نشرت مجلة «آيون– Aeon» مقالًا لـكارل رودس، أستاذ دراسات المؤسسات، ونائب عميد كلية إدارة الأعمال بجامعة التكنولوجيا في سيدني، حول قوة التضامن، وكيف يمكن للاحتجاجات الجماعية فرض التغيير التدريجي.
استهل رودس مقاله بالإشارة إلى إضراب 20 ألفًا من العاملين في «جوجل» حول العالم، احتجاجًا على فشل الشركة في التصدي للتحرش الجنسي داخل مكان العمل. لكن بعد أقل من عام، غادر معظم قيادات الإضراب الشركة، متهمينها بالانتقام منهم وترهيبهم.
طفت هذه القضية على السطح عندما قالت صحيفة «نيويورك تايمز» في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 إنه بدلًا من معالجة «جوجل» للمشكلات الحقيقية، عندما تورَّط رجال من ذوي المناصب العليا في مزاعم تتعلق بسوء السلوك الجنسي الموثَّق، دفعت لهم بالملايين ليرحلوا عن الشركة بهدوء. أضِف إلى ذلك تُهَم العنصرية وعدم المساواة في الأجور، وإساءة معاملة المُتعاقِدين.
النضال من أجل القضاء على التحرش داخل الشركات
ردّد المُحتجُّون هتافات قالوا فيها «اصمدوا! قاتلوا!»، مُطالبين بـ«القضاء على التحرش في شركات التقنية». وكان ذلك شكلًا جريئًا وواضحًا من أشكال النشاط العمالي الذي لا يرضى بأقل من العدل في مكان العمل.
لم يكن هذا النشاط على مستوى رفيع فقط، لكنّه نجح، إلى حدٍ ما على الأقل. فقد اعتذر قادة «جوجل»، وهو المتوقع. وبشكل عملي أكثر، أنهوا في شهر فبراير (شباط) سياسة تحكيم قسري كانت تعني عدم تمكن العاملين الذين تعرّضوا للتحرش الجنسي من مقاضاة الشركة».
وأوضح المقال أن ما حدث في «جوجل» هو مثال واضح على ما يمكن أن يفعله الناس لتحقيق العدل في العمل؛ فبدلًا من تجاهل الحقائق أو الانغماس في الشكاوى الشخصية، قرر 20 ألف عامل – خمس العاملين بدوام كامل في الشركة – رفع أصواتهم وفعل شيء حيال هذا الأمر.
تحركوا وفق استراتيجية سياسية مُنظَّمة، ذات دوافع أخلاقية؛ من أجل التغيير، كما أنها تُقدِّم مثالًا قيِّمًا على ما يسع الناس فعله لجعل المؤسسات أكثر عدلًا.
ورصد الكاتب خمسة دروس مُستفادة يمكن تعلمها من هذه التحركات:
1. المعارضة الفعالة هي التي تجبر المسؤولين على إحداث تغيير
الدرس الأول: هو أن اتخاذ التدابير لا يذهب سُدى؛ فقد أظهر الناشطون في جوجل أن جعْل مؤسسة ما أكثر عدلًا يتحقق من خلال الكفاح النشط ضد الظلم، وفعل ذلك ليس بالأمر المريح.
ويوضح الكاتب أنه بينما تثمّن العديد من المؤسسات السيطرة الإدارية والإجماع، فإن العدالة تتطلب مكافحة تلك السيطرة من خلال المعارضة، وتتحدى المعارضة، بوصفها استراتيجية للعدالة، هذا النهج الإداري للعلاقات بين العاملين والمديرين.
يضيف رودس أن المسؤولين في السلطة، من ناحية، هم فقط من يستطيعون إحداث التغييرات الحقيقية التي تُحسِّن العدالة في مكان العمل. لكن من ناحية أكثر أهمية، يمكن فقط من خلال المعارضة الفعَّالة إجبارهم على فعل ذلك.
وقد ظل هذا الطريق إلى الإصلاح منذ زمن بعيد هو المسار الموصل لأهم مطالب تحقيق العدل؛ لتأسيس الحد الأدنى للأجور، وإنشاء نظام عمل يومي من ثمانِي ساعات وتشريع خاص بالأجر المتساوي للمرأة، وأكثر من ذلك.
2. العمل الجماعي قوة عالمية
والمعارضة، بالنسبة لكثير من الناس، ليست من الأمور المريحة. ولن يتحرك الناس إلا عندما يصل الشعور بالغضب الأخلاقي إلى نقطة حرجة. وهذا يقودنا إلى الدرس الثاني: وهو أن العدل يأتي من أعمال التضامن المُنسَّقة، سواء مع العاملين الآخرين أو المجتمع بصورة أعم، حسبما يخلص المقال.
أظهر العاملون في «جوجل» أنه على الرغم من أن الإضراب كانت له قيادات محددة، فإنه لقي دعمًا من العاملين في جميع أنحاء العالم.
ومن الناحية التاريخية، وفَّر تنظيم العمل من خلال نقابات عمالية وسيلة للعمل الجماعي. بينما الانخفاض المُطرد في العضوية النقابية داخل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ الستينيات والسبعينيات لا يبشر بالخير من أجل العدالة.
هذا لا يعني أن التضامن قد ولَّى زمانه، فقد أظهر العاملون في «جوجل» أنه على الرغم من أن الإضراب كانت له قيادات محددة، فإنه لقي دعمًا من العاملين في جميع أنحاء العالم؛ إذ شارك العاملون في جوجل من سنغافورة إلى سان فرانسيسكو، ومن طوكيو إلى تورنتو وغيرها مشاركة نشطة في عمل جماعي من أجل العدل.
3. قيمة العدل تتجاوز المصلحة الفردية
الدرس الثالث؛ هو أن تحقيق العدل في العمل يتجاوز السعي إلى تحقيق العدل للمرء نفسه. ومع أنه ليس بالإمكان معرفة عدد المحتجين من جوجل الذين تعرضوا للتحرش الجنسي في العمل، فإنه يمكن بأريحية افتراض أن غالبية أولئك الذين أضربوا قد فعلوا ذلك انطلاقًا من دعمهم لزملائهم في العمل بوصفهم حلفاء لهم.
ويلفت الكاتب إلى أن «تحقيق النزاهة في مكان العمل لا يتعلق بالأفراد الذين يتعرضون لسوء المعاملة، أو الإهانة، أو القسوة فقط؛ فالعدل لا يكون عدلًا لي فقط، بل يشكل قلب المجتمع. وما يستعد المجتمع لقبوله بصورة جماعية بوصفه عادلًا وغير عادل هو ما يحدد طابعه الأخلاقي».
4. الانسحاب تحت وطأة الضغط خذلان للعدل
يتابع المقال: الدرس الرابع؛ هو أنه حتى نُحقق العدل في المؤسسات، يجب أن نتغلب على مفارقة صعبة. ذلك أن النضال من أجل العدل في مكان العمل يحتم على الناس أن يهتموا اهتمامًا كافيًا بمؤسساتهم وزملائهم ليثابروا على محاولة فعل شيء حيال هذا الأمر.
المطلوب من الناس هو أن يهتموا بزملائهم ومؤسساتهم اهتمامًا كافيًا؛ ليشهدوا الصالح الجماعي ويدافعوا عنه.
لكن الظلم غالبًا ما يحدث في عالم المؤسسات العدائي، حيث يشعر الناس بضرورة التنافس بعضهم ضد بعض في لعبة محصلتها صفر للمضي قُدُمًا. في مثل هذه البيئات، عندما يواجه الناس الظلم أو يشهدونه، يمكنهم ببساطة الانسحاب من جميع أشكال الاهتمام والارتباط بالمؤسسة. وعندما يحدث ذلك، يتصدر الحفاظ على الذات على حساب إيلاء الاهتمام لأي شخص آخر.
ويضيف رودس: «عندما يؤدي الظلم إلى الاستخفاف والأنانية، تتقلص السلطة المجتمعية التي يمكن أن تؤدي إلى تغيير إيجابي. والمطلوب من الناس هو أن يهتموا بزملائهم ومؤسساتهم اهتمامًا كافيًا؛ ليشهدوا الصالح الجماعي ويدافعوا عنه، حتى مع احتمالية أن الظلم ذاته قد يغري الناس ليفعلوا العكس».
5. الدفاع عن العدل له مخاطره
الدرس الخامس والأخير؛ هو أن السعي لتحقيق العدل يمكن أن يكون شديد الخطورة ولا ينبغي الاستهانة به. ففي حالة جوجل، نظَّم سبعة أشخاص الإضراب. وبعد مرور أقل من عام، ما يزال ثلاثة منهم فقط يعملون في جوجل.
وقد ادَّعى منظمو الإضراب أنهم تعرضوا لانتقام مباشر من مديريهم، وقسم الموارد البشرية بالشركة. كما أُبلِغ عن تهديدات بتخفيض الرتبة وتغيير الوظيفة. وأوضح عاملون آخرون أنهم كانوا خائفين من الانتقام إذا أبلغوا عن مشكلات في مكان العمل.
الاهتمام بالسياسة ضروري لبناء مجتمع عادل
في الوقت ذاته، حاولت جوجل جاهدة منع تسييس قوتها العاملة، فأصدرت سياسة تنص على أن «عرقلة ساعات العمل بالدخول في جدل محتدم بشأن السياسة، أو أحدث الأخبار، لا يساعد في بناء المجتمع».
وأوضح الكاتب أنهم لا يمكن أن يكونوا أكثر خطأً. فحتى يكون المجتمع القوي عادلًا، فإن الاستعداد للمشاركة في السياسة أمر ضروري. ومما لا ريب فيه أن الناشطين من العاملين في جوجل على دراية بهذا الأمر.
ويتابع الكاتب قائلًا: «فشلت جوجل في إدراك أن الأعمال السياسية لموظفيها كانت تحديدًا بشأن بناء المجتمع. وتعكس الدعوة التعاونية إلى إنشاء مكان عمل عادل رغبة إنسانية أساسية للاهتمام بالآخرين بطريقة داعمة على نحو متبادل. وتعمل استراتيجيات الرقابة الإدارية التي تعوق عمل المعارضة ضد تطور المصالح العامة والقيم المُشترَكة».
وخُلاصة القول، بحسب رودس: إذا كان ما نريده هو مكان عمل عادل، فمن غير المُرجَّح أن يأتي ذلك على أيادي النخبة الإدارية الخيِّرة. بل، غالبًا برغم كل الصعاب، يحتاج الناس إلى الانضمام حلفاء في التضامن ورفع أصواتهم دفاعًا عمَّا هو حق وعدل.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».