كيف أصبح ستالين هكذا؟ أو إن شئنا الدقة: كيف تحول جوزيف فيساريونوفيتش جوغاشفيلي – سليل أسرة من الفلاحين العاملين بالسخرة، وابن الخادمة والإسكافي – إلى الجنرال ستالين، واحد من أكثر السفاحين قسوة ووحشية في التاريخ؟ كيف أمكن لفتى وُلد في بلدة مغمورة بجورجيا، أن يصبح ديكتاتورًا بسط نفوذه على نصف أوروبا؟ وماذا حدث ليجعل الفتى الهمام الذي اختار أن يدرس اللاهوت، يصير ملحدًا متعصبًا، ومنظّرًا ماركسيًا؟

متأثرين بفرويد، جنح الكثير من كُتاب السير، ناهيك عن المحللين النفسيين والفلاسفة والمؤرخين؛ إلى البحث عن إجابات لهذه الأسئلة في طفولة ستالين ونشأته. وتمامًا كما تم تفسير سياسات هتلر المتعصبة بسوء النشأة واضطراب الحياة الجنسية، عزا المؤرخون سيكوباثية ستالين إلى والده، الذي كان “يضربه بلا رحمة” وفقًا لكلام ستالين نفسه، أو لأمه التي ربما أقامت علاقة مع كاهن محلي. تفسير آخر يرجع الأمر إلى الحادثة التي ألمّت بستالين، وتركته بذراع ضامرة، وعدوى الجدري التي سبّبت تشوهات بشعة في وجهه، أو العيب الخلقي الذي ألصق اثنين من أصابع قدمه ببعضهما، وجعل قدمه شبيهة بأقدام الأوز – علامة الشيطان كما يسمونها!

أثّرت السياسة كذلك على الباحثين في سيرة ستالين. ففي حياته، حوّله المؤيدون إلى بطل خارق، لكن الخصوم فرضوا تحيزاتهم المسبقة على رؤيتهم له كذلك. ليون تروتسكي، عدو ستالين اللدود، كان بلا منازع أكثر محللي القرن العشرين السياسيين تأثيرًا. شكّل تروتسكي رؤية جيل بأكمله من المؤرخين كـ(آيزاك دويتشر).

ستالين الذي رسمه تروتسكي، كان مفتقرًا لروح الدعابة والمرح، رجل ريفي جاهل وصل إلى السلطة بالتلاعب البيروقراطي والعنف الشرس ضد الخصوم. زيادة على ذلك، فهو خائن انقلب أولًا على لينين، ثم القضية الماركسية كلها فيما بعد. كانت هذه الصورة تخدم هدفًا واضحًا، وهو حثُّ أتباع تروتسكي على أن يبقوا مخلصين للثورة السوفييتية تعيسة الحظ، التي ابتلاها القدر بوصول ستالين الحديدي المشؤوم إلى الحكم، وكان من الممكن أن تنجح لو كان تروتسكي هو الذي تولى مقاليد الأمور.

ولكن منذ أن خرجت الملفات السوفييتية الأرشيفية إلى النور عام 1990م، بدأ يتضح مدى صدق هذه التحليلات السياسية والسيكولوجية. ما زالت الأحداث السياسية تؤثر على ما يتذكره عنه العامة بالطبع، فالقادة الروس من بعده كانوا يرون جرائمه ضد شعبه هيّنة، بينما يحتفلون بحملته الأوروبية الساحقة. لكن، ومع إتاحة آلاف الوثائق والملفات والمذكّرات التي كانت سرية من قبل، تمكن المؤرخون الجادّون من تقصّي الحقيقة المثيرة.

على سبيل المثال، يعرض المؤرخ (سيمون سيباغ مونتيفيوري) صورة مغايرة لما رآه تروتسكي، نقلًا عن مصادره بتبليسي عاصمة جورجيا وبموسكو أيضًا. ستالين كان شابًا ثوريًا مؤججًا للجماهير بشخصيته الجذابة، شاعرًا مفوهًا كتب ووزّع آلاف المنشورات – تختلف هذه الصورة تمامًا عن صورة ستالين البيروقراطي غير المعنيّ بالثورة، التي حاول تروتسكي ترويجها. أما الأكاديمي الروسي (أوسيج كليفنيوك)، فقد تعمّق كثيرًا وطويلًا في غموض الملفات الأرشيفية، ليقدم تحليلات زاخرة بالتفاصيل المدهشة عن التطوّر الخطّي للحزب الشيوعي السوفييتي، بدءًا من فوضى الثورة انتهاءً إلى ما أصبح في النهاية النظام الستاليني.

أهمية كُتب كليفنيوك، بجانب الرسائل التي كتبها ستالين إلى مساعديه، بالإضافة إلى عشرات الوثائق المنشورة عن معسكرات العمل، والمجاعة الأوكرانية، وجهاز الاستخبارات السوفييتي (KGB)؛ أن كلها توضح حقيقة أن ستالين لم يؤسس الديكتاتورية السوفييتية من خلال الألاعيب والتحايل فقط، ولم يفعل ذلك وحده أيضًا. لقد تلقّى مساعدة كبيرة من دائرة رجاله المخلصين، بالإضافة إلى آلاف من رجال البوليس السرّي.

في محاولة طموحة للغاية لكتابة سيرة ستالين الذاتية، يأخذنا المجلد الأول – من ثلاثة مجلدات منتظر نشرها – في تحليل لسيرة ستالين بدءًا من مولده، عام 1878م، وحتى عام 1928م، في أقل من 1000 صفحة. يغوص (ستيفين كوتكين)، أستاذ التاريخ بجامعة برينستون، في أعمال الآلاف من المؤرخين والأكاديميين، ليميط اللثام عن سيرة ستالين الحقيقية، ويزيل الغموض والأساطير من التاريخ السوفييتي إلى الأبد. يتجاهل كوتكين أتباع فرويد على الفور، معلّلًا ذلك بأنه لا شيء في بدايات حياة ستالين يبدو غير عادي بالنسبة لرجل في سنه وقادم من ذات الخلفية. نجد أن سيرجي كيروف، أحد المقرّبين من ستالين، نشأ في دار أيتام بعد أن تخلّى عنه والده مدمن الخمر، وماتت أمه مصابة بالسلّ. وجريجوري أوردجونيكيدز، صديق آخر له، خسر أبويه كليهما قبل أن يبلغ العاشرة. أما ستالين نفسه، فقد بقيت له أمه التي، رغم كل شيء؛ كانت امرأة طموحة ونشيطة، وكرّست مجهودات عائلتها الكبيرة لخدمة ابنها الموهوب.

والأهم، يلفت كوتكين انتباهنا؛ أن ستالين الشاب برز نجمه في تبليسي لا لعدوانيته المفرطة، وإنما بتفوقه الدراسي الباهر. بحلول عامه السادس عشر، كان ستالين قد بدأ الدراسة بالفعل في المعهد الإكليركي لدراسة اللاهوت بتبليسي، “الدرجة العليا في السلم التعليمي بالقوقاز، وعتبة الدخول إلى أي جامعة إمبراطورية كبرى فيما بعد”. لكنه ترك الدراسة في النهاية، لينجرف في التيار المظلم لليسار المتطرف، وبرغم كل شيء بقيت كاريزما شخصيته طاغية. ذهب ستالين إلى باكو، العاصمة الأذربيجانية، عام 1907م، لتحريض عمال النفط وتحريك غضبهم، وشارك هناك في عدة عمليات لخطف الرهائن وإثارة الفوضى والقرصنة، بل وبعض الاغتيالات السياسية العارضة كذلك. تنقّل ستالين داخل السجن وخارجه، مُظهرًا براعة مذهلة في الهروب، ومنتحلًا العديد من الشخصيات الوهمية.

1 2

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد