تشير عبارة «بياع كلام» في سياق اللغة الشعبية إلى الشخص الذي لا تتّسق أفعاله المتواضعة مع وعوده البرّاقة أو حتى تهديداته النارية، وقد تعطيك أحاديثه انطباعًا بملاحم قادمة، ثم تنظر فإذا لا شيء يحدث على الإطلاق. هل يمكن أن نجد مثالًا لتلك الحالة في حقل العلاقات الدولية هذه الأيام. حسنًا، إنه يمكن أن يكون الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».
ترامب يمدح السيسي ثم يقطع عنه المساعدات
خلال الأسابيع الأولى من وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لم يكن ثمة حديث في وسائل الإعلام الموالية للحكومة المصرية يعلو على صوت التفاؤل بشأن العهد الجديد مع واشنطن. «الكيمياء» التي تجمع «زعيمي» مصر والولايات المتحدة، كانت هي الشعار الأبرز الذي يحلو لمؤيدي السيسي وصفه في تلك المرحلة.
خلال اللقاءات المتتابعة، كان مديح ترامب ينهال على شخص السيسي، وسياسته، وقيادته للبلاد، ففي مقابلة صحفية أجراها أواخر العام الماضي، وصف ترامب السيسي بأنه «شخص رائع»، وأثنى على قيادته للبلاد، كما أبدى دعمه الشديد للحرب التي يشنها على «الإرهاب»، بحسب وصفه، لاحقًا.
وفي اجتماع بين الرجلين على هامش قمة الرياض في مايو (آيار) الماضي، جدد ترامب إعجابه بالرئيس المصري، بل إن إعجابه امتد إلى «حذاء» السيسي نفسه، ما اعتبره البعض تصريحًا كوميديًا، كما أظهر حماسه لتلبية الدعوة لزيارة مصر في أقرب وقت. كما مدح ترامب في اجتماعه مع السيسي قبل أيام، على هامش اجتماعات الدورة الـ72 للأمم المتحدة، برنامج «الإصلاح الاقتصادي» الذي تتبعه الحكومة المصرية.
Embed from Getty Images
ترامب والسيسي في لقاء سابق على هامش قمة الرياض
لكن ماذا بعد التصريحات الإيجابية والكلام المعسول؟ النقيض تمامًا، إذ فوجئ العالم قبل أسابيع قليلة، ولأول مرة في تاريخها، بقرار الإدارة الأمريكية حجب بعض المساعدات الاقتصادية عن مصر، حيث أبلغ وزير الخارجية الأمريكي نظيره المصري بوقف 195 مليون دولار من المعونات العسكرية المقدمة من واشنطن للقاهرة، فضلًا عن إعادة تخصيص معونات إضافية تصل إلى 56.7 من المعونة العسكرية، و30 مليونًا من المساعدات الاقتصادية لصالح دول أخرى.
كان المسوغ الأمريكي لتلك القرارات، هو السجل السيئ لمصر في مجال حقوق الإنسان، وبسبب القانون الجديد الذي أقرته السلطات المصرية للجمعيات الأهلية والذي اعتبره الأمريكيون متعسفًا، ومقوضًا لوجود تلك الجمعيات، وإن أشارت تقارير لاحقة إلى ارتباط القرار الأمريكي قد جاء بسبب تعاون المصريين مع كوريا الشمالية، بالمخالفة للتوجهات الأمريكية، وأيًا يكن الدافع الحقيقي، فالمؤكد أن التصريحات البراقة لترامب، وما أكده دومًا من صداقته مع السيسي، لم تغنِ عن الأخير شيئًا.
اقرأ أيضًا: لأجل حقوق الإنسان أم قلقًا من كوريا الشمالية.. لماذا انقلب ترامب على السيسي؟
ترامب وأردوغان.. تصريحات براقة وأفعال عدائية
لم يكن نصيب الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» من مديح ترامب، بأقل من نظيره المصري، ففي حوار له مع صحيفة «نيويورك تايمز» عبر ترامب – وكان حينئذ لا يزال في طور السباق نحو البيت الأبيض- عن تأييده للحملة التي تشنها قوات الأمن الموالية لأردوغان ضد المعارضين، في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا قبل أكثر من عام، أكد ترامب ثقته في أردوغان، معتبرًا أن الولايات المتحدة لا يجب أن تنتقد إجراءات التطهير التي تتخذها سلطات أنقرة.
توالت بعد ذلك إشادات ترامب بأردوغان وحكومته، اعتبره حليفًا في الحرب على الإرهاب والتطرف، كما قدم له التهنئة بعد فوزه في استفتاء الدستور، ونجاحه في اقتناص الموافقة الشعبية على تحويل نظام البلاد إلى النظام الرئاسي، وفي لقائهما الأخير على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وصف الرئيس الأمريكي نظيره التركي بأنه «صديق شخصي» له، كما أن بلاده هي صديقة لبلاده، وتابع: «إنه يحكم جزءًا صعبًا من العالم، بصراحة، إنه يستحق علامات جيدة».
Embed from Getty Images
لقاء على هامش قمة الأمم المتحدة
لكن من يصدق كلمات الرئيس الأمريكي بشأن صداقته مع الأتراك سيتعجب بالتأكيد حين يرى سياسة الإدارة الأمريكية تجاه تركيا، غيرَ
مبالية بالحساسيات التركية، مضت واشنطن في دعم المسلحين الأكراد بالسلاح، ولم تفلح اعتراضات تركيا في إثنائها عن ذلك المسار، لم يقُم الأمريكيون بتسليم رجل الدين «فتح الله غولن» – خصم أردوغان اللدود – إلى أنقرة رغم المطالبات التركية، لم تتبع واشنطن نهجًا أكثر تشددًا تجاه الأسد كما كان يطمح أردوغان، ويومًا بعد يوم، وفيما يكثر ترامب من تصريحاته اللامعة، تتفكك عرى التحالف الإستراتيجي بين البلدين، إلى حد لجوء تركيا إلى إبرام صفقة استراتيجية مع روسيا لتزويدها بمنظومات الدفاع الجوي «إس-400» غير مبالية بالاحتجاجات الأمريكية.
ترامب وأزمة الخليج.. كلام كثير و«صفر» أفعال
تبدو الأزمة الخليجية المثل الأبرز على كون ترامب مجرد «بياع كلام» لا أكثر، قبض ترامب ثمنًا يبلغ مليارات الدولارات من أموال النفط السعودي، عاد إلى بلاده لمواطنيه بـ«وظائف وظائف وظائف»، كان يفترض أن يكون لقاء تلك «الصفقة» تماهيًا أمريكيًا مع مواقف السعوديين تجاه مواقف المنطقة، وبالأخص في مسألة مقاطعة قطر التي اندلعت بعيد أيام قليلة من زيارته للرياض، واعتبر ترامب نفسه أن له دورًا في إشعالها.
اقرأ أيضًا:- ذهبت إلى الخليج جلبت أموالًا.. وحاصرنا قطر
مقابل مليارات الدولارات، اندفع ترامب يُسمع رباعي المقاطعة ما يرغبون في سماعه، في إحدي تغريداته يقول ترامب «خلال زيارتي للشرق الأوسط أكدت ضرورة وقف تمويل الأيديولوجية المتطرفة، والقادة أشاروا إلى قطر – انظر»، ويزيد من الشعر بيتًا فيقول في أخرى، «من الجيد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك – سلمان بن عبدالعزيز- و50 دولة تؤتي ثمارها. قالوا إنهم سيتخذون نهجًا صارمًا ضد تمويل الإرهاب، وكل المؤشرات كانت تشير إلى قطر. ربما سيكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب».
Embed from Getty Images
قمة الرياض
لكن على مستوى الأفعال، فإن الرياح الأمريكية تجري بما لا تشتهي سفن السعوديين، لا يظهر أن إدارة ترامب قد مارست ضغطًا حقيقيًا على قطر لصالح الرياض، بما يتناسب مع التصريحات الرئاسية، بل إن المؤسسات الأمريكية كانت تتخذ مواقف أقرب إلى قطر منها إلى دول المقاطعة، فدعت إلى إنهاء الأزمة في أقرب وقت، وأكدت على بقاء قاعدة «العديد» على الأراضي القطرية، كما أجرت القوات الأمريكية مناورات متعددة مع نظيرتها القطرية، في إشارة لا تخفى بأن تحالف واشنطن – الدوحة لم يتأثر – مجرد تأثر – بالاتهامات السعودية، بالرغم من أن تصريحات ترامب قد توحي بعكس ذلك.
اقرأ أيضًا: «دفاع مرِن وهجمات مرتدة»: تعرف على خطة قطر للالتفاف على الحصار الخليجي
ترامب وكوريا الشمالية.. «أسمع جعجعةً ولا أرى طحنًا»
من يسمع تصريحات ترامب أو يقرأ تغريداته بخصوص كوريا الشمالية، يشعر بأن الحرب على الأبواب لا محالة، وأن تدمير كوريا الشمالية بأكملها مسألة أيام لا أكثر، فالرجل لا يألُ جهدًا في الهجوم على الرئيس الكوري الشمالي «كيم جونغ أون» ونظامه، وتهديده بأقسى العبارات.
في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجه ترامب تهديدًا مدويًا إلى كوريا الشمالية بأنه «سيدمرها بالكامل» إذا تعرضت للولايات المتحدة أو حلفائها، وفي اتصال هاتفي سابق مع رئيس الفلبين «رودريغو دوتيرتي»، وصف ترامب الزعيم الكوري بأنه «مجنون يملك أسلحة نووية» ولا يمكن لبلاده أن تتركه حرًا طليقًا، كما وصف ترامب «كيم جونغ أون» بـ«الرجل الصاروخ» مبديًا أسفه أن الرؤساء السابقين لأمريكا لم يتعاملوا معه بما يجب.
Embed from Getty Images
من احتجاجات لمنظمات غير حكومية ضد الأسلحة النووية
لكن هذا التصعيد الخطابي الشديد، والذي يوحي بأن ثمة كارثة في الأفق، لا تقابله إجراءات أمريكية على أرض الواقع، ولا يظهر أن النظام في كوريا الشمالية يظهر أي اكتراث به، تتابعت التجارب التي تطلق فيها بيونغ يانغ صواريخها فوق أجواء اليابان؛ ما تسبب في ذعر عالمي وقف أمامه الأمريكيون عاجزين إلا ببعض الإجرءات الاقتصادية والتصريحات المنددة، وأعلنت كوريا الشمالية امتلاكها لقنبلة هيدروجينية، وتعرضت إدارة ترامب لإحراج شديد حين هدد الكوريون بضرب جزيرة «غوام» الأمريكية.
ويبدو أن الكوريين أدركوا أن تصريحات ترامب لن تتجاوز حدود الأقوال، فاستمروا في تصعيدهم، ليخرج «كيم جونغ أون» بنفسه موجهًا شتائم لاذعة إلى ترامب، واصفًا إياه بالـ«مختل عقليًا»، بل إن وزير خارجية بيونغ يانغ قد رد بأن تصريحات ترامب المهينة تجعل من مسألة ضرب كوريا الشمالية للأراضي الأمريكية «أمرًا حتميًا».
تصريحات ترامب ضد إيران.. «حبر على ورق»
مقاربة ترامب للعلاقات مع إيران لا تختلف عن الحال مع كوريا الشمالية، لم يترك ترامب فرصة، إلا وأكد عداءه لإيران، وازدراءه للاتفاق النووي الذي وقعته إدارة سلفه أوباما مع طهران، وقد أكثر من هجومه عليها منذ قمة الرياض خصوصًا، فأرغى وأزبد، واتهمها بأنها تدعم الإرهاب وتموله، وتنشر الفوضى والخراب في المنطقة.
لكن على أرض الواقع لم يتغيّر شيء، لا الأمريكيون هاجموا المنشآت الإيرانية كما توقع – أو تمنى البعض – ولا هو مسّ بالاتفاق النووي معها، ولم تكد تمضِ أيام على وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي، حتى ضرب الإيرانيون بعرض الحائط كل تهديدات ترامب وتصريحاته، فأعلنت أنَّها نجحت في تجربة إطلاق صاروخ باليستي جديد، وهو ما رد عليه ترامب بغضب بأن كل الخيارات «مطروحة على الطاولة».
Embed from Getty Images
صور ساخرة من ترامب في معرض وسط العاصمة طهران
لكن أحدًا منذ ذلك الحين لم ير شيئًا من تلك الخيارات باستثناء التصريحات التي تليها المزيد من التصريحات، ثم لا شيء جديًا، والجدير بالذكر أن إيران كشفت قبل أيام في استعراض عسكري عن صاروخ جديد باليستي جديد يُدعى «خرمشهر»، وأكد رئيسها حسن روحاني أن بلاده ستواصل تعزيز قدراتها الدفاعية، وكأنه يؤكد أن كل ردود أفعال الرئيس الأمريكي ليس لها أية قيمة تذكر على مسار بلاده.