دائمًا ما تنشغل المرأة بالأعمال المنزلية وتربية الأطفال والاهتمام بالزوج، ولا تلتفت لنفسها، أو لا تجد وقتًا تستطيع فيه إنجاز شيءٍ لنفسها. ودائمًا ما نجد معظم المفكرين والعباقرة والفنانين من الرجال، وذلك لأن النساء يعملن على راحة الرجال دون راحتهن.
في هذا الصدد تكتب بريجيد شولت، الصحافية في صحيفة «الجارديان» البريطانية، مقالًا تناقش فيه أمثلة لنساء وهبن حياتهن لرجالهن، محاولةً شحذ الهمم والأفكار، لجعل العالم مكانًا أكثر مساعدةً للنساء في المستقبل.
كتبت بريجيد أنها منذ بضعة أشهر، كانت تجاهد لاستقطاع بعض الوقت في أيامها المزدحمة للكتابة. فاقترح عليها أحد الزملاء أن تقرأ كتابًا حول الطقوس اليومية للفنانين العظماء، لكن لم يقدم الكتاب لها الإلهام الذي كانت تأمله.
لم يكن أكثر ما أثار دهشتها حول هؤلاء العباقرة المبدعين -وغالبيتهم من الرجال- هو جداولهم أو أعمالهم اليومية؛ بل النساء في حياتهم. إذ حمتهم زوجاتهم من التشتت، فتُحضر لهم مدبرات المنزل والخادمات وجبات الإفطار والقهوة في أوقاتها، وتعتني المربيات بأطفالهم حتى لا يزعجونهم.
وضربت بريجيد بعض الأمثلة عبر التاريخ، إذ لم تكن مارثا فرويد تعد ملابس سيجموند كل يوم فقط، بل كانت تضع معجون الأسنان على فرشاته أيضًا. ولم تكن سيليست مدبرة منزل مارسيل بروست تحضر له قهوته اليومية والكرواسون والصحف والبريد على صينية فضية فحسب، بل كانت دائمًا حاضرة متى أراد الثرثرة لساعات.
لا تُذكر بعض النساء إلا في الشدائد، مثل زوجة كارل ماركس -لم يذكر اسمها في الكتاب- التي عاشت مع ثلاثة من أطفالها الستة الباقين على قيد الحياة، أثناء قضاء أيامه يكتب في المتحف البريطاني.
وضربت بريجيد مثالًا آخر بغوستاف ماهلر، الذي تزوج من مؤلفة موسيقى شابة واعدة تُدعى آلما، ثم منعها من التأليف مدعيًا أنه يجب أن يكون هناك مؤلف واحد في العائلة. وعلاوةً على ذلك، كان متوقعًا منها أن تُبقي المنزل هادئًا تمامًا لأجله. وبعد سباحته في الظهيرة، يشير إلى آلما لتشاركه سيرًا صامتًا لوقت طويل أثناء تأليفه الصامت في رأسه. وكانت تجلس لساعات على غصن شجرة أو على العشب، لا تجرؤ على إزعاجه. واقتبست الكاتبة ما كتبته آلما في مذكراتها: «كان هناك ذلك الصراع بداخلي، شوق بائس لشخص يفكر في، ويساعدني في العثور على ذاتي، ثم سقطت إلى مستوى مدبرة المنزل».
سيجموند ومارثا فرويد
معضلة الفنانات
وبعكس الفنانين الذكور، الذين يعيشون كما لو أن الوقت غير المقيد حقٌّ مكتسب لهم، أكّدت بريجيد أن أيام ومسارات الحياة لعدد من الفنانات اللواتي ذُكرن في الكتاب كانت مقيدةً غالبًا بالانتظار وواجبات منزلية ومسؤولية. إذ عملت جورج ساند دائمًا في وقتٍ متأخر من الليل، وهي عادة بدأت أثناء مراهقتها وحاجتها لرعاية جدتها. ومنذ البداية، حُددت ساعات الكتابة لفرانسين بروز لتتماشى مع مواعيد رحيل أطفالها وعودتهم بحافلة المدرسة. وكتبت أليس مونرو كتابها «الشظايا» في الوقت الذي كانت تجده بين التدبير المنزلي وتربية الأطفال. وحرّرت مايا أنجيلو نفسها من سجن المنزل بتركه، واستأجرت غرفة بسيطة في فندق للتفكير والقراءة والكتابة.
وأشارت بريجيد إلى أنتوني ترولوب، الذي عُرف بكتابته ألفي كلمة قبل الثامنة صباحًا كل يوم، واكتسب هذه العادة على الأغلب من والدته، التي بدأت الكتابة عن عمر 53 عامًا لتساعد زوجها المريض وأطفالها الستة، فكانت تستيقظ في الرابعة صباحًا وتنهي عملها في الثامنة لتحضير الإفطار العائلي.
وأوردت بريجيد أنها حين تنظر إلى كل الكتب واللوحات والموسيقى والاكتشافات العلمية والفلسفة التي تعلمتها من المدرسة، كانت تجد جميعها تقريبًا من صُنع الرجال. واقتبست ما قاله المايسترو زوبين مهتا ذات مرة: «لا أعتقد بوجوب وجود نساء في الأوركسترا»، كما لو أنه ليس لديهم مزاج أو موهبة، لكنها ترى أن التجارب المحايدة وضعت حدًّا لهذه الفكرة.
وعادت بريجيد بالذاكرة إلى مقابلةٍ أجرتها باتي سيالفا حول مدى صعوبة تأليفها للموسيقى في ألبومها المنفرد؛ لأن أطفالها استمروا في مقاطعتها ومطالبتها بقضاء الوقت معهم، بطريقة لم يسبق لوالدهم بروس سبرينغستين فعلها. مما صدم بريجيد، إذ إن الأمر ليس أن النساء لم تكن لديهن الموهبة اللازمة لإثبات وجودهن في عالم الأفكار والفن، بل لم يكن لديهن الوقت.
وتعتقد بريجيد أن أوقات النساء قوطعت وجُزِّأت على مر التاريخ، وكانت إيقاعات أيامهن مقيدة بالمهام المستعصية من الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال وصلات الرحم، مما يحافظ على الروابط الأسرية والاجتماعية قوية. وأشارت إلى أنه إذا كان ما يتطلبه الأمر هو امتدادات طويلة من الوقت المتواصل والمركّز، أي الوقت الذي تستطيع اختيار ما تفعله فيه كما تشاء، والتحكم فيه، فهذا شيءٌ لم تكن لدى النساء رفاهية الحصول عليه من قبل -على الأقل دون مواجهة انتقادٍ غير اللائق يتَّهمهن بالأنانية.
وأكّدت بريجيد أنه حتى اليوم في جميع أنحاء العالم، ومع وجود عدد كبير من النساء في القوى العاملة مدفوعة الأجر، ما تزال النساء يقضين ضعف الوقت الذي يقضيه الرجال في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، وأكثر بكثير أحيانًا. إذ أشارت إلى دراسةٍ شملت 32 عائلة في لوس أنجلوس، ووجدت أن وقت الفراغ دون مقاطعات لغالبية الأمهات لا يستمر في المتوسط أكثر من 10 دقائق على الأقل.
باتي سيالفا وزوجها بروس سبرينغستين
وعند تخطيط الحياة اليومية للأكاديميين، وجدت عالمة الاجتماع جويا ميسرا وزملاؤها أن أيام عمل الأساتذة الإناث كانت أطول بكثير من زملائهن الذكور، بالأخذ في الاعتبار جميع الأعمال غير مدفوعة الأجر في المنزل. ومع ذلك، وجدت أن الرجال والنساء الذين شملتهم الدراسة، قضوا الوقت نفسه تقريبًا في عملهم مدفوع الأجر. لكن وقت النساء في العمل أيضًا متقطع ومجزأ ومليء بالمزيد من أعمال الخدمة، والتوجيه، والتدريس.
كما أكّدت بريجيد أن الرجال يقضون معظم أيام عملهم في فترات طويلة من الوقت، دون انقطاع للتفكير أو البحث والكتابة والإبداع والنشر، لصنع أسمائهم، والتقدم في حياتهم المهنية، وإيصال أفكارهم إلى العالم.
وأوردت بريجيد أيضًا ما كتبه ثورستين فبلن، في كتابه «نظرية الطبقة المترفة Theory of the Leisure Class»، حول أن أولئك الذين لديهم قدرة على الاختيار والتحكم في وقتهم كانوا على مر التاريخ رجالًا رفيعي المستوى. وفصَل النساء في الصفحة الثانية، وكتب أنهن -إلى جانب الخدم والعبيد- كن مسؤولات دائمًا عن العمل الكادح الذي يمكّن هؤلاء الرجال رفيعي المستوى من التفكير في أفكارهم العظيمة.
وأضافت أن باحثين نسويين جادلوا بأن النساء غالبًا ما تكون لديهن «راحةٌ خفية» ممتعة، لكنها مثمرة ومقبولة اجتماعيًا، مثل: خياطة اللحف، والحفلات، ومجموعات القراءة. ومع ذلك، فإن الراحة الخالصة وتخصيص الوقت للنفس، لا يقل جرأةً عن المقاومة الراديكالية والتخريبية. إذ يسهل على أحد الباحثين المزاح قائلًا: إذا كنتِ مثل الكاتب أو الملحن أو الفيلسوف أو الصوفي هيلدغارد من بينجن، فستصبحين راهبة.
وذكرت أن الباحثين النسويين وجدوا أن العديد من النساء لا يشعرن باستحقاقهن لأوقات طويلة لأنفسهن مثل الرجال، بل يشعرن بأنهن بحاجة لكسب الوقت، والطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي الوصول إلى نهاية قائمة المهام، والتي لا تنتهي أبدًا. واستشهدت بريجيد بما كتبته ميليندا جيتس في كتابها الجديد حول أن الأعمال اليومية تقتل أحلام العمر.
وأكدت هذا بأنها حاولت في الواقع استقطاع وقتٍ للتفكير وكتابة هذا المقال لأكثر من أربعة أشهر، وفي كل مرة تجلس فيها للبدء كانت تتلقى مكالمة مفزعة، أو بريدًا إلكترونيًّا من زوجها أو ابنها أو ابنتها، حول أن أمها تتعامل مع الغرباء، أو الأوراق اللامتناهية للأرملة الجديدة، أو بطاقة ائتمان شركة، أو ميكانيكي لبعض حالات الطوارئ، أو غيرها من الأمور التي تتطلب منها انتباهًا فوريًّا لمنع كارثة محتملة.
وتتذكر بريجيد إجراء مقابلة مع ميهالي كسيسنتميهالي، عالم النفس المشهور بتعريف حالة التدفق -وهي أقصى تجربة إنسانية حين يكون الشخص منغمسًا في مهمة هادفة ليختفي الوقت عمليًّا بالنسبة له- وهي الحالة التي يقول الفنانون والمفكرون إنها ضرورية لابتكار أي شيء ذي قيمة. وحين سَألته عما إذا كان بحثه يدرس ما إذا كانت لدى النساء فرصة كبيرة للانخراط في التدفق كالرجال، تقول إنه فكر للحظة ثم حكى لها قصةً عن امرأةٍ أضاعت وقتها في كي قمصان زوجها.
ميليندا جيتس وزوجها بيل جيتس
قصصٌ لم تُرو
ضربت بريجيد مثالًا آخر بالشاعرة إليانور روس تايلور، التي عاشت حياتها في ظل زوجها البروفيسور بيتر تايلور، الروائي الحائز جائزة بوليتزر وكاتب القصص القصيرة. فأشارت إلى ما قالته إليانور في مقابلةٍ عام 1997: «على مر السنين، وفي أوقات عديدة أقول للأشعار في رأسي (اذهبي، ليس لدي وقت الآن)، لكن هذا كان جزءًا من الكسل، إذا كنت تريد الكتابة حقًّا، فيمكنك ذلك. أنا أبقي البيت نظيفًا والشموع مضاءة، وهذا جزء من الأمر».
وأوضحت بريجيد أنها تشعر بالأسف حين تفكر في القصائد العظيمة التي لم تُكتَب لمنح الأولوية لتلميع الأرضيات. إذ اعتقدت لوقت طويل أن العناية بالآخرين، وتولي تنظيف الأرضيات، وكون المرأة هي المسؤولة عن الاهتمام بتلك الأمور، هو ما أبقى هذه القصص التي لم تُحك حبيسةً بداخلها لدرجة الألم، على حد تعبير مايا أنجيلو.
ولكن بريجيد تساءلت عما إذا كان الأمر يتعلق أيضًا بشعور النساء بعدم استحقاقهن وقتًا لأنفسهن، أو وقتًا يأتي في فترات غير متقطعة. وتساءلت كذلك عما إذا كانت النساء تشعرن أيضًا بعدم أحقيتهن في أن يحكين قصصهن التي لم تُرو، أو أنها لا تستحق الاستماع إليها.
وأضافت بريجيد أن الكاتب فيديادر سوراجبراساد نيبول ادعى أنه لم تكن هناك كاتبةٌ تشبهه، وأن كتابة النساء «عاطفية» للغاية، ونظرتهن للعالم «ضيقة» للغاية. وذلك لأن التجربة الإنسانية مقتصرة على حياة الرجال كما نعلم. وكثيرًا ما طرحت بريجيد التساؤل التالي: هل حظيت المرأة، التي كتبت بعناية روايةً مؤلفة من ستة أجزاء تدور حول حياتها، بالقدر نفسه من الاهتمام والتقدير الدولي الذي حظي به الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد مؤلف كتاب «كفاحي.. الكتاب الأول: موت في العائلة»؟
وأشارت بريجيد إلى ما تخيلته فيرجينيا وولف ذات يوم، حول ما كان سيكون عليه شكسبير لو ولد في هيئة امرأة، أو كانت لديه أختٌ بذات الموهبة. وأشارت كذلك إلى المعجزة الموسيقية نانرل موزارت، التي أشاد شقيقها وولفجانج بمؤلفاتها الأولى حين وصفها بـ«الجميلة»، لكن تلك المؤلفات فُقِدت أو ظلَّت حبيسة عقلها وغير مكتوبة، لأنها انغمست في زواجٍ بلا حب.
وتطرّقت إلى ما كتبته فيرجينيا أيضًا حول أن أنثى شكسبير لم يكن ليكون لديها وقت أو قدرة لتطوير عبقريتها -إذ مُنعت من المدرسة، وأمرت بالاعتناء بالطعام، وكان متوقعًا منها أن تتزوج صغيرة، وتُضرب إن لم تفعل. وفي حكاية فيرجينيا، جُنّت شقيقة شكسبير -رغم مواهبها العظيمة- أو ماتت، أو تقوقعت داخل كوخٍ من الخشب، وسُخِر منها كأنها ساحرة.
لكن هذه لم تكن نهاية القصة، إذ تخيلت فيرجينيا أنه في المستقبل، ستولد امرأةٌ عبقرية. لكن قدرتها على الازدهار -والقناعة بأن صوتها أو رؤيتها يستحقان الاهتمام- ستكون متوقفة كليًّا على العالم الذي سنقرر خلقه. إذ كتبت فيرجينيا: «ربما سنعثر على تلك لو عملنا لأجلها الآن».
فيرجينيا وولف
حلم بريجيد
أوضحت بريجيد أنها لا تدعي أن لديها عبقريةً معينة، لكنها تحلم أحيانًا أنها جالسةٌ في غرفةٍ معتمة على طاولة مطبخ مقابل نسخةٍ أخرى منها، لوقت غير محدود، تشرب كوبًا من الشاي بهدوء. فتقول لها النسخة الأخرى من نفسها: «أتمنى أن تتكرري الزيارة».
وتتساءل بريجيد أحيانًا عما إذا كانت تلك الآلام الشديدة في منتصف الليل -التي تُغطي شبكاتها العصبية مثل الضفائر- لا تُصيبها بسبب قلة الوقت المُتاح لتحكي قصصها التي لم تُرو، بل لخشيتها أن يكون ما خفي بداخلها ربما لا يستحق الاهتمام بأي حال. وربما كان هذا هو ما تخشى مواجهته داخل الغرفة المعتمة التي تحلم بها.
واختتمت مقالها بطرح التساؤلات التالية: ماذا لو عملنا من أجل خلق العالم الذي يمكن أن تزدهر فيه أخوات شكسبير وموزارت أو أي امرأة؟ وماذا سيحدث إذا قررت النساء أحقيتهن بوقتٍ للذهاب إلى غرفهن المعتمة والجلوس في صمتٍ على طاولة المطبخ؟ وماذا لو قررت النساء الإكثار من زيارات بعضهن، وشربن فنجانًا من الشاي بهدوءٍ بمفردهن، واستمعن إلى حبكات القصص؟ وتعتقد بريجيد أنها ستُحب أن ترى ما سيحدث حينها.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».