوي لن يكون كاملًا بسبب تعلُمي اللغة الفرنسية في المدرسة الثانوية».
واستطردت: «وبعد أشهر قليلة من تقديم إخطاري، كنت أنظر من خلال نافذة الطائرة على أشجار النخيل وحقول قصب السكر. لقد كانت التجربة الأكثر تحررًا في حياتي؛ لأنني في النهاية كنت أفعل شيئًا اخترته لنفسي. وأيد أصدقائي وعائلتي قراري في الغالب؛ لأنهم جميعًا ظنوا أنني في حاجة إلى السفر سنة فقط «لأغير من نفسي». لكن سنة في الخارج تحولت إلى 20 عامًا، ولم أعد أبدًا».
لماذا لم أعد للولايات المتحدة؟
وتحكي الكاتبة: «من جوادلوب سافرت إلى جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية قبل أن أستقر في أوروبا. لم يكن الأمر سهلًا على الدوام، ولكنه كان دائمًا مِلكي. في أكثر من مناسبة، سؤلت عن العودة إلى الولايات المتحدة، لكن لماذا لم أقم بتوضيح ذلك إلا من خلال ذكر تغيير المُثُل -الخاصة بي وبالبلد- التي لم تتوافق معي حتى يومنا هذا.
ساعدني العيش في الخارج على اكتشاف أن الحياة ليست سباقًا أو منافسة. أظهر لي الأشخاص الذين التقيت بهم في الخارج كيف أجد المتعة في وجبات الغداء الممتعة والمحادثات الطويلة. في حين كنت أشعر دائمًا أن حياتي في الولايات المتحدة مثل سلم هرمي، والعمل في أعلى الدرجات، شعرت بحياتي في الخارج كأنها دائرة، كان العمل مهمًا، لكن بجانب أهمية الأصدقاء والهوايات والسعادة الشخصية. كان أسلوب حياتي في الخارج طبيعيًّا أكثر، وركز على الاستمتاع باللحظة الراهنة بدلًا من النضال المستمر لتحقيق (النجاح) بوقت غير محدد في المستقبل».
وتقول: «لقد نشأت معتقدة أن الولايات المتحدة أعظم دولة على وجه الأرض، وقرأت في المدرسة أننا أَسسنا رواد بمثل ديمقراطية كبرى، وأننا المحرضون على التغيير، حماة العدالة وقادة العالم الحر. لم يخطر ببالي أبدًا أثناء التباهي بأننا رقم واحد، بأن المرتبة الثانية أفضل حالًا منا. وعندما عشت بالمرتبة الثانية كانت في الواقع أفضل بكثير مما اعتقدته، وشعرت بشعور عميق بالخداع».
لماذا فضلت العيش في أوروبا عن أمريكا؟
وتقول الكاتبة: إن الولايات المتحدة اليوم ليست هي الدولة نفسها التي كانت عليها عندما غادرتها قبل 20 عامًا. «لم أكن أعيش في أمريكا التي تخاف من إرسال أبنائها إلى المدرسة خشية تعرضهم لمذبحة بسبب حصول مراهق على أسلحة».
وأضافت: «عندما عدت خلال زيارة في ربيع عام 2017، شعرت بالرعب عندما علمت أن مدرستي الثانوية في شمال نيويورك قد أصبحت محاطه ببوابات، ولا يُسمح لأي زائرين غير مصرح لهم بالدخول إلى المبنى. ويحتاج الطلاب إلى المرور من خلال أجهزة الكشف عن المعادن للوصول إلى الداخل، ويتم صفهم وكأنهم على وشك الصعود على متن طائرة، وتمتلئ مدرستي الابتدائية السابقة الآن بالكاميرات الأمنية. إنه لأمر محزن للغاية أن يشعر أصدقائي من المدرسين بالقلق من أنهم قد يحتاجون لجلب البنادق إلى غرف الصف للدفاع عن أنفسهم. يبدو الأمر وكأن الوضع قد خرج عن السيطرة».
وتوضح الكاتبة: «العيش في أوروبا قد أتاح لي ترفًا لم أظن أنه سيكون مهمًا: التحكم في السلاح. لا يوجد شيء أفضل من معرفة أن لا أحد أعرفه يملك بندقية. في جنوب فرنسا، حيث أعيش، من المستحيل الدخول إلى متجر، وشراء بندقية وذخيرة، والرحيل ببساطة في اليوم نفسه. علاوة على كل ذلك، فإن الأسلحة العسكرية التي يمكنك شراءها في أي مكان بالولايات المتحدة تعتبر غير قانونية بالنسبة للمواطنين العاديين».
وأضافت: «بالطبع التحكم بالأسلحة ليست الفائدة الوحيدة التي أستمتع بها في أوروبا. أنا بالتأكيد أستطيع أن أقول المزيد عن التوازن بين العمل والحياة التي يوفرها أسبوع العمل الذي يبلغ 35 ساعة، والأسابيع الخمسة من الإجازة المدفوعة التي أستمتع بها كل عام، وإعانات البطالة التي سأحصل عليها لمدة عامين في حال فقدان وظيفتي، وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية المجانية، وإجازة الأمومة المدفوعة، ورعاية الأطفال بتكلفة معقولة، والتعليم المجاني من سن ثلاث سنوات إلى الجامعة، أو معاش التقاعد الذي توفره الدولة سوف أتلقاه في سن 65».
واختتمت الكاتبة مقالها قائلة: «العيش في الخارج ليس خيارًا للجميع، وأنا بالتأكيد لا أدعو الناس للهجرة بشكل هائل في مكان آخر. ومع ذلك، ينبغي أن يكون هذا سببًا للتفكير: لماذا يوجه الجميع للبحث عن شيء أفضل لمستقبلهم بدلًا من التمتع بالحاضر؟ لماذا لا ترغب الحكومة الأمريكية في حل المشاكل المتعلقة بالصحة النفسية، والسيطرة على الأسلحة والتعليم؟ متى ستؤدي تلك الأشياء إلى تحسين حياة المواطنين بوضوح؟ كم من الناس يجب أن يموتوا قبل أن يتم عمل شيء؟ لماذا الصحة والرفاه للجميع ليست أولوية وطنية؟
أحب أمريكا لكنني أكره ما أصبحت عليه. أنا حزينة لأنني لا أستطيع مشاركة الحماية والمزايا التي أستمتع بها يوميًّا مع أحبائي الأمريكيين الذين يستحقونها مثلي. لذلك، بينما اخترت ترك الوطن، إذا لم يرغب الآخرون في ذلك، فإنني أحاول الآن تشجيعهم على الكفاح من أجل التغيير».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».