في تصريحات خاصة لوكالة أنباء الأناضول التركية، هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من قال إنهم «إرهابيون يحملون الدولار واليورو، لا فرق بينهم وبين الإرهابيين الذين يحملون الأسلحة والقنابل»، في إشارة إلى ما يمكن تسميته بالسوق السوداء للنقد الأجنبي في تركيا.
أردوغان في تصريحاته التي أطلقها يوم الخميس 12 يناير (كانون الثاني)، أشار إلى تعرض تركيا إلى «هجمات تتعرض لها البلاد ذات أبعاد اقتصادية»، وذلك في ظل الهبوط الحاد الذي تشهده قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية الرئيسية.
وكان سعر صرف الليرة قد هبط إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأمريكي يوم الأربعاء 11 يناير (كانون الثاني)، عندما وصل سعر صرف الدولار إلى 3.93 ليرة، إذ انخفضت قيمتها بنسبة 12% منذ بداية العام الجديد، كما شهدت العملة انخفاضًا بنسبة 17% خلال عام 2016، قبل أن ترتفع قليلًا عقب خطاب أردوغان مباشرة، ليساوي الدولار الواحد 3.73 ليرة.
من جانبها، ألقت الحكومة التركية اللوم على المضاربين في العملة، لتصف ما يحدث بأنه «انقلاب اقتصادي»، فيما هدد البنك المركزي المضاربين، في 10 يناير (كانون الثاني) 2017، باتخاذ تدابير ضدهم، وضد ما أسماها «الأسعار الفاسدة التي لا تتسق مع الأسس الاقتصادية».
ليس انخفاضًا حديثًا
بعود انخفاض قيمة الليرة التركية إلى عام 2015، وتحديدًا منذ مرحلة ما بعد الانتخابات العامة في يونيو (حزيران) 2015، عندما لم يتمكن حزب العدالة والتنمية الحاكم من الحصول على أغلبية الأصوات التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا.
في ذلك الوقت، بدأت مشاورات الحزب مع الأحزاب الثلاثة الأخرى من أجل تشكيل حكومة ائتلافية، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، وسط تدهور قيمة العملة التركية تدريجيًّا؛ بسبب انعكاس اضطراب المشهد السياسي على تخوفات المستثمرين، والثقة في الاقتصاد التركي.
قبل إجراء الانتخابات مباشرة، كان الدولار يساوي 2.68 ليرة تركية، لتبدأ العملة في الارتفاع بشكل ملحوظ حتى وصلت أقل قيمة لها بقيمة 3.02 ليرة لكل دولار في شهر سبتمبر (أيلول) 2015، عندما بدأت مفاوضات تشكيل الحكومة تصل بالفعل لطريق مسدود.
وبعد إجراء انتخابات الإعادة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وفوز حزب العدالة والتنمية بأغلبية مريحة تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، شهدت العملة استقرارًا نسبيًّا في حدود 2.91 ليرة لكل دولار، ثم بدأت تهبط حتى وصلت لأقل قيمة لها في 2016 عند حدود 2.79 ليرة لكل دولار في شهر أبريل (نيسان)، مع توقعات باستقرار العملة وتعافي الاقتصاد مع استقرار الوضع السياسي.
سعر الليرة التركية حاليًا 3.79 ليرة لكل دولار لحظة كتابة التقرير، وهو ما يعني أنه منذ منتصف 2015 وحتى الآن، فقدت الليرة التركية حوالي 52% من قيمتها، وهو تدهور غير مسبوق للعملة في أحد أبرز الاقتصادات النامية في العالم في السنوات العشرين الأخيرة.
أسباب متعددة
وأشارت العديد من المواقع الاقتصادية المتخصصة لعدة سيناريوهات، قد تفسر مجتمعة السبب وراء هذا الانخفاض الحاد الذي يبدو أنه قد يستمر خلال الفترة المقبلة.
من هذه الأسباب كان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وهو ما صاحبه اتجاه المستثمرين لسحب أموالهم من تركيا، وسط توقعات بتزايد حالة عدم الاستقرار في العالم، خصوصًا الدول النامية، وارتفاع معدلات الفائدة في الدول المتقدمة.
يُضاف إلى هذا تعرض تركيا لسلسة اعتداءات إرهابية نفذها موالون لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومسلحون أكراد، وهو ما تسبب في تأزم حركة السياحة، وتراجع أعداد السياح بشكل ملحوظ وحاد.
وتعد أيضًا عملية درع الفرات التي تنفذها القوات التركية في شمال سوريا، أحد العوامل المساعدة على زيادة المخاوف تجاه الاستقرار الأمني، وبالتالي الاقتصادي في البلاد. حتى الجدل الحاصل بخصوص التعديلات الدستورية، أو الدستور الجديد المزمع تشكيله وتغيير نظام الحكم في البلاد فيه من برلماني إلى رئاسي، هو أحد العوامل المؤثرة في المشهد السياسي، وبالتالي ينعكس أيضًا على ثقة المستثمرين في الاقتصاد.
ولعل عملية الانقلاب الفاشل التي شهدتها البلاد في 15 يوليو (تموز) 2016، كانت أحد أبرز العوامل المساهمة في تأزيم المشهد الاقتصادي في البلاد، بعدما أرسلت عملية الانقلاب، وتداعياتها السياسية، والاجتماعية، والأمنية، مخاوف شديدة تجاه الاقتصاد التركي، واستقرار الأوضاع في البلاد، وبالتالي مخاوف المستثمرين من ضخ أموال جديدة.
هناك أيضًا فاتورة الطاقة التركية التي زادت بعدما اتفقت الدول الأعضاء في منظمة أوبك على خفض مستويات الإنتاج، والذي دفع أسعار النفط إلى مستويات مرتفعة فوق 54 دولارًا للبرميل، وهو ما يزيد الضغوط، ويرفع التكلفة على واردات الحكومة من النفط. ويعرف عن تركيا أنها تستورد 90% من استهلاكها النفطي، ولذلك فإن سعر النفط يؤثر سلبًا في الليرة.
عامل آخر مهم يتمثل في ارتفاع مديونيات الشركات التركية، والتي تبلغ قيمتها 210 مليارات دولار، العامل الثاني الذي أدى لضعف الليرة التركية ديون الشركات المرتفعة، والتي تبلغ قيمتها 210 مليارات دولار، وانخفاض الليرة وارتفاع الدولار يفاقم أزمة هذه الشركات، خاصة فيما يتعلق بالفوائد التي تترتب على هذه الشركات، لذلك تسعى الشركات لتوفير الدولار على حساب العملة المحلية ،ما يدفع الليرة لمزيد من التراجع.
وذكر موقع بلومبيرج الاقتصادي أن المستنقع السياسي الذي أدخلت تركيا نفسها فيه حاليًا، تفاقم نتيجة تقاعس البنك المركزي، ووصول معدلات التضخم لحدود أعلى من المتوقعة، وهو ما جعل الليرة التركية هي العملة صاحبة أسوأ أداء في 2017.
ويتهم الموقع البنك المركزي التركي بالتلكؤ، قائلًا إن الاقتصاد التركي شهد انكماشًا للمرة الأولى منذ سبع سنوات في البيانات الأخيرة، وإن البنك المركزي يتعرض لضغوط من السياسيين، من بينهم الرئيس رجب طيب أردوغان لدعم النمو الاقتصادي، وعدم اتخاذ قرارات من شأنها حد النمو الاقتصادي.
الحل السهل مرفوض.. ولكن
ويصر الرئيس التركي، أردوغان، على رفضه واستنكاره لأسهل الحلول الاقتصادية التي يمكن أن تحل مشكلة الليرة وتعيد قوتها، رفع أسعار الفائدة.
ويرى أردوغان أن رفع أسعار الفائدة (معناه ارتفاع قيمة العملة تلقائيًّا) سيتسبب في كبح تطور الاقتصاد التركي، وصافًا هذه الخطوة بأنها «مؤامرة على البلاد». وقبل الخوض في التفاصيل ربما علينا توضيح معنى سعر الفائدة، وتأثيره في العملة.
فسعر الفائدة هو السعر، أو القيمة التي يدفعها البنك المركزي في دولة ما على الإيداعات المالية الموجودة في البنوك التجارية (جميع البنوك الأخرى عدا البنك المركزي)، سواء كانت هذه الإيداعات يجري استثمارها بالبنوك لمدة ليلة واحدة، أو شهر، أو أكثر. ويعد هذا السعر مؤشرًا لأسعار الفائدة في البنوك التجارية، والتي ينبغي ألا تقل قيمتها عن سعر فائدة البنك المركزي.
التحكم في سعر الفائدة صعودًا ونزولًا معناه التحكم في عرض النقد في التداول على المدى المتوسط. وبعبارة أبسط، فإن رفع سعر الفائدة يعني كبح عملية الاقتراض، إذ إن هذا يعني أن القرض الذي ستأخذه من البنك ستكون عليه قيمة فائدة أعلى عليك تسديدها، وبالتالي يحجم الأفراد على الاقتراض، ويفضلون وضع أموالهم كما هي في البنوك للحصول على فوائد أعلى. هذا الأمر يعني زيادة قيمة الإيداعات من العملة المحلية والعملات الأجنبية بالبنوك، وبالتالي تقليل نسبة السيولة في السوق؛ مما يؤدي إلى خفض نسبة التضخم، وبالتالي ازدياد الأسعار، كما يؤدي لزيادة حجم الاحتياطي النقدي، وبالتالي زيادة قيمة العملة المحلية.
والعكس، فإن انخفاض قيمة سعر الفائدة معناه أن أموالك في البنك ستأتي لك بنسبة أرباح وفوائد أقل، كما أن الأفراد سيتشجعون تجاه اقتراض الأموال من البنوك، وهو ما يعني زيادة نسبة السيولة في الأسواق، وزيادة عمليات الاستثمار، والبيع، والشراء؛ مما ينعش الاقتصاد، ويخفض الأسعار، لكن في المقابل من الممكن أن تنخفض قيمة العملة المحلية إذا كانت هناك تهديدات واضحة للاقتصاد.
ويطالب الرئيس التركي بخفض معدل الفائدة من أجل القفز بالاقتصاد الذي توقف نموه بشكل واضح. وتشير الإحصائيات إلى حدوث تقلص في حجم الاقتصاد التركي بنسبة 1.8% خلال الربع الثالث من عام 2016، وتزامن هذا مع حدوث انخفاض في ثقة المستهلكين، وانخفاض التصنيع، وزيادة الائتمان، وزيادة معدلات التضخم.
وسار بالفعل محافظ البنك المركزي التركي مراد ستينكايا، على رغبة أردوغان؛ فخفض سعر الفائدة المرجعي 250 نقطة أساسًا، قبل أن يرفعه قليلًا بقيمة 50 نقطة، ثم 25 نقطة.
الأمر المهم هنا هو اجتماع البنك المركزي التركي يوم 24 يناير (كانون الثاني) 2017، والذي تتجه إليه الأنظار حول القرار المزمع اتخاذه، سواء تثبيت سعر الفائدة، أو رفعها من أجل الحد من تدهور قيمة العملة المحلية.
وذكر الاقتصادي أنتي بريفكه، من بنك كومرتس، إن زيادة حجم المعروض من العملات الأجنبية في البنوك ليس كافيًا لمواجهة انخفاض قيمة الليرة التركية، مضيفًا: «سيكون على البنك المركزي التركي أن يفعل أكثر من ذلك دون شك». كما أوضح خبيرا الاقتصاد في مجموعة سيتي جروب، ألكير دوماك، وجولتيكين إسيكلار، أن النتائج السلبية لانخفاض قيمة العملة التركية صعبت كثيرًا عملية الإبقاء على الموقف المتكيف للبنك المركزي.
وأوضحا أن «أداء تركيا المحبط المتعلق باستقرار الأسعار ينسحب بصورة أكبر على تنافسية البلاد، في ظل أوضاع اقتصادية عالمية متغيرة حاليًا».
الحاجة لإصلاحات هيكلية
قال جميل إرتيم، أحد كبار مستشاري الرئيس التركي، في تصريح لوكالة أنباء الأناضول، إنه على الرغم من الحاجة في تركيا لعملية إصلاحات اقتصادية هيكلية، فإن هذا العيب وحده لا يبرر مثل هذا التقلب الحاد في أسواق الصرف الأجنبي، مشيرًا بأصابع الاتهام إلى المضاربة.
وذكر أن الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة المتعلقة بهبوط سعر صرف الليرة بشكل حاد، تكمن في ضحالة الأسواق التركية؛ نظرًا لعدم وجود إصلاحات هيكلية، بالإضافة إلى حركات المضاربة. مضيفًا: «نحن نرى أنه لا يوجد طلب كبير على عملات النقد الأجنبي من المصدرين لدينا. ونحن نرى أن هناك أيضًا عدم وجود طلب قوي من المؤسسات العامة. فمن أين يأتي هذا الطلب الكبير على العملات الأجنبية؟».
إنقاذ خليجي
وكان زايد بن عويضة، رئيس مجلس أبوظبي للاستثمار، ذكر أن كبرى الشركات الخليجية، وتحديدًا الشركات السعودية والإماراتية والقطرية، تستعد لبدء سلسلة استثمارات ضخمة في تركيا، بقيمة تتجاوز المائة مليار دولار أمريكي.
وأوضح أنه قام بتقديم تقرير إلى مجلس التعاون الخليجي سوف «يسهم في تدفق مئات المليارات من الدولارات نحو تركيا من دول المجلس»، وذلك حسب ما ذكرته صحف تركية، نقلًا عن مقابلة لابن عويضة مع موقع بلومبيرج المتخصص.
وقال: «قررنا القيام بهذه الاستثمارات؛ لأن هناك تعاونًا سياسيًّا حقيقيًّا بين تركيا وبلداننا. ومع بدء تدفق السيولة، أظن أننا سنتغلب على مشكلة ارتفاع سعر صرف العملة، حيث يمكننا إصلاح آثاره السلبية على الاقتصاد بالاستثمار».