لماذا لا يكون الجميع في إبداع بيكاسو وآينشتاين وقائمة كبار المبدعين الذين عرفهم التاريخ؟ يختلف تعريف الإبداع في كثيرٍ من القواميس، لكنه يتمحور حول القدرة على الخروج بأفكارٍ جديدة ومفيدة. ويُعتبر –مثل الذكاء- سمة يتصف بها الجميع وليس فقط  «العباقرة» والمبدعون الكبار مثل «ستيف جوبز» و«ماري كوري».

«روجر بيتي» باحث ما بعد الدكتوراه في علم الأعصاب المعرفي في جامعة «هارڤرد»   يحاول أن يستكشف السبب وراء اختلاف نسب الإبداع بين شخصٍ وآخر في مقاله المنشور حديثًا على موقع «ذا كونفرزيشن».

ما هو «الإبداع» أصلًا؟

لا يقتصر الأمر على قدرتك على رسمِ لوحةٍ أو تصميم منتج. يحتاج جميعنا إلى التفكير بطريقةٍ إبداعية في حياتنا اليومية، سواء كان ذلك في إعداد وجبة العشاء من بقايا الطعام أو تشكيل زيّ «هالوين» مما تحتويه خزانة ملابسك. تتراوح المهام الإبداعية بين ما يعتبره الباحثون «إبداعًا صغيرًا» -مثل إنشاء موقع ويب أو المجيء بفكرة هدية عيد ميلاد أو تأليف نكتة مضحكة- إلى «الإبداع الكبير» من قبيل كتابة خطاب أو نسج قصيدة أو تصميم تجربة علمية.

بدأ العلماء المختصون في علم الأعصاب والنفس في تحديد عمليات التفكير ومناطق الدماغ المعنيّة بالإنتاج الإبداعي. تقترح الأدلة الحديثة أن الإبداع ينطوي على تفاعلٍ معقد ما بين التفكير المنضبط والعفوي -القدرة المزدوجة على طرح الأفكار عفويًا وتقييمها بصورةٍ متعمّدة لتحديد فعاليتها وجدواها.

Embed from Getty Images

يشمل الإبداع جميع جوانب الحياة، بما في ذلك ابتكار هدية عيد ميلاد أو وجبة عشاء لطيفة

بالرغم من هذا التقدم، ظلّت الإجابة بعيدة المنال: ما الذي يجعل بعض الأشخاص أكثر إبداعًا من أقرانِهم بكثير؟

بهذا الصدد، تأتي دراسةٌ جديدة قام بها الباحث «روجر بيتي» وزملاؤه لتختبر قدرة الشخص على التفكير الإبداعي وتفسير ذلك جزئيًا عبر الربط بين ثلاثِ شبكاتٍ دماغية.

رسم خريطة الدماغ أثناء التفكير الإبداعي

تضمنت الدراسة 163 مشاركًا يكملون اختبارًا كلاسيكيًا للـ«التفكير التبايني» يدعى بـ«مهمة الاستخدامات البديلة»، يتعيّن فيها على الأشخاص التفكير في استخدامات وتطبيقات جديدة وغير معتادة للأشياء. بعد إكمال الاختبار، خضعوا لمسوحات بالرنين المغناطيسي الوظيفي «fMRI» والذي يقيس تدفق الدم إلى أجزاء من الدماغ.

Embed from Getty Images

تقيّم المهمة مدى قدرة الأشخاص على ابتكار استخداماتٍ للشيء تحيد عمّا هو شائع. على سبيل المثال، عرض الباحثون في هذه الدراسة على المشاركين أشياء مختلفة على الشاشة مثل غلاف العلكة أو الجوارب، وطلبوا منهم التوصل لطرق مبتكرة لاستخدامها. بطبيعة الحال كانت بعض الأفكار أكثر إبداعًا من غيرها. بالنسبة للجورب، اقترح أحد المشاركين تدفئة القدمين به –وهو التطبيق الأكثر شيوعًا للجوارب- فيما اقترح مشارك آخر استخدامه بمثابة نظامِ ترشيحٍ للماء.

إذا ظهر أمام شاشتك صورة جوربين، هل تستطيع أن تجد لهم تطبيقا وظيفيّا غير تدفئة القدمين؟ وكم استخدام يمكن أن تفكر به لشيء بسيط مثل هذا؟

يشير الباحثون إلى نقطة مهمة، إذ وجدوا أن الأشخاص ذوي الأداء الأفضل في هذه المهمة يغلب أن يكون لديهم هوايات ومنجزات إبداعية أكثر في حيواتهم وفقًا لما أبلغوا به الباحثين، وهو أمر يتفق مع الدراسات السابقة في أن المهمة تقيس قدرة التفكير الإبداعي العام.

بعد إنجاز المشاركين مهام التفكير الإبداعي تلك تحت التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، قاس الباحثون التواصل الوظيفي بين جميع مناطق الدماغ -أي مدى ارتباط النشاط في منطقة دماغية ما بالنشاط في منطقة أخرى. صنّف الباحثون الأفكار أيضًا وفقًا للأصالة: سجلت الاستخدامات الشائعة درجاتٍ أقل، فيما أعطيت درجات أعلى للاستخدامات غير الاعتيادية مثل استخدام الجوارب في ترشيح الماء.

لاحقًا، ربط الباحثون درجة إبداع كل شخص مع جميع وصلات الدماغ الممكنة (حوالي 35 ألفا)، مع إهمال جميع الوصلات غير المرتبطة بدرجات الإبداع وفقًا لتحليلِ الباحثين. شكّلت الوصلات المتبقية شبكة «الإبداع العالي»، وهي مجموعة من الوصلات المرتبطة للغاية بتوليد الأفكار الأصيلة.

صورة أرفقها الباحث والكاتب «بيتي» توضّح فصوص المخ المرتبطة بشبكة الإبداع العالي

بعد تحديد الشبكة، أراد الباحثون معرفة ما إذا كان الشخص الذي يمتلك وصلاتٍ أقوى في شبكة الإبداع العالي تلك سيسجّل نتائج مميزة في المهام. قاس الباحثون قوة الوصلات لدى كل شخص، ومن ثم اختبروا بالنمذجة المبدئية إمكانية تقدير درجة إبداع الأشخاص.

فنون

منذ 5 سنوات
الدماغ يرسم نفسه.. كيف اجتمع الفن مع علم الأعصاب ليصنعا لوحات جمالية مُبهرة؟

نتيجة أولية للدراسة

كشفت النماذج عن وجود علاقة كبيرة بين درجات الإبداع المتوقعة والملاحظة. بعبارةٍ أخرى، يمكن تقدير مدى الإبداع في تفكير الشخص بناءً على قوة وصلاته في هذه الشبكة.

اختبر الباحثون أيضًا إمكانية التنبؤ بالقدرة الإبداعية عند ثلاث عيّنات جديدة من مشاركين لم تُستخدم بيانات دماغهم في بناء نموذج الشبكة السابق ذكرها. تبين أن ذلك ممكن ولو بشكلٍ متواضع، يمكن التنبؤ بقدرة الشخص الإبداعية من قوة وصلاتِه في هذه الشبكة.

بصفة عامة، يبتكر الأشخاص ذوو الوصلات الأقوى أفكارًا أفضل.

ما الذي يحدث في شبكة الإبداع العالي؟

يوضح «روجر بيتي» ما اكتشفه وزملاؤه في هذه الدراسة، إذ تنتمي مناطق الدماغ داخل شبكة الإبداع العالي إلى ثلاثة أنظمة دماغية معينة: الشبكات الافتراضية والبارزة والتنفيذية.

الشبكة الافتراضية هي مجموعة من مناطق الدماغ التي تنشط عندما ينخرط الناس في التفكير العفوي، مثل حالات شرود الذهن وأحلام اليقظة والتخيل. قد تؤدي هذه الشبكة دورًا رئيسيًا في توليد الأفكار أو العصف الذهني-وبشكلٍ خاص في التفكير في حلولٍ متعددة ممكنة للمشكلة الواحدة.

شبكة السيطرة التنفيذية هي مجموعة من المناطق التي تنشط أثناء التركيز وحين يحتاج الناس إلى التحكم في عمليات التفكير لديهم. قد تؤدي هذه الشبكة دورًا رئيسيًا في تقييم الفكرة أو تحديد فعالية الأفكار المنتجة أثناء العصف الذهني وتعديلها لتلائم الهدف الإبداعي.

الشبكة البارزة هي مجموعة من المناطق التي تعمل بمثابة آلية تبديل بين الشبكتين الافتراضية والتنفيذية. قد تؤدي هذه الشبكة دورًا رئيسيًا في التناوب ما بين توليد الأفكار وتقييمها.

يُلاحظ ميزة مثيرة للاهتمام في هذه الشبكات الثلاث، فهي لا تنشط في الوقت نفسه. على سبيل المثال، تُعطّل الشبكة الافتراضية عادةً عندما تنشط الشبكة التنفيذية. تشير نتائج الدراسة إلى أن الأشخاص المبدعين لديهم قدرة أكبر على تنشيط مناطق الدماغ بشكلٍ تشاركي وإن كانت تعمل عادةً بشكلٍ منفصل.

يعمل الدماغ بطريقة مختلفة عند الأشخاص الأكثر إبداعًا، إذ تنشط مناطق من الدماغ بشكلٍ تشاركي رغم أنها تعمل عادةً بشكلٍ منفصل.

إذن بم يتميّز المبدعون؟

تدل النتائج على أن الدماغ المبدع «مترابط» بشكلٍ مختلف وأن الأشخاص المبدعين قادرون أكثر على إشراك أنظمةٍ دماغية لا تعمل سويةً في العادة. من المثير للاهتمام أيضًا اتّساق نتائج الدراسة مع دراسات الرنين المغناطيسي الوظيفي الأخيرة للفنانين المحترفين، يشمل ذلك موسيقي الجاز مرتجلي الألحان، والشعراء المبتكرين للقصائد الجديدة، والفنانين البصريين الذين يرسمون أفكارًا إبداعية لأغلفة الكتب.

يعتبر «روجر بيتي» أن هنالك حاجة إلى بحوث مستقبلية تحدد مدى «لدونة» هذه الشبكات، وهل هي طيّعة للتشكيل والتغيّر أم ثابتة نسبيًا. فهل تنفع دروس الرسم مثلًا في إنشاء وصلاتٍ أكبر داخل شبكات الدماغ تلك؟ وهل يمكن تعزيز التفكير الإبداعي العام من خلال تعديل وصلات الشبكة؟

في الوقت الراهن، تظل هذه الأسئلة وغيرها دون إجابة. ينبغي على الباحثين إشراك شبكاتهم الإبداعية الخاصة لمعرفة الطريق للإجابة عنها.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد