عديدة هي التقارير الصحافية والورقات البحثية التي تتفق فيما بينها عنوانًا ومضمونًا حول تدخّل الإمارات في الشؤون الدّاخلية للدول الأخرى. يكفي أن تنقر عبر لوحة المفاتيح في محرّك البحث «جوجل» كلمتي  «التدخّل الإماراتي»؛ وسيتكفّل الأخير باقتراح قائمة من المُكمّلات البحثية، إذا ما حصرتها ستتحصّل على خارطة الدّول العربية التي بلغتها ريح الربيع العربي، وفي الواقع لم تخف الإمارات عداءها لهذه الموجة الثورية، وانخرطت بكلّ أجهزتها الرّسمية وغير الرسميّة في التّصدّي لها وفي إغداق ما يجب للتصدّي لرياح الثورات.

 

ولئن نجحت الإمارات في تقويض التجربة المصريّة بدعمها لأحداث الثالث من يوليو (تموز) 2013، وتولية الرئيس عبد الفتاح السيسي بديلًا عن الرئيس المعزول محمد مرسي، ثم دعمه بكل الأشكال تمهيدًا لضمّه لحلفها المُناوئ لموجة الرّبيع، فقد ظلّ أثر فعلها في منطقة المغرب العربي أقل نجاعة.

 

نُحاول في هذا التّقرير رصد بعض آليات وأشكال التدخّل الإماراتي في دول المنطقة المغاربية، ومدى نجاعة هذا التّدخّل وأثره على القرار السيادي للدول المغاربية.

 

 

تونس: فشل مُضاعف في انتظار التأكيد

 

لم يكن يخطر ببال أكثر الناس تفاؤلًا أن حادثة حرق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه، يوم 17 ديسمبر (كانون الثاني) 2010، ستتحوّل بسرعة لأحد أهم الأحداث التاريخية في العقد الأخير وربما في العقود التي سبقته، وستفرز حالة تغيير عميقة في دول المنطقة، سواء على مُستوى الأنظمة الحاكمة، أو على مُستوى وعي الشّعوب؛ حيث عمّت الاحتجاجات الشعبية، التي كانت على ما يبدو تنتظر حدثًا قادحًا يُفجّر ما اعتمل في صدور التّونسيين، بكل البلاد، ولم يكد يمضي شهر حتّى تم الإعلان عن سقوط رأس النّظام الحاكم منذ 23 سنة؛ ليتم تدشين عهد جديد في تونس يُلهم شعوبًا أخرى للحذو حذو التوانسة الذين انتصروا على أعتى دكتاتوريات المنطقة.

 

اتّفق التونسيون لاحقًا نخبًا وشعبًا على المُضي في تجربة انتقال ديمقراطي من خلال العمل على تأسيس جمهورية ثانية بدستور جديد، فتم تعليق العمل بدستور الاستقلال الذي صاغه المجلس التأسيسي الأوّل عقب التخلّص من الاستعمار الفرنسي، وتم تنظيم انتخابات تأسيسية أفرزت أعضاء المجلس التأسيسي، وانبثق عنه نظام حكم مُؤقّت شبه برلماني أعطى لحركة النهضة الإسلامية مفاتيح قيادة البلاد إلى حين الانتهاء من صياغة الدّستور وترتيب انتخابات ثانية تفرز مُؤسّسات دائمة.

 

 

وبالرغم من هشاشة المرحلة وطبيعتها التأسيسية، ارتفع منسوب التجاذب السياسي والأيديولوجي بين القوى الوافدة على الحكم والمنتصرة في انتخابات 2011 من جهة، والنّظام القديم وقوى المُعارضة التي لم تُوفّق في ذات الاستحقاق الانتخابي من جهة أخرى، بالتوازي مع ارتفاع حجم المطلبيّة الاجتماعية التي كانت تنتظر من الثّورة أن تثور على الوضع الاجتماعي الصعب الذي تركه بن علي.

 

وفي يوم السادس من فبراير (شباط) 2013، تم اغتيال القيادي بالجبهة الشعبية (ائتلاف أحزاب يسارية وقومية) شكري بلعيد، لتتعقّد الأمور على حكومة «الترويكا» (وتعني الثالوث وتضم حركة النهضة وحزبي المُؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات) ولتنتهي باستقالة رئيس الحكومة حمادي الجبالي وتعويضه بوزير داخليته علي لعريض، ولم تمض ستة أشهر بعد الاغتيال السياسي الأول حتى تم اغتيال النائب بمجلس نواب الشعب محمد البراهمي، يوم 25 يوليو (تموز) 2013 لتدخل البلاد في أزمة سياسية خانقة.

 

وطيلة هذه الفترة؛ عرفت العلاقات التونسية الإماراتية ما وُصف ببرود دبلوماسي غير مسبوق، وبالرغم من تطمينات الحكومة التونسية من جهة، وحركة النهضة من جهة أخرى حول أن التجربة التونسية ليست مُعدّة للتصدير، اصطدمت مُحاولات إذابة الجليد بأجندة إماراتية ظلّت خافتة إلى حدود الاغتيال السياسي الثاني، حيث تمّ تشكيل جبهة سياسية تحت اسم «جبهة الانقاذ» ضمّت أحزابًا وجمعيات، بقيادة نداء تونس، الحزب الفائز في انتخابات 2014، والذي كان وقتها في طور التأسيس، طالبت بحلّ المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة، أي الانقلاب على انتخابات 2011 والمسار الانتقالي التي كانت تونس على أبواب إنهائه.

 

 

نجحت تونس في تجنّب السيناريو المصري مُستفيدة من رسوخ مُنظّماتها المدنية الوطنية والتي قادت أربعة منها ما يُعرف بـالحوار الوطني الذي أثمر توافقًا حول تسليم الحُكم مُقابل إتمام إنجاز الدّستور وتنصيب حكومة كفاءات غير مُتحزّبة تسهر على تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.

 

تعالت الأصوات المُتّهمة للإمارات بوقوفها وراء دعم جبهة الإنقاذ والباجي قائد السبسي في مرحلة الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد سنة 2013 أسوة بصنيعها في مصر، وظلّ الحديث في كواليس السياسة التونسية عن مُراهنة إماراتية على حزب نداء تونس الذي يقوده السبسي بلا دليل إلى حدود تسريب وثيقة كشفت إرسال سيارتين مُصفّحتين في شكل «هديّة» للسبسي بتاريخ 24 يوليو (تموز) 2014.

 

 

الأجندة الإماراتية

الوثيقة المُسرّبة التي تُثبت إرسال سيارتين مُصفّحة كهبة للسبسي. المصدر: (تسريب)

الأجندة الإماراتية

الوثيقة المُسرّبة التي تُثبت إرسال سيارتين مُصفّحة كهبة للسبسي. المصدر: (تسريب)

وفي السياق ذاته؛ كشف موقع «ميدل إيست آي» يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، أن مسؤولين جزائريين قد حذَّروا نظراءهم التونسيين، في أوائل الشهر نفسه، من خطوات أعدها الإمارتيون لزعزعة الاستقرار في تونس، في إطار خطة إماراتية لإنهاء التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس.

 

السبسي الذي اختارته الإمارات دون غيره من السياسيين لتمنحه هبة، كان في تلك الفترة يستعدّ لمعركة انتخابية عنوانها «إما أنا أو حركة النّهضة»، حيث قدّم نفسه بديلًا ونقيضًا لمشروع الإسلاميين في تونس؛ وهو ما أعاد كشف ملامح الأجندة الإماراتية في تونس: التصدّي للإسلاميين مهما كان الثمن.

 

قبل ذلك؛ صرح  كمال مرجان،  رئيس حزب المبادرة الوطنية الدستورية وآخر وزير خارجيّة في نظام بن علي، في شهر مارس (آذار) 2014، خلال تقييمه لجولة خليجية قام بها رئيس حكومة الكفاءات التي خلفت حكومة الترويكا،  أن بعضها تشترط على تونس اجتثاث حركة النهضة لتقديم يد المساعدة لها.

 

وفي وقت لاحق؛ أفرزت نتائج انتخابات 2014 فوز حزب نداء تونس، بالانتخابات التشريعية، و زعيمه ومؤسسه السبسي بالانتخابات الرّئيسية، في حين حلّت النّهضة الثانية لتخسر صدارتها في المشهد السياسي التونسي، وهو ما دفع بعض المُحلّلين للحديث عن نجاح مُضاعف للإمارات فيما يتعلّق بالمشهد التونسي باعتبار أنها ساهمت عبر دعم جبهة الإنقاذ في دفع النهضة للتخلي عن الحكومة في مرحلة أولى، ولخسارتها لانتخابات 2014 عبر دعم السبسي وحزبه في مرحلة ثانية.

 

تأخّر حركة النهضة انتخابيًا لم يكن في مُستوى تطلّعات الإمارات، فالأخيرة، وبحسب الإعلامي التونسي، سفيان بن فرحات، ومن خلال الكشف عن فحوى حديث دار بينه وبين السبسي، قرنت بين مُساعدة تونس اقتصاديا وبين إعادة إنتاج المشهد المصري في تونس، وهو ما رفضه الرئيس التونسي واعتبر أن «أجندة الإماراتيين السياسية كلفتها باهظة على البلاد»، وبأنه غير قادر على الانخراط فيها.

 

 

فيديو سفيان بن فرحات وهو ينقل ما دار بينه وبين السبسي حول الإمارات. المصدر: (قناة نسمة)

 

وعلى عكس ما اشتهت سفن الإمارات، هبّت رياح السياسة في تونس: اقترح الحبيب الصّيد، الرئيس المُكلف بتشكيل الحكومة، قائمة وزارية لم تحو أي وزير من حركة النهضة. رفضت حركة النهضة القائمة وأعلنت عن عدم التصويت لفائدتها، بالإضافة لأحزاب أخرى، فاضطرّ الصّيد لسحب مُقترحه وتعديله لتصبح النهضة مشاركة في الائتلاف الحكومي.

 

ساهمت مُراهنة السبسي على التوافق السياسي بديلًا عن الإقصاء في دفع الإمارات للبحث عن لاعب أو لاعبين جدد يعملون على إنفاذ سياساتها وتنفيذ أجندتها الخاصة بتونس، بعد أن خابت آمالها في السبسي وحزبه الذين اختاروا تجنيب البلاد سيناريوهات الدّم، ووجدت ضالتها في مدير الحملة الانتخابية الرئاسية مُحسن مرزوق، والذي انشق عن حزب نداء تونس ليُؤسّس حزبًا جديدًا، ثم ليُشكّل برفقة عدد آخر من الأحزاب جبهة إنقاذ في نسخة جديدة، ترفع ذات شعارات جبهة الإنقاذ التي تشكّلت سنة 2013، وخاصّة فيما يتعلّق بالاستقطاب الأيديولوجي على قاعدة التخويف والتصدّي لحركة النهضة.

 

وكانت العلاقة بين جبهة الإنقاذ الثانية التي تم الإعلان عن تأسيسها يوم 12 يناير (كانون الثاني) 2017، والتي يتزعّمها محسن مرزوق وتضم أحزابًا وشخصيات من بينها الحزب الوطني الحر، والإمارات، قد كشفها موقع «عربي21» بعد أيام قليلة، عبر تقرير  نقل محتوى محضر اجتماع جرى داخل السفارة الإماراتية في تونس بين دبلوماسي إماراتي كبير ورضا بلحاج، وهو أحد مؤسسي الجبهة والقيادي السابق في حزب نداء تونس.

 

وحسب التقرير، تم اللقاء في مقر السفارة الإماراتية بتونس في الأسبوع الأول من شهر يناير (كانون الثاني)، وكان بطلب من بلحاج وكشف المحضر أن الأخير أخبر الدبلوماسي الإماراتي أن حزب نداء تونس انتهى تمامًا، ولم تعد هناك إمكانية لتوحيده وإنقاذه من الانقسامات المتتالية.

 

ونقل بلحاج للدبلوماسي الإماراتي أن الحزب الوحيد الذي بقي متماسكا هو حزب النهضة واعتبره القوة السياسية الأولى في تونس، مرجحًا، من خلال ما قاله في المحضر، أن تكتسح – النهضة – الانتخابات المقبلة في حال عدم تدارك الوضع والعمل على بعث قوة سياسية جديدة تخلق التوازن مع النهضة في المشهد السياسي التونسي.

 

وأشار بلحاج، وفق ذات المصدر، إلى أن «جبهة الإنقاذ» التي أسستها عدة أحزاب أهمها حزب مشروع تونس بقيادة محسن مرزوق و«الاتحاد الوطني الحر» الذي يقوده سليم الرياحي هي الجبهة السياسية الوحيدة التي من الممكن أن تخلق هذا التوازن المنشود مع حركة النهضة في الظرف السياسي الراهن، مُضيفًا أن الجبهة هي أيضًا الجهة السياسية الوحيدة في تونس التي من ممكن أن تتفاعل إيجابيا مع السياسات الإقليمية الإماراتية في المنطقة وبشكل خاص في ليبيا، وبحسب ذات المصدر، طلب بلحاج في المُقابل من الإماراتيين دعم الجبهة ماديًا وإعلاميًا.

 

وبالرغم من نفي بلحاج لوسائل إعلام محلية ما أورده موقع عربي 21، وتوعّد رئيس المجلس المركزي لحركة مشروع تونس، وطفة بلعيد، بإصدار بيان للردّ على «هذا الإتهام»، وهو ما لم يحصل إلى حين كتابة هذه الأسطر؛ اعتبر مُراقبون أن هذا التسريب أربك الجبهة قبل أن تنطلق، وأفقدها مصداقيتها، فبعد أن كان من المُنتظر أن يتم التوقيع الرسمي على ميثاقها التأسيسي من طرف الأحزاب المُشاركة فيها يوم 29 يناير (كانون الثاني) 2017، تم التأجيل في مرحلة أولى لتاريخ 19 مارس (آذار) 2017، ليتم الإمضاء الرسمي يوم الثاني من أبريل (نيسان) 2017.

 

وكان قد سبق الإعلان عن تأسيس هذه الجبهة، لقاء ضمّ كلا من محسن مرزوق، رئيس حزب مشروع تونس، وسليم الرياحي، رئيس الحزب الوطني الحر، بالقيادي الفلسطيني المفصول من حركة فتح ومستشار ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.، محمد دحلان، في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2016، في صربيا، وفق ما كشفه النّائب وليد جلاد، في لقاء إذاعي.

#وليد_جلاّد : "#سليم_الرياحي و #محسن_مرزوق تقابلو مع محمد دحلان في #صربيا '

Geplaatst door Radio Cap FM op Dinsdag 13 december 2016

 

فيديو تصريح وليد جلاد وكشف فيه عن لقاء جمع مرزوق والرياحي بدحلان. المصدر: (إذاعة كاب أف أم).

 

لم تصمد «جبهة الإمارات في تونس»، كما يُسمّيها بعض الثوار التونسيين، سوى ثلاثة أشهر، حيث كشفت تقارير إعلامية عن وجود عدّة خلافات بين مكوّناتها، انتهت بتجميد حزبي مشروع تونس وحزب العمل الوطني الديمقراطي لعضويتهما فيها يومًا واحدًا بعد قرار تجميد أرصدة وأملاك، سليم الرياحي، رئيس الحزب الوطني الحر، وهو أحد مكوّنات الجبهة، بتهمة «غسل وتبييض الأموال».

 

قرار التجميد جاء تبعًا لقضية منشورة في القطب القضائي الاقتصادي والمالي تتعلق بتبييض الأموال، وإثر معطيات جديدة في الملف، وفق ما جاء في تصريح إعلامي للناطق الرسمي باسم القطب. وذهبت بعض التحاليل لاعتبار تجميد أرصدة سليم الرياحي وتوجيه تهم له بحجم غسل وتبييض الأموال  بمثابة ضرب لمشروع الإمارات بتونس، خاصّة مع تزامنها مع موقف الأخيرة من الأزمة الخليجية والتي اختارت فيها الحياد على عكس الرغبات الإماراتية حيث بحثت عن تحشيد الكل ضدّ قطر.

 

ووفق آخر سبر للآراء حول شعبية الشخصيات السياسية في تونس في شهر يوليو (تموز) الجاري، يحتلّ محسن مرزوق مكانا في العشر مراتب الأخيرة بـ 7%، بالرغم من كل الجهد التسويقي والاتصالي الذي يقوم به، ما يجعل من المُراهنة عليه، حسابيًا، رهانا خاسرًا على الأرجح.

 

في المُحصّلة؛ فشلت الإمارات في دفع رئيس البلاد لإقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي عندما خيّر التعايش مع الحزب صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر، والذي قام بمُراجعات على مُستوى الشكل والمضمون والخطّ السياسي للمُحافظة على هذا التعايش، وفشلت بالمُراهنة على جبهة إنقاذ شرعت في التحلّل قبل المُشاركة في أي استحقاق انتخابي، وفي انتظار ما ستُفرزه المحطّات الانتخابية من مشهد سياسي وموازين قوى جديدة؛ تُحافظ تونس حتّى الآن على تجربتها الدّيمقراطية الوليدة.

 

ليبيا: تأزيم للأوضاع وعجز عن الحسم

 

«وفي حين أعربت بلدان المنطقة التي زارها الفريق عن رأي مفاده بأن الأزمة الليبية تعتبر أولوية بالنسبة لها، وأنها تُؤيّد بالإجماع الاتفاق السياسي الليبي، إلا أن هناك اختلافات كبيرة في وجهات النّظر وآرائها. فقد قدّمت بعض البلدان في المنطقة أيضًا الدّعم للعمليات السياسية البديلة» *جملة من الصفحة 21 من التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني بليبيا التابع لمجلس الأمن – وثيقة أممية

 

كانت هذه إشارة من ضمن إشارات عديدة احتواها تقرير أممي حول ليبيا، كشف عن تدخّل الإمارات بليبيا، بعد سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي والتحاق بلد المُختار بركب الرّبيع العربي؛ حالت هشاشة نظام الجماهيرية دون تواصل الدّولة لتدخل البلاد في أتون صراع متعدّد المحاور.

 

في خضم المخاض العسير الذي كانت تمر به ليبيا؛ أعلن اللواء المُتقاعد خليفة حفتر عن إطلاق عملية عسكرية أطلق عليها اسم «عملية الكرامة» رافعًا شعار التصدّي لمدّ المُتطرفين.

 

حفتر الذي فشل في قيادة الثوار سنة 2011، توارى عن الأنظار قبل أن يُطلّ من جديد في شهر فبراير (شباط) 2014 ليلقي خطابا أعلن فيه تجميد عمل المؤتمر الوطني العام (البرلمان الليبي) والحكومة والإعلان الدستوري الصادر في أغسطس (آب) 2011، دون أن يكون لخطابه أي وقع على الأرض، ليوصف انقلابه بالانقلاب التلفزيوني.

 

انتظر حفتر أربعة أشهر ليُعوّض انقلابه الأبيض عبر الاستفادة من تدهور الوضع الأمني في مدينة بنغازي التي شهدت مستويات مُرتفعة من عمليات القتل وانعدام الأمن، وهو ما أثبتت الأحداث اللاحقة أنه كان مُجرّد مطية ومدخلا للتموقع في الساحة الليبية والصّراع على السّلطة فيها، إذ توسّعت عملياته العسكرية إلى ما بعد بنغازي، وقصف الميناء البحري لمدينة مصراتة، وهدّد أكثر من مرة باقتراب لحظة الدّخول إلى طرابلس الليبية.

 

وبين مدّ وجزر، واصل حفتر حربه مع من يُسمّيهم مُتطرّفين، ويُسمّيهم غيره ثُوّارا، بالتّوازي مع سعي لبسط سيطرته ميدانيّا لتحسين شروط التّفاوض مُستعينا بدعم مصري إماراتي تعدّدت أشكاله:

 

1- الدّعم العسكري

 

أفاد تقرير الأمم المتحدة المذكور في بداية هذه الفقرة وبأدلّة قاطعة أن الإمارات قدمت مروحيات قتالية وطائرات حربية لقوات السلطات الليبية الموازية بقيادة حفتر، في انتهاك لحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا الذي فرضته المنظمة الدولية، وجاء في التقرير الذي أرسل إلى مجلس الأمن الدولي أن «الإمارات العربية المتحدة قدمت على حد سواء الدعم المادي والدعم المباشر للجيش الليبي، ما زاد بشكل ملحوظ الدعم الجوي المتاح» لهذا الجيش.

 

2- الدّعم السياسي

 

أكد ولي عهد أبوظبي، ونائب القائد العام للقوات المسلحة الإماراتية، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، دعم دولة الإمارات لحفتر، خلال استقباله له، يوم العاشر أبريل (نيسان) 2017، في عاصمة الإمارات، وبحث معه «التنسيق المشترك بين البلدين في محاربة التطرف والعنف والتنظيمات الإرهابية، والجهود المبذولة في إرساء دعائم الأمن والاستقرار في المنطقة»، بحسب وكالة الأنباء الرسمية، وهو ما اعتبر وقتها بمثابة الجهر الإماراتي بدعم حفتر رسميًا.

 

قبل ذلك، اهتزّ العالم لفضيحة ما نشر عن «شراء وُسطاء الأمم المُتّحدة» ورمزها المبعوث الأممي لليبيا «برناردينو ليون» الذي تزامن انتهاء تكليفه كرئيس للبعثة الأممية الخاصة لليبيا مع تعاقده مع الإمارات رئيسا لأكاديمية تكوينية براتب بلغ حسب ما كُشف لاحقا 35 ألف جنيه استرليني شهريا، وكشف تسريب لمراسلات بين مبعوث الأمم المُتّحدة وسفير الإمارات أن المبعوث الذي يُفترض فيه الحياد، كان قد تحوّل إلى طرف في النّزاع الليبي بدعمه للشق المدعوم إماراتيا منذ أن تم عرض التعاقد معه.

 

3- السيطرة الإماراتية على الإعلام الليبي

 

لم يُخطئ الرّئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، حينما وصف جزالة العطاء الإماراتي  بـ«الفلوس زي الرز» متى تعلّق الأمر بمُحاصرة آثار الربيع العربي وتضييق الخناق على كل مُؤمن بحتميّة دوران عجلة التاريخ وتقدّم الشعوب العربية، حيث كشفت دراسة إعلامية أعدها إعلاميون ليبيون سيطرة أبوظبي على منابر إعلامية ليبية أنفقت عليها نحو 74 مليون دولار.

 

وتطرّقت الدراسة، بحسب موقع «إمارات 71»، لسبع منابر إعلامية وهي بوابة الوسط، وراديو الوسط fm، وصحيفة ليبيا الحدث، وبوابة إفريقيا الإخبارية، وقناة 218، وقناة ليبيا 24، وقناة ليبيا روحها الوطن»HD».

 

وأشارت الدراسة إلى أن بوابة وراديو الوسط الإخبارية واللتان يملكهما الليبرالي المعارض لنظام القذافي محمود شمام ويديرهما من القاهرة بتمويل إماراتي كامل، صرفت عليهما حتى الآن ما يناهز خمسة ملايين دولار من قبل الإمارات. في حين أن صحيفة ليبيا الحدث، لمالكها الإعلامي محمود الحسان وهي صحيفة يومية تعمل من العاصمة التونسية وجزء من تمويلها من هيئة الإعلام الليبية وإدارة الإعلام الخارجي التابعين لبرلمان طبرق، قد تولت أبوظبي الإنفاق عليها بما يقدر 800 ألف دولار أمريكي.

 

أما بوابة إفريقيا الإخبارية، التي يملكها الإعلامي الليبي عبد الباسط بن هامل وهو أيضا مؤسسها ورئيس تحريرها، وتنطلق من القاهرة، فكشفت الدراسة أن أبوظبي بدأت تمويلها منذ الربع الأخير لعام 2013 حيت تم إنفاق حوالي 2.2 مليون دولار أمريكي حتى مارس (آذار) 2016.

 

كما لفتت الدراسة إلى أن قناة 218 TV لمالكتها الإعلامية الليبية هدى السراري والتي يديرها زوجها الإعلامي الليبي «مجاهد البوسيفي» وتعمل من العاصمة الأردنية عمان، فقد تأسست بالكامل من أموال أبوظبي، وتعتبر القناة من أكثر القنوات الليبية قدرة مالية ورواتب موظفين، حيث أنفق عليها حوالي 32.7 مليون دولار أمريكي حتى الآن.

 

بدورها قناة ليبيا 24، لمالكها الإعلامي الليبي عبد السلام المشري والعاملة من العاصمة البريطانية لندن، تعرف بسياستها المؤيدة لنظام القذافي، حيث تعتبر ثورة الشعب الليبي مؤامرة غربية، وقد أسست القناة بتمويل إماراتي كامل بلغ 7.9 ملايين دولار أمريكي.

 

وختمت الدراسة بقناة ليبيا روحها الوطن «HD» التي يملكها عارف النايض، ويرأس مجلس إدارتها شقيقه رضا النايض، ومديرها التنفيذي الإعلامي الليبي «نبيل الشيباني»، حيث أشارت إلى أنها تعمل من العاصمة الأردنية عمان، وذكرت تبعية النايض المباشرة لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وقالت إنها تأسست بتمويل إماراتي كامل حيث أنفق عليها حتى الآن 25.6 مليون دولار أمريكي.

 

في ظلّ كثافة مواطن التّدخل الإماراتي في ليبيا طيلة السنوات الماضية وتعدّد شواهده، المُباشر منها وغير المُباشر، والتي تحتاج مساحات أكبر لحصرها، لا شكّ أنها كانت ولازالت – بحسب عديد التحاليل- هي وأذرعها الإعلامية والحزبية والعسكرية في المنطقة من بين أبرز مُقوّضات الحل السياسي في ليبيا.

 

الثّابت أيضا أن الإمارات وبالرغم من مُراهنتها غير المشروطة لخليفة حفتر ورغم تعميدها له كمندوب مُدلّل في ليبيا بما اقتضاه ذلك من تكلفة، فشلت في حسم الصّراع لفائدة مشروعها القادم على دبّابة لواء مُتقاعد احتاج ثلاثة سنوات لإعلان «تحرير بنغازي»، قبل أن تكشف تقارير إعلامية تواصل الإشتباكات بالمدينة.

 

المغرب ليس بعيدًا عن النيران

 

أصبحت دولة الإمارات تحتل المرتبة الأولى على صعيد الاستثمارات العربية بالمملكة المغربية بحجم استثمارات في البورصة المغربية بلغ 5.6 مليار دولار، بفضل التدفق الكبير للاستثمارات الإماراتية في مجالات الطاقة والعمران والسياحة والاتصالات والخدمات، كما تمنح الإمارات العديد من المساعدات والمنح للمغرب.

 

وبالرغم من رسوخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين التي تعود جذورها إلى سنة 1985، وبالرغم من خصوصية تفاعل المغرب مع موجة الربيع العربي حيث مضى في إصلاحات وُصفت بالسلسة مع المُحافظة على رأس النّظام مُمثّلًا في الملك الذي استفاد بدوره من دروس الثورة بتونس وتجنّب أن يُصادم حراك 20 فبراير؛ لم يستسغ النظام الإماراتي صعود الإسلاميين للحكم ما أدرج المملكة في قائمة المشمولين بأجندة التّصدّي لدول الربيع.

 

الباحث المغربي محمد أجغوغ اهتمّ بالدّور الذي لعبته الإمارات في المغرب مُؤخّرًا وأصدر دراسة اختار لها من العناوين «الدور الإماراتي في إجهاض الربيع العربي.. المغرب أنموذجا» خلُص فيها إلى أن هذه الدّولة الخليجية لعبت دورًا سلبيًا في الساحة الداخلية المغربية بهدف إجهاض الحراك واحتوائه.

ولاحظ الباحث أن علاقة الارتباط بين المغرب والإمارات تعمّقت أكثر بعد وصول حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، إلى الحكم، مُؤكّدا أن الإمارات لم تغفل عن أهمية الساحة المغربية في إطار مواجهتها الشاملة مع دول الربيع العربي، فقامت بتعزيز نفوذها الإعلامي والاقتصادي في مؤسسات الدولة المغربية .

 

وبالإضافة للحاجة الاقتصادية، أشار الباحث إلى لعب الإمارات دورًا حزبيًا في الساحة المغربية، وذلك بدعم «إلياس العماري» لتأسيس حزب «الأصالة والمعاصرة»، وهو الحزب الذي يراهن عليه الإماراتيون والأمريكيون، وفق نص الدّراسة.

 

حزب الأصالة والمعاصرة الذي يتكون عموده الفقري من اليسار، والذين جمعهم فؤاد عالي الهمة، صديق ملك المغرب ومستشاره حاليًا في حركة لكل الديمقراطيين سنة 2008، قبل أن تتحول إلى حزب الأصالة والمعاصرة، كان من بين أبرز دوافع إنشائه «مجابهة الإسلاميين وقطع الطريق أمامهم في الانتخابات الجماعية سنة 2009»، بعد التأكد من تقارير خارجية أن الإسلاميين وخاصة حزب العدالة والتنمية المغربي سيكتسح الانتخابات الجماعية سنة 2009، لاسيما في المدن الكبرى مثل طنجة والدار البيضاء ووجدة وسلا، وفق ذات المصدر.

 

ويرى أجغوغ، أن الدور الحقيقي المنوط بهذا الحزب هو «مجابهة الصحوة الإسلامية التي بدأت تنمو بشكل كبير في المغرب على المستوى المجتمعي كجماعة العدل والإحسان المعارضة للتوجه، ثم حركة التوحيد والإصلاح والسلفيين»، مُستندا إلى ما جاء في إحدى وثائق ويكيليكس عن مساندة السفير الأمريكي في الرباط لخديجة الرويسي رئيسة بيت الحكمة والمنتمية بدورها لحزب الأصالة والمعاصرة بمبلغ 300 مليون دولار لمجابهة الصحوة الإسلامية المتمثلة بالعدل والإحسان والسلفيين.

 

وخلُص الباحث المغربي إلى ما أسماه وُضوح بصمات أبوظبي في «إسقاط التجربة الحكومية في المغرب وفبركة العملية السياسية» من خلال مؤشرات تمثلت في انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة في يوليو (تموز) 2013 بعد شهر من أحداث يوليو (تموز) 2013 المصرية، وهو ما فسره مراقبون، على أنه إعادة إنتاج السيناريو المصري في المغرب.

 

وبالرغم من إبعاد بنكيران عن كرسي الحكومة، لايزال حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الحكم، كما أن الأزمة الخليجية الأخيرة أثبتت أن قوة العلاقات المغربية الإماراتية لم تُفقد القرار السيادي المغربي ألقه، حيث اختار المغرب الحياد ووقف على ذات المسافة من جميع الأطراف، وهو ما لم يرق على ما يبدو للإماراتيين.

 

 

موريتانيا والتغريد خارج السّرب

 

بعيدًا عن الإجماع المغاربي، وبالرغم من أن المسافة الفاصلة بين نواكشوط والدّوحة تناهز سبعة آلاف كيلومتر، التحقت موريتانيا بنادي دول الحصار الخليجي وأعلنت يوم السادس من يونيو (حزيران) قطع علاقاتها الدّبلوماسية مع دولة قطر حيث نقلت الوكالة الموريتانية للأنباء عن وزارة الخارجية بيانها: «أكدت الجمهورية الإسلامية الموريتانية في كل المناسبات التزامها القوي بالدفاع عن المصالح العربية العليا، وتمسكها الثابت بمبدأ احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها، وسعيها الدؤوب لتوطيد الأمن والاستقرار في وطننا العربي والعالم».

 

وتابع البيان: «لكن، وللأسف الشديد، دأبت دولة قطر على العمل على تقويض هذه المبادئ التي تأسس عليها العمل العربي المشترك، فقد ارتبطت سياستها في المنطقة بدعم التنظيمات الإرهابية، وترويج الأفكار المتطرفة، وعملت على نشر الفوضى والقلاقل في العديد من البلدان العربية؛ مما نتج عنه مآسي إنسانية كبيرة في تلك البلدان وفي أوروبا وعبر العالم، وفي ظل إصرار دولة قطر على التمادي في هذه السياسات التي تنتهجها، قررت حكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر».

 

الموقف الموريتاني الرّسمي لم يقف عند هذا الحد، بل أفادت تقارير مُتطابقة أن وزير الخارجية الموريتاني إسلكو ولد أحمد إزيد بيه ونظيره المصري سامح شكري، استماتا خلال القمة الإفريقية المنعقدة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا الإثنين الثالث من يوليو (تموز) 2017، من أجل الخروج بموقف إفريقي معلن يدعم الحصار المفروض على دولة قطر، دون أن ينجحا في ذلك.

 

داخليّا؛ صعدت الحكومة الموريتانية مواجهاتها ضد دولة قطر حيث أمرت في 15 يونيو (حزيران) 2017 منظمة «اليد العليا» الخيرية القطرية، بالتوقف فورًا عن بناء عشرات الوحدات السكنية فى بلدية «جدر المحكن» بولاية ترارزة جنوب البلاد.

 

الرّئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، والذي اعتلى مقاليد الحكم في بلده عقب انقلاب عسكري سنة 2005 ثم فوزه في انتخابات رئاسية طعنت المعارضة وهيئة الانتخابات في حسن سيرها وشفافيتها، لم ينتظر كثيرا ليأخذ ثمن اصطفافه وراء الإمارات، حيث كشف موقع «أنباء أنفو» الموريتاني أن السفير الإماراتي بنواكشوط، عبد الله مسعود الكلباني، عبّر عن استعداد بلاده تمويل الانتخابات التي ستجري بالجارة الجنوبية للمغرب، و ذلك بهدف إبعاد الإسلاميين.

 

ربما تكون النتيجة من هذا الرصد، أنه لم تنجح إذن المساعي الإماراتية في جر دول المغرب العربي لتنفيذ أجندتها المُغامرة باستثناء موريتانيا، وهو ما قد يعده البعض فشلًا بالنظر إلى المبالغ والمجهودات الطائلة التي تكبدتها الإمارات هناك.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد