تُعقد انتخابات الرئاسة الأمريكية التي ينتظرها العالم بأسره بعد شهرين من الآن، ويتنافس فيها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ضد مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن. ومنذ ترشحه لانتخابات 2016 لم يتوقف دونالد ترامب عن استخدام لغة عدائية؛ الأمر الذي يتجلى الآن قبل الانتخابات الرئاسية القادمة.
وترامب الذي كان يُرهب الناخبين في الانتخابات السابقة من الإرهابيين والمهاجرين غير الشرعيين؛ يستخدم الآن ورقة «الخراب الذي من الممكن أن يعم الولايات المتحدة في حالة عدم فوزه»؛ ما يذكرنا بتجربة الحملة الدعائية التي إستخدمها أوجستو بينوشيه (رئيس تشيلي الأسبق) في الاستفتاء الذي أجراه على إمكانية تمديد فترته الرئاسية عام 1988.
من هو بينوشيه؟ وماذا حدث في استفتاء تشيلي 1988؟
في عام 1988 واجه الجنرال أوجستو بينوشيه رئيس دولة تشيلي ضغوطًا دولية من دول عدة، على رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية كي يجري استفتاء شعبي على إمكانية تجديد مدته رئيسًا لتشيلي، ذلك المنصب الذي سيطر عليه لمدة 15 عامًا بعد انقلاب عسكري دموي قاده بنفسه في عام 1973 على الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي، الذي كان أول رئيس شيوعي ماركسي يحكم تشيلي.
بينوشيه بالبدلة العسكرية التي إعتاد على الظهور بها دائمًا
انتهز المجلس العسكري التشيلي المعروف باسم «جونتا (Junta)» الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد تحت حكم سلفادور الليندي للقيام بالانقلاب العسكري والتخلص من النظام الشيوعي لكي يأتي النظام العسكري الديكتاتوري الذي فرض سياسات القمع وكبت الحريات وتكميم الأفواه لمدة 15 عامًا، ونتج عن ذلك اعتقال ما يقرب من 35 ألف ناشط سياسيّ تشيليّ، ومقتل 3 آلاف بينما تعرض العدد نفسه تقريبًا إلى الاختفاء القسري.
كان بينوشيه وقتها يثق كل الثقة في فوزه بالاستفتاء، ولمَ لا؟ وقد تمكن من تحييد كافة أطياف المعارضة السياسة وتقليل تأثيرها على المواطن التشيلي، والأهم أنه قضى على التيار اليساري الشيوعي الذي كان أكثر شعبية في تشيلي قبل الانقلاب العسكري. ولذلك أعلن بكل ثقة عودة التصويت الانتخابي إلى تشيلي بعد غياب 15 عامًا، ومنح المجتمع المدني فرصة لمراقبة عملية الاستفتاء، والأهم أنه أعلن عن منح مساحة إعلانية لمدة 15 دقيقة في التلفزيون التشيلي لحملة «لا»، وهي الفرصة التي استغلتها المعارضة أفضل استغلال لكسب التأييد الشعبي للحملة المضادة للاستفتاء والإطاحة ببينوشيه.
تواصلت «حملة لا» مع شخص يدعى أوجينتو جارسيا، الذي كان مديرًا فنيًا في إحدى وكالات الدعاية والإعلان المحلية في تشيلي. لم يكن لأوجينتو جارسيا نشاط سياسي ملحوظ، ربما لأنه عانى كثيرًا من الضرر الذي حل به بسبب إنخراط والده وزوجته السابقة في العمل السياسي المعارض في تشيلي، ولكنه قَبِل العمل لصالح حملة «لا»؛ لأنه وجد الفرصة سانحة للتغيير الحقيقي.
لم يكن التعاون بين جارسيا وبين الحملة سهلًا في البداية، فقد أرادت الحملة أن تستخدم الإعلان التلفزيوني في فضائح جرائم بينوشيه السياسية وتعديه هو وحكومته على حقوق الإنسان، ولكن جارسيا كان معارضًا بشدة لهذه الفكرة؛ لأنه يرى أن هذا ما تفعله المعارضة ضد بينوشيه منذ 15 عامًا، ولا يزال بينوشيه مستمرًا في الحكم، وإذا اتُبع الطريق ذاته فسوف يفوز بينوشيه بالاستفتاء بكل تأكيد.
نجح جارسيا في إقناع الحملة بأفكاره المختلفة، وفي الخامس من سبتمبر (أيلول) عام 1988، وبالتحديد الساعة 10:35 بتوقيت تشيلي، ظهر إعلان «حملة لا» على شاشة التلفزيون التشيلي، وكان الإعلان بعنوان «Chile, la alegría ya viene» أو «تشيلي.. السعادة قادمة»، بدأ الإعلان بصورة كلمة «لا» تحيط بها ألوان قوس قزح، ثم بدأت أغنية راقصة جذابة تقول:
«لأنه مهما قلت، أنا حر في التفكير. لأنني أشعر أن الوقت قد حان للحصول على الحرية. لقد تعبت من سوء المعاملة. لقد حان الوقت للتغيير! بسبب ما يكفي من البؤس، سأقول لا. لأن قوس قزح يولد بعد العاصفة. لأنني أريد أن تزدهر طرقي في التفكير. لأنه بدون الديكتاتورية سيأتي الفرح! لأنني أفكر في المستقبل، سأقول ذلك: لا»
إعلان «حملة لا»:
وعرضت الأغنية مشاهد لأطفال يرقصون، ويتسلقون أعلى جبل وهم يغنون «سنقول لا»، وآخر لطفلة تبتسم وتحمل كعكة عليها ألوان قوس قزح وكلمة «لا»، كذلك مشاهد لعمال، ومزارعين، وطباخين، ورجال إطفاء، وأطباء، ورجال أعمال، يعملون ويغنون «سنقول لا». كانت كلها مشاهد مبهجة توحي بالأمل والبهجة وتجعل كل من يراها يبتسم.
على الناحية الأخرى أصدرت «حملة نعم» إعلان يبدأ ببعض الإنجازات الاقتصادية التي حدثت في عهد بينوشيه، مصحوبًا بأغنية لبينوشيه، ومشاهد له وحده بالبدلة العسكرية. لكن لم تكن هذه هي المشكلة، بل كانت في بقية المشاهدة التي كان منها مشهد لعربة طفل دهسته حافلة، مشاهد لمظاهر تخريب ناتجة عن أعمال شغب قام بها المتظاهرون، ومشهد لشخص يحكي أنه حدث له تشوه في الوجه بسبب اشتغال الحافلة التي كان يستقلها بسبب أعمال الشغب التي يقوم بها «الشيوعيون أعداء الوطن».
ثم انتهى الإعلان بمشهد فارس ملثم يحمل علمًا، الظاهر منه أنه علم شعار «حملة لا» ومن الناحية الثانية كان يحمل اللون الأحمر، وشعار «المنجل والمطرقة» الشهير للحركة الشيوعية، فيما يبدو أنها مشاهد لا تحمل إلا «الخوف والرعب» من مصير تشيلي حال فوز «حملة لا» بالاستفتاء.
لكن لأن الإنسان يحب السعادة والأمل والبهجة، وينفر من الشعور بالخوف والرعب، فجاءت نتيجة الاستفتاء في صالح «حملة لا» بنسبة بلغت 53% من مجمل المشاركين في الاستفتاء، وتخلصت تشيلي من الدكتاتور بينوشيه الذي حكم البلاد بالقوة والقمع، وعمت الديمقراطية البلاد بعد أن غابت عنها لمدة 15 عامًا.
ولكن.. ماذا عن ترامب؟
بكل تأكيد يختلف ترامب تمامًا عن بينوشيه. فهو لم يأت بانقلاب عسكري دموي، ولم يحدث في عهده جرائم سياسية مُخلّة، فالنظام المؤسسي الأمريكي – كما يدعي الساسة الأمريكان دائمًا – لن يسمح لترامب أو غيره بأن يكون ديكتاتور.
لكن ترامب يتبع سياسة التخويف والترهيب نفسها في حملته الانتخابية؛ ففي عام 2016 كان دائمًا ما يهاجم السياسيين؛ لأنهم لم يتمكنوا من حماية المواطن الأمريكي من الإرهاب الديني المتطرف – على حد قوله – ولم يحمهم من المهاجرين الذين يكبدون الولايات المتحدة الكثيرة من الخسائر الفادحة. ولذلك شاهدناه يطالب بمنع المسلمين من الدخول إلى أراضي الولايات المتحدة، فضلًا عن إعلانه بناء جدار عملاق على الحدود الأمريكية المكسيكية حتى لا يتسلل المهاجرين غير الشرعيين عبرها.
على جانب آخر قد يشعر المتابع بالتناقض بين قصة ترامب وبينوشيه، لأنه على عكس بينوشيه مكنت سياسة الخوف والترهيب ترامب من الفوز في انتخابات 2016. لكن ما يجب ذكره هنا أن ترامب في انتخابات 2016 كان يقدم نفسه على أنه رجل الأعمال النزيه الذي لم تتلوث يداه مثل السياسين الأمريكيين الفاسدين الذين يحكمون واشنطن، وكان يصف نفسه بأنه الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أمريكا من الفساد، وأنه سيتمكن من دفع الاقتصاد إلى الأمام، وسيحمي أمريكا من الإرهابيين والمجرمين والمهاجرين غير الشرعيين.
لكن كل هذه الوعود لم تتحقق، فضلًا عن جائحة كورونا التي ضربت الولايات المتحدة وجعلتها الدولة «رقم واحد» في عدد الإصابات والوفيات في العالم، وأضرت بالاقتصاد، وأفقدت ملايين الأمريكيين وظائفهم، علاوة على أن دونالد ترامب لم يعد ذلك الشخص الذي لم تتلوث سمعته بالسياسة؛ وذلك لأنه بات أكبر سياسي بواشنطن في الوقت الحالي.
وبالإشارة إلى رسالات الترهيب الانتخابية ففي مواقف كثيرة كرر ترامب ونائبه مايك بينس عبارة «أمريكا لن تكون بأمان في رئاسة جو بايدن». ويمكن القول إن ترامب لا يترك فرصة إلا ويهاجم فيها بايدن.
فمنذ يونيو (حزيران) الماضي وبعد تأكد فوز جو بايدن بالانتخابات التمهيدية، أنفقت حملة دونالد ترامب عشرات الملايين من الدولارات لإنتاج 23 إعلان يهاجم جو بايدن وينشر رسالة الخوف والرهبة من إمكانية فوزه بالانتخابات.
من ضمن تلك الإعلانات، إعلان يضم مشهد لمواطنة أمريكية تشعر بأن أحدهم اقتحم منزلها؛ لتسارع على الفور بالاتصال برقم الطوارئ الأمريكي الشهير (911)، فتجد استجابة من تسجيل صوتي يقول: «مرحبا لقد تواصلت مع رقم الطوارئ، نعتذر على عدم وجود شخص من الشرطة للرد عليك، بسبب قطع التمويل الذي حدث في ميزانية الشرطة الأمريكية»، في إشارة إلى حملة تقليل ميزانية الشرطة بسبب أعمال العنف تجاه المدنيين، والتي يؤيدها الكثير من رموز الحزب الديمقراطي، ولكن على عكس ما يردد ترامب؛ فإن جو بايدن ليس واحدًا من هؤلاء المؤيدين.
إعلان حملة ترامب الذي يهاجم بايدن:
فضلًا على أن ترامب دائمًا ما يصف جو بايدن بأنه «حصان طروادة» الذي يختبئ من خلاله اليسار المتطرف الذي – في رأيه – ليدمر المجتمع الأمريكي، مستدلًا على ذلك بقرب جو بايدن من التيار التقدمي الصاعد في الحزب الديمقراطي وفي المناخ السياسي الأمريكي، والذي يهدف إلى وجود سياسات مغايرة عن السياسات التاريخية للولايات المتحدة، والتي تتضمن وجود نظام صحي شامل لجميع المواطنين، مجاني أو بتكاليف قليلة، وإتاحة الفرصة لوجود جامعات تقدم درجات علمية بالمجان، واتباع النهج العالمي لمواجهة أزمة تغير المناخ.
وكان دعم بايدن لحملة «Black Lives Matter» سببًا في إتهامه بأنه يساري متطرف، فهذه الحملة التي بدأت في الولايات المتحدة وانتشرت في العالم للمطالبة بحقوق المواطنين ذو البشرة السوداء بعد حادثة جورج فلويد الشهيرة والتي راح ضحيتها بسبب العنف العنصري «المقصود» من بعض رجال الشرطة؛ لا يؤيدها ترامب، بل يقول إنها مدعومة من جماعة «Antifa أنتيفا»، المعادية للفاشية المتمثلة في فساد رأس المال وعدم المساواة بين الأعراق والأقليات.
لكن على جانب آخر، فإن حملة «Black Lives Matter» حملة سلمية عالمية لم تقف «أنتيفا» وراءها مطلقًا، ووصف ترامب لها بأنها تابعة لأنتيفا، يذكر بوصف بينوشيه للحراك المعارض ضده بأنه تابع للجماعات الشيوعية المتطرفة التي تسعى للتخريب.
وفي المحصلة، يؤكد جو بايدن في خطاباته على التحلي بالأمل في الفوز بالانتخابات، وتخطي الأزمة التي ضربت الولايات المتحدة بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، فيما تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم جو بايدن بنسبة كبيرة وارتفاع فرصته في الفوز في الانتخابات القادمة، لكن الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) – موعد الانتخابات – ليس ببعيد، وحينذاك سوف نعرف هل انتصر تخويف وترهيب دونالد ترامب، أم أن «أمل» جو بايدن له رأي آخر.