مع اقتراب الانتخابات البرلمانية الثانية بتركيا التي ستقام في بداية نوفمبر المقبل ، يبدو أن المشهد قد ملأه الكثير من المستجدات السياسية والدبلوماسية والأمنية داخليًّا وخارجيًّا، وفي هذا التقرير نسلط الضوء على أبرز التطورات والقضايا التركية وانعكاساتها داخليًّا وعلى المنطقة ككل، فسنتناول الخلفية المعرفية للانتخابات البرلمانية الماضية، والتحديات الأمنية في الداخل التركي، وأزمة اللاجئين، والضربات الجوية الروسية بسوريا، والسناريوهات المستقبلية التي قد تشهدها تركيا في المستقبل، وسنستعين في معظم هذه المحاور بعدد من الأرقام لدراسة حديثة أجراها مركز “بو” نشرت في 15 أكتوبر الجاري عن الشأن التركي:
(1) نظرة إلى الماضي

المصدر: روسيا اليوم
في الانتخابات البرلمانية الماضية لم يحصل حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويرأسه رئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة ، إذ حصل الحزب على أكثرية الأصوات بنسبة 41%، تلاه حزب الشعب الجمهوري بـ 25.16% الذي يرأسه كمال دار أوغلو، تلاه حزب الحركة القومية بنسبة 16.5% الذي يرأسه دونت بهشلي، تلاه حزب الشعوب الديموقراطي بنسبة 13% الذي يرأسه صلاح الدين دميرطاش.
وفشلت الأحزاب في تكوين حكومة ائتلافية خلال 45 يومًا من إعلان النتائج، وهو ما يستلزم إعادة إجراء الانتخابات البرلمانية مرة أخرى، ليشارك الأتراك في الانتخابات البرلمانية الثانية بداية نوفمبر المقبل.
(2) الدماء تنفجر بتركيا!
حدث الانفجار الأول، بعده وفي خلال ثوان حدث انفجار آخر، ووجدنا أشلاء الضحايا ملقاة أمامنا. كان أصدقاء لنا هناك في موقع الحادث، أصابتنا الصدمة، إنه أسوأ مشهد رأيته في حياتي.
هكذا تحدث سيدار سيل، 23 عامًا، الذي كان شاهد عيان على تفجيرات ربما تكون هي الأكثر دموية في التاريخ التركي الحديث، إذ وقع انفجاران بأنقرة بالقرب من مركز تجمع لتظاهرات أقامها مجموعات يسارية من حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، لوقف القتال الدائر بين الحكومة التركية وحزب العمل الكردستاني، ذلك القتال الذي استأنفته الجبهتان في 2013 بعد انهيار وقف إطلاق النار ذلك القتال الذي يُزيد من التحديات الأمنية الداخلية التي تواجهها تركيا.
وقد أسفر ذلك التفجير المزدوج عن مقتل 97 وإصابة 246 بينهم 48 حالتهم حرجة، بحسب رئاسة الوزراء التركية، ورأى “أردوغان” أن الهدف من هذا التفجير: “الإيقاع بين أجزاء المجتمع المختلفة، لذلك على الجميع أن يتصرف بمسؤولية وحذر، وأنا أدعو الجميع إلى الوقوف في وجه الإرهاب وليس إلى جانبه”.
وفي سياق متصل قال رئيس الوزراء “أحمد داوود أوغلو” إن التفجير يهدف إلى التأثير على الانتخابات البرلمانية القادمة، وأفاد بأن “تنظيم الدولة الإسلامية” ومنظمة بي كا كا الكردية “حزب العمال” هما المتهمان الأساسيان في التفجيرات –التي لم تعلن أي جهة مسئوليتها عنها- وقد تم إحالة 11 متهمًا إلى المحاكمة واستوقفت السلطات التركية مؤخرًا 50 من رعاياها الأجانب للتحقيق معهم.
الدولة هاجمت الشعب.
هكذا علق صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، واستمر “دميرطاش” في توجيه انتقاداته للحكومة التركية وتشكيكه فيها: “نحن نقول إن داعش لا يمكنه تنفيذ هجوم من هذا النوع دون دعم رسمي في تركيا، فقد سبق أن حصلت عملية تفجير في ديار بكر كان الهدف منها قتل المئات، واتضح أن الانتحاري الذي نفذها كان معتقلًا لدى الشرطة التي أفرجت عنه ليعود بعد ذلك بساعات فينفذ التفجير، وقد جرى ترقية العسكريين الذين أفرجوا عنه، ما يزيد الشكوك حول ما يحصل”.
ويرى بعض المعارضين أن الحكومة تستخدم “تنظيم الدولة ” ككبش فداء بعدما فشلت في مواجهته”، لافيتن إلى أنه من الممكن أن يكون عناصر”الدولة العميقة” هي من نفذت التفجير لتقوية نفوذها قبيل الانتخابات القادمة.
جاء ذلك الهجوم يوم 10 أكتوبر تزامنًا مع إعلان حزب العمل الكردستاني وقفه لإطلاق النار من طرف واحد، وهو ما اعتبرته الحكومة التركية مناورة سياسية لزيادة حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات المقبلة.
ولم يكن ذلك الهجوم الأول منذ بداية العام الجديد فقد تعددت الأحداث الدموية كان أشدها بعد التفجير الأخير ، هو التفجير الانتحاري “المشابه” الذي وقع في 20 يوليو بمدينة سروج وأدى لمقتل 33 شخصًا.
وتكاثر التحديات الأمنية بتركيا قد يجعلها أكثر ارتباطًا وانشغالًا بالشأن الداخلي، ويقلل من مساهمتها في القضايا الإقليمية، كما أن تلك التفجيرات التي ازدادت في تركيا وما يسقط عنها من ضحايا يفتح المجال لمعارضي الإدارة التركية في استغلال الفرصة في كسب تأييد شعبي قد يُقلل من فرص حزب العدالة والتنمية في الحصول على أغلبية تمكنه من تكوين الحكومة.
(3) أزمة اللاجئين.. مؤشرات إيجابية
بجانب التحديات الأمنية التي تواجها الإدارة التركية، تضاف أزمة اللاجئين السوريين من التحديات على عاتق الإدارة التركية؛ فتركيا تتصدر دول العالم في استقبالها للاجئين السوريين الذي يبلغ تعدادهم داخل تركيا حوالي.2 2 مليون، “صرفت تركيا 8 مليار دولار لتلبية احتياجاتهم، في حين بلغ إجمالي مساعدات المجتمع الدولي، لتركيا من أجل اللاجئين، 417 مليون دولار فقط” بحسب “أوغلو”. وتلك الجهود الإنسانية التي تبذلها تركيا في ذلك الملف لا تبدو أنها تلقى الترحيب الكافي من الشعب التركي الذي يرى 67% منه “أن الدولة التركية ينبغي أن تستقبل عدد أقل من اللاجئين” بحسب استطلاع مركز بو الذي أجراه على عينة قوامها 947 شخصًا تم إجراؤه في أبريل ومايو ، ونشر في 15 أكتوبر الجاري.
“الاتحاد الأوروبي أدرك متأخرًا جدًّا أهمية تركيا في وقف تدفق اللاجئين السوريين لأوروبا” هكذا أكد “أردوغان” في 16 أكتوبر بعد اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يخفف من حدة أزمة اللاجئين بالداخل التركي، يقضي بدعم تركيا ب (3 مليارات يورو أي 3.4 مليار دولار) لمساعدة اللاجئين وتحسين ظروف معيشتهم.
“أود أن أعرب عن إدراكنا بأن تركيا تحمّلت مهمة صعبة، من خلال استقبالها أكثر من مليوني لاجئ حتى اليوم”.
هكذا أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال لقائها مع أردوغان يوم 18 سبتمبر، مشددة: “نحن ندافع بصورة مطلقة عن ضرورة تقاسمنا معًا العبء الذي تتحمله تركيا ودعمها في هذا الإطار”، وتعتبر تلك المستجدات الأخيرة مؤشرًا على الاتجاه لحلحلة أزمة اللاجئين السوريين بتركيا بدعم ألماني وأوروبي.
وقال أوغلو خلال لقائه مع “ميركل” :”نتطلع إلى إخراج العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي من حالة الجمود وتسريع مسيرة مفاوضات العضوية فيه بشكل يجلب حيوية جديدة”. تلك العضوية التي تتماشى مع رغبة 55% من الأتراك بحسب دراسة مركز بو.
(4) التدخل الروسي بسوريا هل يجر تركيا إلى الحرب؟
لا يتوقف الدعم التركي للقضية السورية على ملف اللاجئين فقط؛ فتركيا من ضمن التحالف الدولي الذي يشن ضربات جوية لـ”تنظيم الدولة” وتسعى للإطاحة بالرئيس السوري “بشار الأسد” الذي أوجد ظهيرًا جويًّا عسكريًّا في نهاية سبتمبر الماضي من قبل الغارات الجوية الروسية التي تُثبّت بشكل مباشر أو غير مباشر من أركان النظام السوري وتُطيل من أمد الصراع.
في اللحظة الراهنة ترتكب روسيا خطأ كبيرًا. وربما يكون هذا مؤشرًا على خطوة تأخذ روسيا في عزلة في هذه المنطقة، وسنتخذ الإجراءات ضدها.
هكذا علق “أردوغان” على التدخل العسكري الروسي بسوريا، ومما أجج الخلاف التركي مع روسيا، هو اختراق طائرة روسية المجال الجوي التركي بالقرب من الحدود التركية السورية، مما دفع دفاع الجو التركي بإرسال طائرتين إف 16 لإخراجها، واستدعاء السفير الروسي بتركيا للاحتجاج وقالت: “إن روسيا ستكون مسؤولة عن أي واقعة غير مرغوب فيها قد تحدث إذا تكرر الاستفزاز”.
وبعدها أسقطت تركيا طائرة بدون طيار اخترقت مجالها الجوي ، وحامت الشكوك حول كون تلك الطائرة “روسية” تلك الشكوك التي أثارها مسئول أمريكي، ونفتها روسيا، وصرح “أردوغان مؤخرًا بأن روسيا قد تخاطر بفقدان علاقتها مع أنقرة، وتجدر الإشارة إلى أن البلدين يمتلكان علاقات اقتصادية قوية؛ إذ تفيد آخر الإحصاءات لعام 2014 أن تركيا تستورد 10% من وارداتها من روسيا وهو ما يمثل 5% من الصادرات الروسية.
وبشكل عام فإن دخول روسيا المفاجئ بالحرب السورية وتصاعد لهجة الخطاب بين روسيا وتركيا قد يجر الأخيرة إلى حرب قد لا تستطيع أن تتحمل تبعاتها!
(5) مستقبل ضبابي
يبدو مستقبل حزب العدالة والتنمية محفوفًا بالمخاطر، إذ أفاد آخر استطلاع أجراه مركز بو لاستطلاعات الرأي عن الشأن التركي بعدد من المؤشرات غير الإيجابية عن الإدارة التركية الحالية، إذ لا يرضى 54% من العينة عن وضع الدولة التركية بشكل عام في مقابل 44% راضين، ويرى 52% من الأتراك أن أولادهم سيعيشون في وضع أسوأ اقتصاديًّا بالمستقبل.
وبلغت نسبة المؤيدين لـ”أردوغان” 39% في مقابل 51% معارض، وكانت نسبة المؤيدين لأردوغان وصلت لقمتها في 2013 بنسبة 62% في مقابل 32% معارض، وانخفضت العام الماضي لـ51% لتصل هذا العام لـ39%.
ويرى 45% من الأتراك أن للحكومة تأثير جيد على مجريات الأحداث بتركيا في مقابل 48% يرونه سيئًا، ويتفوق الجيش في هذا الصدد؛ إذ يرى 52% أن تأثيره جيد في مقابل 37% يرونه سيئًا، وينقسم الأتراك حول مدى رضاهم عن سير العملية الديموقراطية بـ49% لكل من المؤيدين والمعارضين.
كل هذه الأرقام التي عبرت في مجملها عن الاتجاه السلبي -ولو بشكل طفيف- عن الإدارة التركية، كانت من دراسة تم إجراؤها في الفترة من 5 أبريل لـ15 مايو، أي قبل المواجهات الأمنية بين الدولة التركية من ناحية وجماعتي “بي كا كا” و”تنظيم الدولة” وقبل تفجيرات أنقرة الأخيرة.
وهو ما قد يؤثر سلبًا على الحزب الحاكم بتركيا ليستغله حزب”الشعوب الديمقراطي” الكردي في الانتخابات البرلمانية، ويستفاد منه أقرب منافسيه وهو حزب “الشعب الجمهوري” والذي يختلف مع “العدالة والتنمية” في العديد من القضايا الإقليمية من أبرزها موقفه تجاه الثورة السورية التي يعارضها؛ مما قد ينعش من فرص بقاء الأسد ويهدد من مستقبل حوالي 2.2 مليون لاجئ سوري بتركيا، ذلك بالإضافة إلى المعارضين المصريين الذين ذهبوا إلى تركيا بعد 3 يوليو 2013، قد تساعد الحكومة التركية على تسليمهم إلى الجانب المصري.
وبشكل عام تتسارع المستجدات بتركيا وتظل الأرقام الواردة شديدة التقارب يصعب التنبؤ من خلالها بسيناريو معين لمستقبل تركيا.