تمر الإدارة الأمريكية الحالية بأزمةٍ كبرى تشهد انقسامًا واسعًا بين الرئيس ترامب ومجلس النواب، وهي الخلاف حول تمويل الجدار الحدودي الذي يود ترامب بناءه على الحدود مع المكسيك.
كان هذا الجدار أحد النقاط الأساسية في برنامج ترامب الانتخابي عام 2016، وفي نقاشاته الحالية مع مجلس النواب يتحدث دائمًا عن تأمين الحدود، وأهمية ذلك الجدار في حماية الأمريكيين. لكنَّ باميلا كروسلي، أستاذة التاريخ في كلية دارتموث الأمريكية والمتخصصة في تاريخ إمبراطورية تشينغ والصين المعاصرة، ترى في مقالٍ نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية أنَّ التاريخ لا يقف في صف ترامب، وأنَّ استخدام الجدران لحماية الحدود هو الفكرة الأقدم والأضعف في ترسانة أي دولة، مستشهدةً بتاريخ سور الصين العظيم لدعم رأيها.
تشير باميلا إلى أنَّ أصول سور الصين العظيم تعود إلى شبكةٍ من الأسوار التي بنتها أقاليم الصين القديمة، قبل توحيدها تحت حكم حاكمٍ مركزي عام 221 قبل الميلاد. عُرِفَ هذا الحاكم في التاريخ باسم تشين شي هوانج، وبعدما تولى الحكم، عمل سريعًا على ضم تلك الجدران في شمال الصين إلى بعضها، وزاد من ارتفاعها. أما الحدود الثلاثة الأخرى للصين فكانت محميةً بالبحر والجبال كما نرى الآن.
وتضيف أنَّ الصين كانت تواجه عدوًا في الشمال، وهو قبائل شيونغنو البدوية التي كان بإمكانها حشد ما يصل إلى مئة ألف فارس أو أكثر. وكان السور مفيدًا في إجبار تلك القبائل على الالتفاف حوله أو البحث عن الأجزاء الضعيفة به، ما كان يستنزف مواردها ووقتها وطاقة الرجال والخيول. وكان تسلُّق السور أمرًا خطرًا ومضنيًا بالنسبة للمشاة. وبهذا، حتى وإن لم يكن حصنًا منيعًا، لكنَّه كان عقبةً مهمة في طريق أي غزاةٍ قادمين من الشمال.
وبحسب باميلا، كان الاستخدام الأهم للسور هو المراقبة وإدارة الجمارك. فالأبراج المرتفعة على السور سمحت بمراقبة المشهد على الجانب الآخر بفاعلية ورصد أي حركةٍ على الجانب الآخر، إذ كان من الممكن نشر عددٍ كبير من قوات المراقبة على الأبراج.
وكغيره من الأبراج، تضمَّن السور بواباتٍ تفصل بينها مسافاتٌ ثابتة، وكانت جميعها عرضةً للحرق والاقتحام على يد الأعداء. وكانت تُفتَح لتسمح بخروج الجيوش الصينية حين يقرر الحاكم غزو جيرانه في منشوريا أو منغوليا. لكنَّ فائدتها الكبرى كانت في كونها محطاتٍ للجمارك. فالصين كانت تتبادل التجارة مع جيرانها وعددٍ كبيرٍ من الدول البعيدة عنها معظم سنوات تاريخها، إلى جانب أنَّها كانت تسعى دومًا لتنظيم التجارة ومنع التهريب. وامتلاكها لعدة بوابات يفصل بينها سور مرتفع كان وسيلةً جيدة لفعل ذلك. إذ كان التجار المرهقون حين يصلون إلى السور بجمالهم المُحمَّلة يفضلون الدخول عبر البوابات ودفع الضريبة بدلًا من محاولة تسلُّق السور.
لكنَّ القيمة الجوهرية لذلك السور بحسب الكاتبة كانت تتمثل في كونه أداةً سياسية، إذ كان المشروع القومي الأول للإمبراطور الصيني الأول، وكان يرمز إلى نطاق حكمه الواسع. وإجبار العمالة على استكمال بناء السور ليصل إلى الحجم الذي يريده أوضح السلطة القسرية التي يمتلكها. وقبضته المحكمة على دخل الصين وتحكمه في بنود الإنفاق وتسخيرها للسور عزَّز من سيطرته على البيروقراطية والجيش. وتسببت مطالبه بمزيدٍ من الدخل لدعم بناء السور في أن تتوسع الصين بمعدلٍ ثابت.
وكان للسور نفس الأثر حين قرر حاكمٌ صيني العمل على برنامجٍ لإصلاح السور وتعزيزه خلال حكم سلالة مينج، الذي استمر من 1368 إلى 1644، وكان هذا المشروع وقتها هو أكثر مشاريع الصين كلفةً، وأصبح السور بسببه على شكله المعروف الآن. وتوضح باميلا أنَّه منذ عصر سلالة مينج وحتى الآن يُستخدم السور بكافة أشكال الدعاية ليرمز إلى تماسُك الصين في وجه أعدائها الشماليين، والسلطة المهيبة لحكامها، والعظمة العالمية لماضي الصين وحاضرها ومستقبلها.
وبحسب الكاتبة، هكذا استُخدِم السور في القرن الماضي والحالي. إذ أصبح اسمًا لعلامةٍ تجارية تشمل منتجاتٍ متنوعة، من السجائر وأوراق اللعب إلى الحواسيب والسيارات، وذلك ليرمز إلى براعة الصين التقنية والاقتصادية. وأصبح أيضًا الرمز الأفضل للوطنية الصينية، التي يكفي التعبير عنها بإنتاج فيديو للسور بأبراجه وأعلامه على خلفية النشيد الوطني الصيني. وبهذا تحوَّل السور إلى عنصرٍ شديد الأهمية في الفخر والكرامة الصينيين، ما جعل الإحصائيات عنه تمتلئ بالكثير من المبالغات عن طوله. أو كما تقول الكاتبة: «حين يتعلق الأمر برمز السلطة التنفيذية أو الفخر الوطني، لا تصبح للحقائق أي أهمية».
وترى باميلا أنَّه في الوقت الحالي، لم تعد لتلك الأسوار الدفاعية أي قيمة أمنية بعد اختراع الطائرات، ولم تعد هناك حاجة لأبراج المراقبة بسبب الطائرات دون طيار والمراقبة الجوية والنظارات المُكبِّرة. ولهذا كان من الغريب أن يقرر الرئيس الأمريكي ترامب بناء جدارٍ حدودي.
استلهم ترامب فكرة الجدار من الأسلاك الشائكة التي وضعها رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان لمسافة 400 ميل لمنع المهاجرين من الدخول إلى بلده والاتجاه بدلًا من ذلك إلى سلوفينيا. وبحسب الكاتبة، فإنَّ نظرية ترامب هي أنَّ المهاجرين الذين يمشون لمئات الأميال دون ما يكفي من الطعام أو الماء أو الراحة أو الرعاية الطبية سيثبطهم وجود جدارٍ كهذا. لكنَّها ترى أنَّه حتى لو تراجع بعض المهاجرين عن فكرتهم بسبب الجدار، فإنَّ هناك آخرين سيجدون أنَّ مشقة تجاوزه لا تُقارَن بما سيفوزون به في حالة نجاحهم في العبور. وربما يتذكر بعضهم أنَّ الولايات المتحدة لديها ساحلان طويلان في نهايتي هذا الجدار المفترض، وأنَّ المهربين والصيادين وملاك الأراضي سيصنعون فجواتهم الخاصة بطول السور مع الوقت.
الأسلاك الشائكة على حدود المجر
تعتقد باميلا أنَّ ما يهم ترامب في الحقيقة ليس الفائدة الأمنية للجدار. فهو مثل إمبراطور الصين الأول، يستخدم فكرة الجدار أداةً يرمز بها إلى سلطته القسرية وقبضته المحكمة على الدخل والإنفاق، ويتضح هذا من أزمة إغلاق الحكومة إثر رفض مجلس النواب تمويل مشروعه الضخم. وتضيف أنَّه ربما يريده أداةً للتعبير عن الفخر الوطني الأمريكي كما فعلت الصين، ويتخيل نفسه أحيانًا واقفًا يخطب في الشعب في فيديو خلفيته هي الأسلاك الشائكة اللامعة وأبراج المراقبة الضخمة، وأعلاها الأعلام الأمريكية ترفرف على وقع النشيد الوطني الأمريكي.
لكن بحسب الكاتبة، ربما يحمل التاريخ بعض الدروس لترامب في ما يتعلق بهذا الأمر. فالإمبراطور الأول للصين لم يستمر حكمه طويلًا، إذ انتفض الناس بغضب ضد سياساته المالية وإجباره للمواطنين على العمل في بناء السور. أمَّا إمبراطور سلالة مينج الذي عمل على تطوير السور، فبعد موته تنَّكرت الصين لطموحاته تلك، والغضب تجاه مشروعاته التي أرهقت الميزانية دون جدوى سوى الكبرياء والفخر الصينيين، كان شديدًا لدرجة اتهامه بأنَّه كان أداةً في يد المغول، أعداء سلالة مينج اللدودين، وربما عميلًا لهم.
وتضيف باميلا أنَّ الأمريكيين ربما يشعرون مع الوقت أنَّ الهدف من الجدار هو إبقاؤهم هم في الداخل، كما كان يفعل حكام العصور الوسطى لمنع الفلاحين والخدم من الهروب، ليصبح بذلك شبيهًا بجدار برلين، أو الجدار الذي تبنيه إسرائيل لاحتجاز الفلسطينيين. وبحسب الكاتبة، فإنَّ الأسوار المعاصرة ليست جميعها مادية، فهناك أسوار اقتصادية وثقافية ونفسية تحيط بالشعوب. يستنزف سور الصين العظيم اليوم أموال الصين، إذ تنهار منه أجزاءٌ باستمرار، لكنَّ الدولة ترى نفسها مجبرةً على إصلاحه وترميمه كل مرة، إذ يُعتبر رمزًا للفخر الوطني والسياحة في الدولة.
وتخلُص باميلا في النهاية إلى أنَّ النتيجة الحتمية للعيش خلف جدارٍ كهذا هي شيوع ضيق الأفق والارتياب والخوف من الأجانب، فهذا ما كان يحذر منه الرئيس الأسبق ريجان حين طلب من رئيس الوزراء الروسي جورباتشوف هدم جدار برلين. وبينما قد يرضى ترامب بأي بدائل لتأمين الحدود يوافق عليها الكونجرس مرغمًا، إلَّا أنَّه يبدو أنَّه يريد جدارًا كالذي حذَّر منه ريجان. وسيستمر في مساعيه طالما بقي في المنصب ليدفع الأمريكيين لبناء أسوارٍ حول عقولهم.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».