عام بعد عام، وأزمة بعد أزمة، تتشكل صورة واضحة الملامح لتطوّر ستالين الفكري. من السهل إهمال هذه النقطة، لكن في عشية الثورة الروسية، كان ستالين في الثلاثينات من عمره، ولا شيء على الإطلاق يشير إلى مستقبله. كان بلا مال، بلا إقامة ثابتة، وبلا عمل سوى كتابة المقالات لصحف غير رسمية، وبالطبع لم يتلقّ تدريبًا في كيفية إدارة الدول، ولا في إدارة أي شيء على الإطلاق. ثمّ أتى الانقلاب البلشفي في 1917 ليحمل أول بشائر النصر له ولرفاقه. عزّزت الثورة البلشفية تعيسة الحظ – نتيجة لرهانات لينين بالغة الخطورة – عزلة البلاشفة وأيديولوجيتهم المتعصبة، وجلبت لهم من الأمن والشهرة والقوة ما لم يختبروه من قبل.
كنتيجة، استمر معظم القادة بعد ذلك في اتباع هذه الأيديولوجية بحماس، ولم يكن ستالين استثناءً. في السنوات التالية، يستمع الناس إلى تصريحات القيادة السوفييتية المتسمّة بالجمود، متسائلين إن كان هؤلاء القوم يعنون ما يقولون حقًا. يجيب كوتكين أن نعم، فعلى العكس من ستالين الجاهل الخاص بتروتسكي، ستالين الحقيقي برر كل قرار اتخذه على أرضية أيديولوجية واضحة بشدة في لغته وخطاباته. من الخطأ تجاهل هذه اللغة لأنها دليل ممتاز لفهم كيف كان يفكّر، ففي أغلب الأحيان، كان كلامه متّسقًا مع أفعاله.
على الصعيد الاقتصادي، نجد أن هذا صحيح بالتأكيد. يقول كوتكين:
“إن البلاشفة كانت تحركهم مجموعة من الأفكار أو المناهج الفكرية، أبرزها الكراهية الشديدة للأسواق وكل مظاهر البرجوازية، والإيمان بالطرق الثورية غير المقيّدة بأي شيء”.
بعد الثورة مباشرة، قادتهم هذه القناعات إلى حظر التجارة الخاصة، وتأميم الصناعة، ومصادرة الممتلكات، وحتى مصادرة القمح وإعادة توزيعه على المدن – كلها سياسات احتاجت إلى ارتكاب أعمال عنف على نطاق واسع لإرسائها. وقد اقترح لينين نفسه في عام 1918م أنه يجب إجبار الفلاحين على تسليم القمح للسلطات، وكل من يرفض منهم يجب إطلاق النار عليه فورًا!
وعلى الرغم من أن بعض هذه السياسات، كمصادرة القمح، تخلّت عنها الحكومة مؤقتًا في العشرينات، فإن ستالين أعادها مرة أخرى بحلول نهاية العقد، بل وتوسع في تنفيذها بعد ذلك. ولا عجب هنا، فهي نتيجة منطقية لكل كتاب قرأه ستالين، وكل نقاش سياسي خاضه من قبل. فستالين لم يكن بيروقراطيًا ضحلًا أو مجرمًا عتيدًا، ولكنه – كما يكشف لنا كوتكين – رجل شكّلته العقيدة المتعصبة التي عاش في ظلها طويلًا. والعنف الذي وقع في عهده لم يكن بتأثير اللاوعي، ولكن لارتباط البلاشفة الوثيق بالأيديولوجية الماركسية على نهج لينين.
هذه الأيديولوجية منحت ستالين قوة وثقة في مواجهة التراجعات الاقتصادية والسياسية. فالسياسات التي وُضعت لتحقيق الرخاء، إن سبّبت مزيدًا من الفقر، فهناك تفسير دائمًا: النظرية أسيء فهمها، القوى لم تكن متحدة، المسؤولون تصرّفوا بحمق. وإن لم تلاقِ السياسات السوفييتية شعبية كبيرة، حتى ضمن الطبقة العاملة نفسها، يمكن تفسير الأمر أيضًا بأن الصراع الطبقي بدأ يحتدم خالقًا مزيدًا من الاحتقان.
أيًا كان الخطأ، يمكن تفسيره دائمًا بالثورة المضادة، بتأثير القوى المحافظة، أو بنفوذ البرجوازيين السرّي. وكان ممّا قوى هذه الاعتقادات، الحرب الأهلية العنيفة في أعوام 1918 و1919 و1920م، التي خاضها الجيش الأحمر السوفييتي ضد الجيش الأبيض الموالي للقيصر المعزول. ومرارًا وتكرارًا يتأكد لستالين أن العنف هو مفتاح النجاح الأكبر. يقول كوتكين:
“الحرب الأهلية لم تكن شيئًا أدى إلى تشويه فكر البلاشفة، بل شكل عقولهم بدرجة كبيرة. كانت الحرب هي الحدث الذي أيّد الصراع ضد ‘الطبقات الاستغلالية’ و‘الأعداء’ الداخليين والخارجيين، وبذلك اكتسبت وسائل العنف والنهب طابعًا من الشرعية، والعجالة في التنفيذ، بل والأخلاقية أيضًا”.
بالنسبة لستالين، كان للحرب الأهلية أهمية خاصة، لأنها منحته أول تجاربه في السلطة التنفيذية. في 1918م، ذهب ستالين إلى مدينة تساريتسن، بموقعها الإستراتيجي المطل على نهر الفولجا، وأهميتها كتقاطع محوري لخطوط السكة الحديد. كانت مهمته أن يوفّر طعامًا للعمال الجائعين بموسكو وبتروجراد. بعبارات أخرى، أن يصادر القمح متخذًا وظيفة زعيم العصابة البلشفية هناك. ليتمكن من القيام بمهمته، أعطى ستالين لنفسه سلطات عسكرية واسعة، وتولّى قيادة الفرع المحلي لقوات البوليس السرّي، بل وسرق عشرة ملايين روبل من مجموعة أخرى من البلاشفة. وعندما لم تعمل خطوط النقل كما كان يرغب، أعدم التقنيين القائمين على التشغيل، واصفًا إياهم بـ”دخلاء الطبقة”. قام أيضًا بالتخلص من أنصار محتملين آخرين للثورة المضادة. يقول كوتكين إنه لم يفعل ذلك بدافع من السادية أو الذعر، وإنما كإستراتيجية سياسية بحتة ليرعب العامة ويصدمهم. كان يحذَر أتباعه من أعداء الثورة الداخليين الذين كانوا على وشك التمرد وإعادة الاستيلاء على المدينة لتسليمها إلى الجيش الأبيض.
“ما جرى في تساريتسن، هو صورة مصغرة للسيناريو الذي جرى به عدد لا يحصى من المحاكمات المفبركة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي”.
هذه الوسائل كادت أن تدمر القوة العسكرية لتساريتسن، واقتنع لينين في النهاية بضرورة إعادة ستالين إلى موسكو، لكنها أنتجت ما يكفي من القمح على كل حال. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، نسي الجميع خطايا ستالين العسكرية، بل وتغيّر اسم تساريتسن ليصبح (ستالينجراد)!
هذا النمط يعيد تكرار نفسه طوال حياة ستالين. كلما واجهته أزمة استخدم وسائل ثورية فوق قانونية لحلّها، وأحيانًا لم يُجدِ هذا سوى في تعميق الأزمة وإطالة زمنها. لكن، إن استخدم ما يكفي من القسوة والعنف، فإنه ينجح في قمع المعارضة في النهاية.
ينتهي مجلد كوتكين الأول بقرار ستالين أن يُطبّق نظام الزراعة التعاونية. تطلّب تطبيق هذا النظام التهجير والسجن بل والتجويع الممنهج للملايين، ليضمن في النهاية سيادة نظام ستالين الكاملة سياسيًا على الاتحاد السوفييتي.
في وقتنا المعاصر، نفترض تلقائيًا أن مرتكبي جرائم العنف على نطاق واسع لابد وأن يكونوا مخابيل أو غير عقلانيين، لكن كوتكين يُثبت أن ستالين لم يكن شيئًا من هذا. من المرعب حقًا أن ننظر إلى ستالين كرجل عقلاني، شديد الذكاء، مدعوم بأيديولوجية قوية إلى حد تبرير قتل الملايين من البشر. يعني هذا أنه لا يجب أن نستخف بتصريحات الروس الذي يدعون إلى استخدام الأسلحة النووية ضد بلاد البلطيق، أو قادة داعش الذين يحملون الموت للنصارى واليهود. كون اللغة التي يتكلمون بها تبدو غريبة على مسامعنا، لا يعني بالضرورة أنهم وأتباعهم لا يجدونها مقنِعة، أو أنّهم لن يسعوا لتنفيذ منطقهم على أرض الواقع.