في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته لطهران، إن بلاده قررت التعامل بالعملات المحلية في علاقاتها الاقتصادية مع إيران، وذلك بهدف التخلص من ضغوط العملات الأجنبية، وسيتم التوقيع على اتفاق في هذا الإطار من قبل المصرف المركزي في كل من تركيا وإيران، على حد ذكره، وهذا التصريح لا يعد الأول من نوعه بالنسبة للرئيس التركي، بل سبق أن تحدث عن نفس الخطوة مع روسيا والصين وكذلك الهند، وذلك في مساعٍ على ما يبدو لإيجاد مكان بالنظام المالي العالمي للعملة التركية، وهو ما يدعم الليرة أمام الدولار الأمريكي.
بعد إعلان أردوغان، لم يمر سوى يومين حتى أعلنت بورصة موسكو، أنها ستبدأ التداول بالليرة التركية اعتبارًا من العام المقبل، وتحديدًا في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، إذ قال ديميتري بيسكولوف رئيس قسم تداول العملات الأجنبية في بورصة موسكو، إن فكرة استخدام الليرة التركية في بورصة موسكو هي نتاج المشاورات بين البنوك الروسية والتركية، مشيرًا إلى أن الطلب على الليرة التركية جاء بناءً على العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وبعيدًا عن التراجع الذي لحق بالليرة في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، بسبب تزايد حدة التوتر الدبلوماسي بين أنقرة وواشنطن، إذ انخفضت قيمة الليرة التركية بنسبة 2% أمام الدولار، لكن يبدو أن تركيا تعمل وبخطى ثابتة نحو إيجاد مكان لعملتها المحلية بين الكبار، وهذا اتضح جليًا خاصة بعد فشل محاولة الانقلاب، إذ تمكنت البلاد من الحفاظ على قوة عملتها وسط أوضاع اقتصادية صعبة، ولكن لا تريد أنقرة أن تقع فريسة لتقلبات العملة مرة أخرى، وسنتعرف خلال هذا التقرير كيف تسعى تركيا لدعم الليرة وكبح تأثير العملات الأخرى عليها.
كيف تسعى تركيا لدعم الليرة؟
بات التبادل التجاري أهم الطرق التي تسعى تركيا من خلالها لدعم عملتها المحلية، إذ نقل موقع «فيستي» الاقتصادي الروسي في أغسطس (آب) 2016، أن أنقرة تسعى إلى اعتماد نظام جديد للتجارة مع روسيا، يهدف لاستخدام عملتي البلدين (الليرة التركية والروبل الروسي) في الحسابات التجارية بينهما، ما سيعزز مواقع العملتين أمام الدولار، حيث اقترح الرئيس التركي على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين الابتعاد عن عملة الدولار في التجارة بين روسيا وتركيا، واعتماد إما الليرة التركية أو الروبل الروسي في الحسابات التجارية بين البلدين.
ويبدو العرض جيدًا، حال تم تنفيذه إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا نحو 30 مليار دولار سنويًا، لكن حجم التجارة تراجع العام الماضي بعدما فرضت موسكو قيودًا على أنقرة، لكن الرئيس التركي قال في مؤتمر صحفي عقد بعد قمة بوتين-أردوغان في مدينة سان بطرسبورغ في التاسع من أغسطس (آب) 2016، إن بلاده تسعى لزيادة التبادل التجاري مع روسيا إلى 100 مليار دولار سنويًا.
لا يتوقف الأمر عند روسيا فقط، ففي 6 ديسمبر (كانون الأول) 2016، أعلن أردوغان، الأحد، أن بلاده ستسعى للتبادل التجاري مع روسيا وإيران والصين بالعملات المحلية، وذلك خلال كلمة افتتاح مشروعات في ولاية قيصري التركية، وفي مايو (أيار) الماضي، إذ صرح أردوغان على هامش منتدى الأعمال التركية-الهندية في الهند، أن الدولتين تدرسان إمكانية التخلي عن استخدام الدولار الأمريكي في تعاملاتهما، إذ أكد في كلمته أنه يمكن تنفيذ عمليات الصادرات والواردات بالعملات المحلية للبلدين، الأمر الذي سيقلل من التأثر بتقلبات الدولار وأسعار صرفه.
ومؤخرًا، وخلال زيارة أردوغان إلى إيران مطلع الشهر الجاري، تم الاتفاق على استخدام العملة المحلية بديلًا عن الدولار في التبادل التجاري بين تركيا وإيران، بينما قال رئيس اتحاد اقتصاديات الطاقة كوركان كومبار أوغلو، إن العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران ستشهد تطورًا جديًا خلال الفترة المقبلة، مشيرًا إلى إنشاء أول مركز تجاري تركي في العاصمة طهران في الأشهر الأخيرة، ويتوقع رئيس مجلس الأعمال التركي الإيراني بيلغين آيغول، أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 30: 35 مليار دولار في السنوات المقبلة.
يشار إلى أن أول عملية تبادل للعملات المحلية بين البنك المركزي التركي ونظيره الصيني، جرت في 30 (تشرين الثاني) نوفمبر الماضي، فيما أعلنت بكين في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2016 بشكل رسمي أنه سيتمكن الأعضاء المتعاملون في سوق العملات الأجنبية بين البنوك والمؤسسات التعامل بشكل مباشر في تعاملاتهم بالليرة التركية و«رنمينبي» الصيني.
وتوصلت تركيا والصين إلى اتفاق لتبادل العملات بقيمة 10 مليارات يوان في عام 2012، فيما قام الجانبان في 2015، بتمديد فترة الاتفاقية لمدة ثلاثة أعوام لتصل القيمة إلى 12 مليار يوان (1.88 مليار دولار أمريكي) وستكون قابلة للتمديد، وتهدف اتفاقية تبادل العملات بين أنقرة وبكين إلى تعزيز التعاون المالي وضمان التوازن ودعم التجارة والاستثمار الثنائي وضمان الاستقرار الإقليمي المالي.
على الجانب الآخر، قال وزير الطاقة التركي، براءت ألبيراق، مؤخرًا، إن بلاده بدأت العمل من أجل استخدام الليرة التركية في استيراد الغاز من روسيا، مضيفًا أن كافة المؤسسات المعنية تعمل من أجل تطبيق هذه الخطوة، موضحًا أن تركيا ستبدأ، خلال المرحلة القادمة، التعامل بالعملة الوطنية مع البلدان الرائدة في تصدير الطاقة.
الصادرات تدعم المسار التركي
وبالنظر إلى تطور الصادرات التركية، سنجد أن مثل هذه الاتفاقات ستدعم العملة المحلية بشكل كبير، فبحسب مجلس المصدرين الأتراك فقد ارتفعت صادرات تركيا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، بنسبة 8.9%، مقارنة بالشهر نفسه من العام المنصرم 2016، إذ بلغت 11 مليارًا و337 مليون دولار، مرتفعة بذلك خلال الأشهر التسعة الأولى من 2017، بنسبة 10.6%، مقارنة بالفترة نفسها من 2016، بواقع 114 مليارًا و661 مليون دولار.
في المقابل تضاعفت الصادرات التركية بالعملة المحلية إذ سجلت زيادة بنسبة 102% خلال النصف الأول من 2017، مقارنة بالفترة نفسها من 2016، إذ بلغت قيمتها 7.5 مليار دولار أمريكي، بينما زادت الواردات بالليرة التركية بـ24.7%، إذ وصلت قيمتها إلى 8.6 مليار دولار، خلال الفترة نفسها، وفق معطيات هيئة الإحصاء التركية.
اقرأ أيضًا:
وقالت الهيئة، حسبما نقلت وكالة أنباء «الأناضول»، إن حصة الليرة التركية في صادرات تركيا بالنصف الأول من العام الماضي، كانت 5.1% من إجمالي الصادرات، وارتفعت إلى 9.7% في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، وفيما يخص الاعتماد على الليرة التركية في الواردات، ارتفعت النسبة إلى 7.9% في النصف الأول من العام الجاري، بعد أن كانت 6.9% في الفترة ذاتها من 2016، هو ما يكشف الخطة التركية في مسارها نحو النجاح.
وفي ظل التوقعات القوية بمزيد من النمو الاقتصادي سيكون تحقيق مستهدف تركيا أسهل كثيرًا، إذ كان بنك الاستثمار الدولي «غولدمان ساكس»، توقع أن يصل مستوى نمو تركيا خلال الربع الثالث من العام الحالي إلى نحو 7%، قائلًا إن «هناك توقعات نمو قوي، وبنفس الوقت كان من المتوقع استمرار الصادرات بقوة وزيادة الواردات»، فيما سجل الاقتصاد التركي نموًا بـ5.1%، خلال الربع الثاني من العام الجاري، بنسبة الضعف لمتوسط النمو المسجل في دول الاتحاد الأوروبي (28 دولة)، البالغ 2.4%.
الذهب.. حائط صد أمام التقلبات
لا تعتمد تركيا على الصادرات فقط في حماية عملتها المحلية، ولكن يبدو أن اتجاه البنك المركزي التركي لزيادة احتياطاته من المعدن الأصفر (الذهب) هو بمثابة حائط صد أمام أي تقلبات، إذ يعد الذهب ملاذًا آمنًا في مواجهة أي مشكلات أو تحديات اقتصادية مستقبلًا، فوفق بيانات رسمية، عزز المركزي التركي احتياطاته من الذهب لتصل إلى نحو 137.1 طنًا منذ بداية العام الجاري، بزيادة قدرها نحو 21 طنًا أو ما يعادل 11.8% عن 2016.
ويرى المحللون أن زيادة احتياطي الذهب يسهم في التخفيف من حدة تقلبات أسعار العملات الدولية الأساسية في الاحتياطي، ما يضفي مزيدًا من الاستقرار على العملة المحلية (الليرة)، وبحسب الموقع الرسمي لمجلس الذهب العالمي، «تهدف هذه السياسة إلى تشجيع زيادة استخدام الذهب ضمن النظام المالي في تركيا، ما يؤكد التزام تركيا بالاحتفاظ بالذهب أصلًا احتياطيًا رئيسيًا لها».
ويقول أحمد ذكر الله رئيس قسم الاقتصاد والإدارة في الجامعة العالمية للتجديد (غير حكومية) بإسطنبول، خلال تصريح لوكالة الأنباء التركية، إن هذا الاتجاه «يقلل من مخاطر تقلبات أسعار العملات الدولية الأساسية في الاحتياطي التركي، ما يضفي مزيدًا من الاستقرار على الليرة التركية والمدفوعات الأجنبية التركية في شتى المجالات»، مضيفًا: «الاستراتيجية التركية في تنويع الاحتياطي ليست جديدة، فقد أبرمت السلطات التركية العديد من الاتفاقات التجارية التي تتم بالعملة المحلية بعيدًا عن الدولار مع روسيا والسعودية وغيرها، وهو ما يعزز الإرادة الاقتصادية التركية».
توقعات بمستقبل أفضل للعملة التركية
يعد الاستفتاء الشعبي المتعلق بالتعديلات الدستورية في تركيا خلال أبريل (نيسان) الماضي نقطة تحول في مسار العملة التركية، إذ تراجع مؤشر الدولار الأمريكي، مقابل الليرة التركية عقب خروج نتيجة «نعم»، بنحو 3%، حيث بلغ سعر صرف الدولار 3.62، في حين أنه كان يعادل 3.73 في الأسواق العالمية قبل الاستفتاء.
اقرأ أيضًا:
وقال تيموثي آش، كبير الاستراتيجيين في الأسواق الناشئة في مؤسسة «بلوباي» (Bluebay) لإدارة الأصول في لندن، إنه يتوقع بقاء الليرة التركية مستقرة ومحافظة على قوتها لبقية العام الجاري 2017، موضحًا أن التطورات العالمية الحاصلة اليوم سيكون لها دورٌ كبيرٌ في دعم الليرة التركية في المستقبل خاصةً بوجود البيئة الاقتصادية الحالية التي استطاعت حماية الليرة التركية من الصعوبات والمخاطر التي واجهتها.
بينما يرى تشارلز روبرتسون، كبير الاقتصاديين لدى بنك الاستثمار الدولي «رينيسانس كابيتال»، إن اهتمام المستثمرين الأجانب بتركيا ما زال متواصلًا، متوقعًا أن ترتفع قيمة الليرة التركية خلال الفترة المقبلة.
اقرأ أيضًا:
وعمومًا يبدو أن الدعوة التي أطلقها الرئيس التركي في ديسمبر (كانون الأول) 2016، بتحويل العملات الأجنبية إلى الليرة التركية أو الذهب، واستجابت لها وزارات ومؤسسات حكومية تركية، ووسائل إعلام ورجال أعمال وتجار ومواطنون، جاءت بثمارها، وفي نفس التوقيت كذلك ومع بداية 2017 عندما كانت أوضاع الليرة التركية صعبة للغاية، كان الجميع ينتظر من تركيا أن ترفع سعر الفائدة لإنقاذ عملتها، ولكن من المعلوم أن هذا الحل ربما يكون مضرًّا للاقتصاد، ولا شك أن الآن ظهر جليًا ذكاء الأتراك في التعامل مع الموقف، إذ رفضت اللجوء للحل السريع، وفضلت دعم العملة عن طريق الاقتصاد الحقيقي.