بقيت مهد الثورات العربية تونس بعيدةً عمّا تبع تلك الثورات من صراع عسكري في دول المنطقة، حتى فرض عليها الصراع المسلح في الجارة الشرقية ليبيا الكثير من التبعيات العسكرية.
لكن فيما كان هذا البلد الأفريقي يواجه داخل أراضيه الجهاديين، كان يرى مسئولوه حاجةً لتركيز دعم عسكري قوي، يأتي تحديدًا من الولايات المتحدة، وهي رغبة تتماشى كليًا مع سياسة واشنطن في المنطقة، تلك التي ترى في تونس حليفًا استراتيجيًا يجب دعمه عسكريًا في إطار مواجهة التنظيمات المسلّحة، من أجل ضمان أمن واشنطن وأوروبا، وانطلاقًا من هذه الأهداف زادت الولايات المتحدة من حضورها العسكريّ في تونس لتحقيق مآرب عدة يلقى التقرير التالي الضوء عليها.
التدخل العسكري الأمريكي في تونس
في العام 2017، وقعت عملية عسكرية في محافظة القصرين الواقعة غربي تونس، بالتحديد في «جبل سمامة»، وفيها واجهت القوات التونسية عناصر من تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب العربي وتحديدًا من «كتيبة عقبة بن نافع».
وقد قتل خلال المواجهات أحد أعضاء التنظيم وجُرح جندي تونسي، لكن المفاجأة كانت في إصابة جندي أمريكي من وحدة «مارين رايدر» الأمريكية في تلك المعركة الواقعة على الأرضي التونسية، وهو ما استدل به على جزء من الحرب الخفية للعمليات العسكرية الأمريكية في القارة الأفريقية، وفي تونس تحديدًا؛ إذ حافظت واشنطن على وجود عسكري في السنوات الأخيرة، وكانت القوّة الجويّة في القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا «أفريكوم» تقوم بمهام استخباراتية ومراقبة واستطلاع في جميع أنحاء تونس، بل إن قوات أمريكية في أعقاب الهجوم على متحف باردو في العاصمة التونسية الذي وقع في مارس (آذار) 2015 قدّمت دعمًا لاستهداف عناصر أساسية في كتيبة عقبة بن نافع كانت تتمركز في بلدة «سيدي عيش» بمحافظة قفصة التونسية.
وبالعودة إلى معركة «جبل سمامة» تكشف مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية أن «المعركة وقعت بجبل سمامة في محافظة القصرين الواقعة بالقرب من الحدود الجزائرية؛ إذ تكبدت الولايات المتحدة أول ضحية لها في تونس منذ الحرب العالمية الثانية، كما أكّدت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا أنه قد نُصب لها كمين كارثي، في 28 فبراير (شباط) سنة 2017، بعد أقل من سبعة أشهر من أحداث تونس، في قرية تونغو تونغو بالنيجر».
وتابعت المجلة: «استمر الوجود العسكري الأمريكي في تونس منذ فبراير 2014، عندما نشر البنتاجون فريقًا ضم عشرات من عناصر القوات الخاصة في قاعدة نائية غرب البلاد، كما قام جنود تونسيون – يرافقهم مستشارون عسكريون أمريكيون في مناسبة واحدة على الأقل – برصد ومراقبة أحد معسكرات المسلحين في محافظة القصرين»، كما تؤكد المجلة على أن «الشراكة بين الولايات المتحدة وتونس في المجال العسكري والأمني متعدّدة الأوجه، وتهتم بمجالات بناء القدرات العسكرية وتعزيز أمن الحدود، بالإضافة إلى التدريب على تكتيكات مكافحة الإرهاب».
لم تكن المعلومات السابقة هي الأولى التي تثار مؤخرًا حول الوجود الأمريكي في تونس، فقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن واشنطن استخدمت قواعد عسكرية تونسية للقيام بعمليات استخباراتية في ليبيا؛ إذ بدأت طائرات دون طيار تابعة لسلاح الجو الأمريكي عملياتها من قاعدة جوية في تونس أواخر يونيو (حزيران) الماضي 2016، وكان الهدف جمع المعلومات الاستخباراتية عن أهداف لـ«تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» في سرت التي عُدّت آنذاك عاصمة ما يسمى بالخلافة الإسلامية في شمال أفريقيا؛ حيث تجري الولايات المتحدة عشرات العمليات العسكرية ضد (داعش).
وجاء في التقرير الموسع أن «وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) وسّعت سرًًا شبكتها العالمية من قواعد الطائرات بدون طيار إلى شمال أفريقيا، ونشرت طائرات بدون طيار وأفراد عسكريين أمريكيين في منشأة في تونس للقيام بمهمات تجسس في ليبيا المجاورة»، ويضيف التقرير: «ضغطت إدارة أوباما من أجل الوصول إلى القاعدة التونسية كجزء من استراتيجية أمنية للشرق الأوسط الأوسع نطاقًا والتي تطالب بوضع طائرات بدون طيار وفرق العمليات الخاصة الصغيرة في عدد من المرافق على بعد مسافة قريبة من المسلحين الذين يمكن أن يشكلوا تهديدًا للغرب».
بيد أن معلومات تونسية محليّة تحدث أيضًا عن الوجود العسكري الأمريكي في تونس، فموقع «نواة» التونسي نشر مذكرة حول الاتفاق المتعلق بوضعية أفراد من القوات المسلحة الأمريكية في تونس، وحسب تقرير نواة فإنه: «بالرغم أن البنود الواردة في الوثيقة المذكورة تشمل قوات الطرفين، إلا أنه من البديهي أن الطرف المعني هو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعتبر نشر قواتها على أراضي (الحلفاء) عقيدة عسكرية تقليدية للجيش الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيما لا تملك تونس القدرة ذاتها لنشر قوات في الولايات المتحدة الأمريكية باستثناء بعثات طلبة الكلية العسكرية أو دورات التكوين والتدريب».
ويؤكد الموقع على أن النقطة الأكثر إثارة في هذه الوثائق هي «تجديد موافقة رئيس الجمهوريّة المبدئيّة على مشروع «intelligence, surveillance et reconnaissance» هذا المشروع الذي نشرت بعض تفاصيله الصفحة الرسميّة لحلف شمال الأطلسيّ يتعلّق بتنسيق الجهود على صعيد الاستخبارات والمراقبة وتبادل المعلومات بين مختلف أعضاء الحلف، ومن ضمنها تونس التي تحصّلت مؤخّرًا على صفة الحليف الأساسي غير العضو بـ(الناتو)»، فحسب الموقع هذا المشروع «يرتكز بالأساس على عمليات الرصد والمراقبة وتبادل المعلومات وتقديم التسهيلات العسكريّة بشتّى أنواعها لأعضاء الحلف، سواء عبر الأقمار الاصطناعيّة أو طائرات الاستطلاع أو فتح المجال البريّ للقوات العسكريّة لتنفيذ مهامها. وهو ما يؤكّد مرّة أخرى مضيّ الحكومة التونسيّة قُدُمًا نحو تمكين قوّات حلف شمال الأطلسي من التواجد على الأراضي التونسيّة وفق الالتزامات التّي تفرضها عضويّة تونس في الحلف».
بعد الثورة.. دعم ضخم لحليف استراتيجي
دعمت واشنطن بشكل واضح الثورة التونسية سياسيًا، وساندت هذا البلد في عملية الانتقال الديموقراطي عبر تقديم مساعدات مالية وعسكرية، وبالرغم من ظهور واشنطن بعيدة عن المشهد العسكري التونسي، إلا المساعدات العسكرية الأمريكية ارتفعت في أعقاب الثورة التونسية من 16 مليون دولار سنة 2012 إلى 60 مليون دولار في 2014، فيما أشار وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري سنة 2015 إلى أن الولايات المتحدة خصّصت 250 مليون دولار كمساعدات عسكرية لتونس.

قوات تونسية خلال عملية عسكرية في مدينة بن قردان بتونس – المصدر: رويترز
وحافظت الولايات المتحدة على دعمها العسكري في تونس، حتى أصبحت أكثر دولة تتلقى حاليًا مساعدات عسكرية من واشنطن من بين دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل (باستثناء مصر)، و تتمتّع تونس بامتيازات في الدعم الأمني والعسكري واللوجستي والمعلوماتي والمخابراتي، وهي امتيازات لا يتم اقتناؤها إلا من «الحلفاء الاستراتيجيين» لواشنطن، كما كانت تونس على رأس الدول التي زادتها واشنطن بشكل حاد من حجم التدريب العسكري، فتلقّى عسكريوها التدريب العسكري الأمريكي بشكل كبير، خاصة بعد الاتفاق الذي وقع في العام 2014 مع حلف شمال الأطلسي، وقضى بمحاربة الإرهاب وتأمين حدودها مع الجزائر وليبيا للحصول على التدريب، والتمويل العسكري الأجنبي.
وعند محاولة استعراض بعض هذه المساعدات الأمريكية، يمكننا الإشارة إلى ما قدم في أبريل (نيسان) 2015، حين قررت الولايات المتحدة تزويد تونس بالمزيد من المعدات والأسلحة والدعم الفني، فزادت المساعدات العسكرية لتونس ثلاث مرات عن قيمة الأعوام السابقة، أي أن مساعدات هذا العام ارتفعت بنسبة 200%، كما أن واشنطن التي نظرت إلى تونس باعتبارها شريكًا متوسطيًا ذا موقع استراتيجي، منحت هذا البلد في هذا العام صفة الحليف المتميّز السادس عشر لحلف شمال الأطلسي «من خارج الناتو»، أما في العام 2016 فقد حصلت تونس على ما لا يقل عن 81.9 مليون دولار من المعدات العسكرية والأمنية، وكانت ضمن تلك المساعدات 12 طائرة هليكوبتر من طراز بلاك هوك، وصواريخ هيلفاير، ورشاشات ونظارات للرؤية الليلية.
200 ألف هارب منها.. لماذا يعزف شباب تونس عن الخدمة العسكرية؟
وفي يونيو الماضي، تسلمت تونس من واشنطن تسع مدرعات مصفحة من نوع فورد مخصصة لفوج الفرقة العامة لمجابهة الإرهاب التابعة للداخلية التونسية، وكانت هذه المنحة في إطار برنامج متكامل لتعزيز التعاون الأمني مع واشنطن، وهو برنامج يتطلب تعزيز القدرات وتمكين الأمن التونسي من المعدات التي تساعده في التصدي للإرهاب، كما تقول المصادر الرسمية التونسية. وفي أغسطس (آب) الماضي، قال السفير الأمريكي لدى تونس دانيال روبنستين: إن بلاده «ستبدأ دعمًا عسكريًا لتونس، في إطار حربها على الإرهاب»؛ إذ إنه رغم تراجع العمليات الإرهابية في تونس في السنوات الأخيرة، لا تزال الولايات المتحدة ترى الخطر قائمًا ليس من المقاتلين التونسيين العائدين من دول الصراع فحسب، بل بسبب وجود العديد من هؤلاء داخل تونس؛ إذ يقوم (داعش) و«القاعدة» بتجنيد بعض السكان المحليين لشن هجمات إرهابية في الداخل، ويجري تجنيد هؤلاء خاصة في الجبال الغربية الفقيرة لتونس على طول الحدود مع الجزائر، سواء من التونسيين، أو الجزائريين، أو الليبيين، أو من أفريقيا جنوب الصحراء.

السفير الأمريكي في تونس دونالد أرمن بلوم – المصدر: جيتي
وبغض النظر عن كون الوجود العسكري الأمريكي في تونس كان دومًا مرفوضًا من القاعدة الشعبية، يثير الحقوقيون قضية أهمية ضمان عدم استخدام الأجهزة والأسلحة الأمريكية في انتهاكات حقوقية وقمع حريات، فتونس التي تتسلم المعدات العسكرية المباعة مجانًا أو بتكلفة مخفضة، ولكونها حليفًا غير تابع لمنظمة حلف شمال الأطلنطي يتم تخفيض القيود المفروضة على وصول هذه المعدّات لها؛ مما يثير القلق من كيفية استخدام هذه الأسلحة، ولذلك يقول الخبير في السياسة الخارجية والأمن وليام هارتونج: «القيود القصوى التي فرضها الكونغرس على الإنفاق الدفاعي الأمريكي في السنوات الأخيرة قد خفضت السوق المحلية لمقاولي الدفاع، ونتيجة لذلك يجاهد المتعهدون لتحقيق الأرباح من الأسواق الأجنبية في المناطق غير المستقرة؛ حيث يؤدي التمويل العسكري المتزايد من الولايات المتحدة إلى الحكومات المحلية إلى جني الأموال».
ويضيف هارتونج: «إن أكبر الآثار المترتبة على وضع حليف رئيس من خارج «الناتو» هو أن الولايات المتحدة ستسرع في تسليم الأسلحة، وسيكون لدى الكونجرس وقت أقل لمراجعتها في حالة القمع الداخلي، على الرغم من أن مسؤولي وزارة الخارجية سيقولون: إنهم ندموا على حدوث انتهاكات، فإنهم سيواصلون علاقاتهم العسكرية».
وقد زادت مخاوف التونسيين من التدخل الأمريكي العسكري في الساحة التونسية مع قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في أغسطس الماضي، اختيار الأمريكي دونالد أرمن بلوم، لمنصب سفير فوق العادة ومفوضًا للولايات المتحدة الأمريكية لدى تونس، فوصول «عراب صفقة القرن» الذي تولى بين عامي 2015 و2018 منصب قنصل عام بقنصلية للولايات المتحدة بالقدس المحتلة، وتوليه هذا المنصب في تونس «يخوله إبرام اتفاقيات باسم الدولة أو الهيئة التي يمثلها كما يمكنه أن يمثّلها لدى أكثر من دولة»، كما قال الإعلامي والناشط اليساري غسان بن خليفة مضيفًا: «بالنظر إلى خلفية بلوم ومسيرته الدبلوماسيّة، يمكن استنتاج أنّ المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من التدخّل الإمبريالي الأمريكي السافر في شؤون بلادنا».
تنظيم «داعش» في ليبيا يقوّي التعاون الأمريكي التونسي
في السابع من مارس 2016، وقع هجوم كبير في مدينة بنقردان التونسية الواقعة قرب الحدود الليبية، واستمرت الاشتباكات حتى اليوم التاسع من نفس الشهر؛ مما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 55 شخص معظمهم من (داعش) الذي تبنى الهجوم، في إطار محاولة لإقامة معقل على الحدود كما قال المراقبون.
وبينما شكل هذا الهجوم لدي بعض المسؤولين التونسيين قناعة أن تونس بحاجة إلى المزيد من المساعدة الأمريكية، أكد الحادث على قناعة أمريكية متوافقة مع القيادة التونسية أن ليبيا هي معقل «الإرهاب» الذي ما يزال يتطلب منها تكثيف حملات لمكافحة الإرهاب، واستهداف عناصر القاعدة وعناصر (داعش)، ففي وقت لم تعد الديمقراطية تمثل أولوية للولايات المتحدة في تونس، تمضى واشنطن نحو إعادة تأسيس سيطرتها في المنطقة، ومواجهة التنظيمات الإرهابية في ليبيا من داخل الأراضي التونسية، فصانعو السياسة في البيت الأبيض يرون أن ليبيا التي تمر في حالة من الاضطراب هي مربط الفرس في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ولذلك كانت تونس الخيار الأول لإدارة أوباما لاستضافة طائرات أمريكية بدون طيار بسبب قربها من ليبيا ولمصلحة واشنطن في توسيع العلاقات الأمنية مع تونس بأقرب وقت، باعتبارها شريكًا رئيسًا في معركة الولايات المتحدة مع تنظيم «الدولة الإسلامية» المنتشر في ليبيا.
كما أن الولايات المتحدة زادت مشاركتها العكسرية في ليبيا بسبب (داعش) كمصلحة أولى لها، ولقناعتها أن التعافي المستدام في تونس لا يمكن أن يحدث دون تسوية دائمة للأزمة الليبية، فحسب تقرير أعده المجلس الأطلسي للبحوث (Atlantic Council) فإن «الأولوية للقوى الأمريكية والأوروبية تتمثل في العثور على شخص ما أو شيء ما يمكنه الحد من مخاطر الهجرة غير القانونية، كما يريد العديد من الليبيين شخصًا ما أو شيئًا يمكن أن يجعل حياتهم قابلة للعيش. في الوقت الحالي».
ويوضح التقرير أن هذا لا يناقض مع الرغبة الأمريكية والأوروبية بأن تنجح تونس في مجابهة التطرف والإرهاب، وأن ينتهي تصديرها للجهاديين؛ إذ ما يزال التخوف قائمًا أن يؤدي أي هجوم في نهاية المطاف على مخابئ (داعش) في ليبيا إلى إرسال متشددين عبر الحدود إلى تونس، فحسب بيانات وزارة الداخلية التونسية منذ مطلع أغسطس 2018، نفذت 43 عملية اعتقال في مختلف أنحاء تونس بتهمة متعلقة بالإرهاب، تقول الخبيرة بشمال أفريقيا في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، سارة فوير: «معظم مرتكبي الهجمات الإرهابية الكبيرة في عام 2015 أمضوا بعض الوقت في ليبيا وحصلوا على الأسلحة والتدريب هناك».