منذ انتخاب الرئيس دونالد ترامب ثارت مخاوف بشأن السيطرة المدنية على الجيش الأمريكي، ومع زيادة عدد الجنرالات المتقاعدين، مثل: جيمس ماتيس، جون كيلي، مايك فلين، ريان زينكي، إتش أر ماكماستر، الذين غازلتهم الإدارة الجديدة، احتدم النقاش حول عافية العلاقات المدنية العسكرية.
فقد «أظهر الرئيس استعدادًا لتفويض سلطات أوسع للجيش، واستخدم القوات المسلحة مرارًا لأغراضه السياسية الخاصة»؛ وهو ما اعتبره مارك ب. نيفيت – الذي خدم لمدة 20 عامًا في البحرية الأمريكية حتى وصل لرتبة قائد – «انتهاكًا للمعايير الأمريكية الديمقراطية الراسخة».
صحيحٌ أن الجنرالات لم يستطيعوا التأقلم مع نهج الرئيس، وسرعان ما قفزوا من السفينة أو رُكلوا من على متنها، لكن سلوك ترامب الذي اعتبره كثيرون نشازًا عن قيم الآباء المؤسسين طرح أسئلة شائكة وأثار مخاوف لم تضع أوزارها بعد.
«لن يُسمح بترشيح عسكري آخر لهذا المنصب».. استثناء ترومان التاريخي
رسَّخ جورج واشنطن مبدأ السيطرة المدنية على الجيش باستقالته من اللجنة العسكرية قبل سنوات من أن يصبح أول رئيس للولايات المتحدة. ثم رفض ترشيح نفسه لفترة ثالثة، واضعًا سياسة عرفية لمدة أقصاها ولايتين رئاسيتين.
الاستثناء القانوني الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة حدث في ظل ظروف استثنائية عندما طلب الرئيس هاري ترومان من الكونجرس السماح للجنرال جورج مارشال، بطل الحرب العالمية الثانية ذي الخمسة نجوم، بقيادة وزارة الدفاع خلال الحرب الكورية.
على الرغم من شعبية مارشال ومؤهلاته، أثار الاقتراح نقاشًا ساخنًا وجلسات استماع. وفي النهاية حين وافق الكونجرس على استثناءٍ لمرة واحدةٍ، أصر على إضافة توضيح إلى القانون ينص على أنه «بعد مغادرة الجنرال مارشال منصب وزير الدفاع، لن يُسمَح مرة أخرى بتعيين أي عسكري آخر في هذا المنصب».
يجادل البعض بأن تواضع مستوى خبرة الرئيس ترامب في المجالين العسكري والسياسة الخارجية تستدعي تغيير القانون، ليتمكن من الاستعانة بالرجال ذوي الخبرة. بيد أن كيرستن جيلبراند، عضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، يرى في مقال نشرته «نيويورك تايمز» أن «هذا الأساس الجوهري، الذي بُنيت عليه أمتنا وخدمنا كثيرًا، يجب علينا حمايته اليوم» أكثر من أي وقت مضى.
سياج حماية قانوني: المدنيون فقط وزراءً للحرب
يشترط «قانون الأمن القومي» لعام 1947 بأن يكون رئيس وزارة الدفاع مدنيًا. وأي مرشح يتمتع بخبرة عسكرية سابقة يجب أن يكون قد تقاعد من الخدمة الفعلية قبل سبع سنوات على الأقل. مع استثناءات قليلة للغاية، شغل المدنيون دائمًا منصب وزير الحرب؛ مما يعكس السلطة الدستورية الممنوحة للحكومة التنفيذية على الجيش، بحسب لويس مارتينيز من «إيه بي سي نيوز».
وحين استبدل «قانون الأمن القومي» لعام 1947 وزارة الدفاع بوزارة الحرب، اشترط أيضًا أن يتولى المدنيون وحدهم قيادة الوزارة. أنشأ هذا التشريع أيضًا قيادات للجيش والبحرية والقوات الجوية، وهي المناصب التي أصبحت بموجب تشريعات إضافية مدنية خالصة.
صحيحٌ أن 17 من الأشخاص الـ24 الذين خدموا كوزراء للدفاع في الولايات المتحدة سبق وأن خدموا في صفوف القوات المسلحة، لكن نظرًا لأن معظم سنوات خدمتهم كانت في أيام شبابهم، فإن متطلبات الفاصل الزمني البالغ سبع سنوات بين الحياتين العسكرية والمدنية كانت متوافرة.
«إرادة الشعب لن تُختطف بقوة السلاح»
اهتم مؤسسو الولايات المتحدة بالسيطرة المدنية على الجيش لأسباب عملية بحتة، ففي عام 1789 كانت الجيوش المنظمة هي الجهات الفاعلة الوحيدة التي لديها القدرة على تدمير الأرواح والممتلكات على نطاق واسع، وكان بإمكان القادة الذين يمسكون بزمام الجيش السيطرة أيضًا على الدولة ومواردها.
من أجل ذلك صاغ مؤسسو الجمهورية الأمريكية الناشئة «ديمقراطية تسود فيها «إرادة الشعب» دائمًا، ولا تُختَطَف بقوة السلاح»، حسبما كتبت روزا بروكس أستاذة القانون بـ«جامعة جورج تاون» في دورية «فورين بوليسي».
ويمكن القول إن دستور الولايات المتحدة يحرص على تفكيك السلطة المركزة وترسيخ توازن القوى، لضمان ألا يتفوق أحد فروع الحكومة على بقية الفروع، وألا يتمكن أي فرد أو منطقة أو حزب أو فصيل أو جماعة من إحكام قبضته على الدولة دائمًا. ولذلك اتخذت الضوابط والتوازنات المتعلقة باستخدام القوة العسكرية العديد من الأشكال المختلفة، والتي من بينها السيطرة المدنية على الجيش، فأنشأ الدستور نظامًا أخضع فيه الجيش لممثلي الشعب المنتخبين.
لكن واضعي الدستور أدركوا أن السيطرة المدنية ليست سوى وسيلة واحدة للحد من الأخطار التي تشكلها القوة العسكرية المركزة. لذلك قسموا السيطرة على استخدام القوة العسكرية بين الكونجرس والرئيس.
كان الهدف المعياري هو منع تركيز السلطة الذي يمكن أن يبطل أو يشوه إرادة الشعب، كما يعبر عنها الممثلين المنتخبين. وكان الهدف من السيطرة المدنية على الجيش هو التأكد من أن إرادة الشعب سوف تسود على إرادة الأقوياء.
من التآمر إلى الانصياع
حرص واضعو الدستور الأمريكي على ضمان خضوع الجيش للسيطرة المدنية. لكن في الأيام الأولى للجمهورية تآمر بعض الضباط العسكريين بنشاط ضد الحكومة، كما يحكي جيم جارامون عبر موقع وزارة الدفاع الأمريكية الرسمي.
كان الجنرال جيمس ويلكنسون شخصية رئيسية في خطة تهدف إلى ما كان آنذاك «جنوب غرب الولايات المتحدة» لتشكيل دولة منفصلة متحالفة مع إسبانيا. فأدى يمين الولاء لإسبانيا، وتجسس لحساب راعيه السري الجديد، وحصل على معاش إسباني سنوي قدره 4 آلاف دولار. وكان حاكم لويزيانا من 1805 إلى 1806.
جيمس ويلكنسون، مصدر الصورة U.S Army Center
عندما انكشف تورطه مع آرون بور، تحول ويلكنسون إلى مخبر، وأبلغ الرئيس جيفرسون أن بور كان يخطط لعرقلة الاتحاد. أما وقد أصبح شاهد الادعاء الرئيس ضد بور فقد استطاع النجاة من لائحة الاتهام.
ثم واصل عمله كضابط رفيع المستوى في الجيش خلال عام 1812، حتى افتُضِحَ تورطه أخيرًا إلى جانب انعدام كفاءته؛ ما أدى إلى تسريحه. لكنه مرة أخرى استطاع الخروج من التحقيق الرسمي كـ«الشعرة من العجين»، وأمضى ما تبقى من عمره في المكسيك يتلقى الراتب الإسباني.
مع نمو الأحزاب السياسية أصبح الولاء السياسي لضباط الجيش مهمًا؛ فعيّن الرئيس جون آدمز ضباطا فيدراليين في الجيش. وكسكرتير خاص لجيفرسون، تولى النقيب في الجيش ميريويذر لويس فحص أوراق اعتماد الجمهوريين (والديمقراطيين لاحقًا) لزملائه من ضباط الجيش.
عزز هذا الاعتقاد داخل الجيش الأمريكي من أن الضباط يجب ألا يشاركوا في السياسة، بل ينبغي عليهم تنفيذ أوامر الرئيس ورغبات الكونجرس، بغض النظر عمن يكون في السلطة. وقد بذلت «أكاديمية ويست بوينت» العسكرية الأمريكية في نيويورك، الكثير لنشر هذه الفكرة. لكن بالرغم من انضمام المزيد من أبناء الأكاديمية إلى الجيش استمر انخراط بعض الضباط في السياسة.
كانت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) فترة الخطر الأكبر للسيطرة المدنية على الجيش، لكن مثلما خرجت البلد من الحرب نجت فكرة السيطرة المدنية على القوات المسلحة، فابتعد الضباط عن السياسة شاعرين بأن هذا سيؤثر بطريقة ما على خدمتهم العسكرية.
إصلاحات من رحم الإخفاقات العسكرية
وُلِدَت البنية القانونية الحالية للجيش الأمريكي من رحم المأساة ردًا على إخفاقات العمليات العسكرية في فيتنام، ومحاولة إنقاذ الرهائن الإيرانية الفاشلة عام 1980، وغيرها من المغامرات العسكرية؛ ليعيد الكونجرس ترميم منظومة وزارة الدفاع.
نتج عن هذا التجديد قانون «جولدووتر-نيكولاس» الذي أنشأ جيشين داخل وزارة الدفاع، الجيش التشغيلي والجيش الإداري، حسبما يشرح مارك نيفيت، في ورقة بحثية.
كقاعدة أساسية، يكفل الدستور الأمريكي تنصيب قائد مدني منتخب على رأس الجيش، لكن لأن مصطلح «السيطرة المدنية على الجيش» غائبة تمامًا عن نص الدستور؛ فإن لرقابة الكونجرس على الجيش الدور الحاسم في تحقيق التوازن.
يظل الجيش التشغيلي هو محور الفرع التنفيذي، بقيادة قادة مقاتلين يرتدون الزي الرسمي مسؤولين عن التخطيط للحروب التي تخوضها الأمة وخوضها، بالإضافة إلى قائمة موسعة من مهام العلاقات الخارجية.
على الجانب الآخر يركز الكونجرس في المقام الأول على الجيش الإداري، الذي يرأسه إلى حد كبير وزراء مدنيون لإدارات عسكرية مسؤولون عن تزويد القوات المسلحة بالعدد والعتاد والتدريب. وبينما يخوض الجيش التشغيلي المعارك فإن الجيش الإداري يدرب ويجهز.
الفجوة بين الجيشين تتعاظم في عهد ترامب..
لكن بعض الفجوات تفاقمت بين الجيشين – الإداري والتشغيلي – في ظل إدارة ترامب، والتي من بينها:
- زيادة تركيز الكونجرس على الجيش الإداري على حساب الرقابة العسكرية التشغيلية. لدرجة أن يصرخ السيناتور ليندسي جراهام: «نحن لا نعرف بالضبط أين نتواجد عسكريًا في العالم، وماذا نفعل».
- في عام 1986 كان عدد قدامى المحاربين في المجلسين التشريعيين كبيرًا للغاية يصل إلى 70٪، لكنه انخفض جدًا حتى وصل إلى 20٪ فقط. وقد أظهرت الدراسات أن أعضاء الكونجرس ذوي الخبرة العسكرية كانوا أكثر دعمًا لزيادة وصول الكونجرس إلى المعلومات خلال حربي في العراق وأفغانستان.
- العسكرة المتزايدة للسياسة الخارجية بتأثير من القادة العسكريين الذين يتمتعون بالموارد الجغرافية ويتمركزون في الخارج، ويمثلون جوهر الجيش التشغيلي، ولديهم نفوذ على الأوامر القتالية الإقليمية يفوق نفوذ نظرائهم الدبلوماسيين.
خيبة أمل الآباء المؤسسين
تُستخدم القوة الأمريكية بلا حدود ومن وراء ستار بشكل متزايد اليوم، وهذا بالضبط ما كان يخشاه الآباء المؤسسون. صحيح أن الشعب الأمريكي أكد مرارًا وتكرارًا أنه يثق في المؤسسات العسكرية أكثر من بقية مؤسسات الدولة، لكن استطلاعًا أجرته «مؤسسة جالوب» أظهر أن سبعة من كل 10 أمريكيين يعتقدون أن الموقعين على إعلان الاستقلال كانوا سيصابون بخيبة أمل إذا كانوا أحياء اليوم بسبب الطريق الذي سلكته الولايات المتحدة.
وزير الدفاع الأمريكي الحالي بالإنابة مارك إسبر، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب
فعلى النقيض من الآباء المؤسسين الذين «تمتعوا بذكاء فذ»، يتهم جريجوري دي فوستر عبر موقع «ديفينس وان» الطبقة التي تحكم الولايات المتحدة بـ«الجفاف الفكري». إذ كان لدى المؤسسين تصور واضح للحرب، كانت الأمور تسمى بمسمياتها، بدلًا عن الأوصاف المخففة على غرار: «عمل الشرطة»، أو «عملية الاستقرار»، أو «مكافحة التمرد»، أو «التدخل الإنساني». فكان يمكن تمييز حالة الحرب بوضوح عن حالة السلام، وكانت الحرب تشن فقط كضرورة ملاذ أخير، وليس اختيارًا.
أما اليوم – بحسب فوستر – «فلدينا الكثير مما كان يخشاه المؤسسون بشدة: قوة محترفة، غير ممثلة إلى حد كبير للمجتمع الأمريكي، ومعزولة بشكل متزايد عن الجمهور الذي يفترض أن تخدمه، حجمها ضخم، وتكلفتها باهظة، وأكثر تسليحًا وفتكًا من أي قوة أخرى في العالم، ومنتشرة في كافة أنحاء البسيطة طوال الوقت، وهي مصدر دائم للاستفزاز والمغامرة، ومدانة باستمرار بارتكاب سلوكيات غير مسؤولة اجتماعيًا وسياسيًا (بدءًا من الفظائع القتالية وصولًا إلى الاعتداء الجنسي الداخلي)، وتتصدر طليعة العسكرة العالمية والمحلية؛ لأسباب ليس أقلها مكانة أمريكا كأكبر تاجر أسلحة في العالم».
إرهاصات صفارة الإنذار
لدى الجيش الأمريكي اليوم ضوابط وتوازنات داخلية مفصلة واحترام راسخ للديمقراطية وسيادة القانون. من الصعب تخيل أن يقوم أي جنرال أو مجموعة من الضباط في الخدمة الفعلية، بغض النظر عن مدى شعبيتهم، بتحريض القوات على تجاهل أو إلغاء نتائج الانتخابات أو تجاوز قانون صدر وفق الإجراءات الصحيحة.
لكن مبدأ «السيطرة المدنية على الجيش» خدم الولايات المتحدة على مدار 200 عام، ولحسن الحظ لم يحدث أي انقلاب عسكري في التاريخ الأمريكي، لكن المعايير يمكن أن يُلوى عنقها، وتتغير بمرور الوقت.
صحيحٌ أن واقع اليوم مختلف تمام الاختلاف، لكن مجلة «أميركان كونسرفاتيف» مثل آخرين تنبه إلى أنه ليس أقل عرضة للتلاعب السياسي والأزمات الدستورية. ذلك أن البنية التحتية العسكرية التي نشأت وقويت على مدى عقود من الحرب أصبحت مهددة فجأة بموقف «وقت السلم»، وخفض الإنفاق الدفاعي، والتعامل مع قوة منافسة لا تحظى بشعبية في صفوف العديد من الرتب.
لهذا السبب حذر بعض علماء السياسة وأعضاء الجيش السابقين الذين تحدثوا مع المجلة من الاعتماد المفرط على «رجال الجيش» المتقاعدين في أعلى مستوى داخل إدارة ترامب.
وعلى الرغم من أنهم لا يعتقدون أن الولايات المتحدة على وشك عملية استيلاء عسكري على زمام الأمور، إلا أنهم مهتمون دائمًا بالصورة الشاملة، وكيف يمكن للدائرة الداخلية العسكرية أن تؤثر على صنع القرار، وما إذا كان ذلك سيمهد الطريق لانحراف أكثر قتامة في المستقبل.
يقول الخبراء: «إن المشكلات التي تطرحها هذه الاختيارات هي أصداء إنذار يمكن أن تصبح صفارات إنذار كاملة للإدارات المستقبلية، إذا ترك حبلها على غاربها». وفي نهاية المطاف يلفت نيفيت عبر «منتدى جاست سيكيوريتي» إلى أنه سيكون هناك عالم بعد ترامب، وستظل هناك آثار طويلة الأجل لتآكل هذه المعايير، ما يتطلب «مراقبة متيقظة للسيطرة المدنية على الجيش للتأكد من أنها وإن تعثرت، فإنها لم تسقط».