يحزم توفيق أمتعته ويتجه للخارج، يداخله شعور ببداية تحقيق الحلم الذي لم يتخيل تحقيقه في مصر لأنه أخيرًا سيسافر للخليج. يكتم دموعه لحظة وداع الأهل والأصدقاء، ويلقي نظرة وداع على حبيبته الصغيرة، ويرحل.
في دراسة بعنوان «حتى ينتهي النفط.. الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج» التي نقلها للعربية عمرو خيري، يربط باحث الأنثروبولوجيا«صامولي شيلكه» علاقة العامل المصري «الفقير» بين بلد العمل التي يذهب إليها (قطر نموذجًا أو الخليج عمومًا) وبين بلده الأصلي التي جاء منها (مصر) وبالتحديد القرية الصغيرة التي كان يعيش فيها.
تلك القرى التي أصبحت أشبه بالتدريج بضواحي تابعة للخليج عمومًا نتيجة زيادة تعداد المهاجرين منها إلى دول الخليج بشكل رئيسي للحصول على عمل هناك، وتلك الهجره التي «تعيد إنتاج نفسها» على حد قول الباحث.
يقول الباحث إن فكرة هذا الكتاب تعود إلى الفيلم الوثائقي «رسائل من الجنة.. البحث الدائم عن مكان أفضل». الفيلم من إخراج دانيالا سفاروفيسكي وصامولي شيلكه، ويتحدث أيضًا عن الأحلام والهجرة لدى الشباب، لكنه رأى إن الفكرة تحتاج لمجهود أكبر، لذلك يقول بأن البحث استغرق منه ما يربو عن ثلاث سنوات.
يعتمد «شيلكه» على العامل «توفيق» بشكل رئيسي في بحثه لاعتقاده بأنه قادر على تحليل الوضع الذي يعيشه أكثر من زملائه المنوط بهم هذا البحث، ويقول أيضًا إنه من رشّح له كلمات الشاعر المصري صلاح جاهين ربما لما تحتويه من غضب وثورية لتشجيع العمال في النهاية على رفض الوضع الذي يعيشونه لتتصدر مقدمة الكتاب وتعبر بشكل كبير عن أفكار يطرحها الباحث.
«اقلع غِماك يا تور وارفض تِلفّ. اكسر تروس الساقية واشتم وتف. قال بس خطوة كمان، وخطوة كمان؛ يا اوصل نهاية السكّة يا البير يجف» *صلاح جاهين
حاور «ساسة بوست» عالم الاجتماع الفنلندي صامويل شيلكه، الحاصل على الدكتوراه في جامعة أمستردام بهولندا عن رسالته بعنوان الموالد في مصر. ويعمل الآن باحثًا في مركز دراسات الشرق المعاصر في برلين، للاقتراب أكثر من أطروحته التي قابلت رواجًا كبيرًا في الفترة الأخيرة.
يا عمال العالم أنتم الفقراء إلى الله.. والخليج
تبدأ الرحلة في مول فيلاجيو، أحد أفضل أماكن التجارة والتسوق في الدوحة، يدخل الباحث وصديقه «توفيق» الذي يعمل حارس أمن ببنك في وسط مدينة «قطر» والقادم من إحدى القرى الفقيرة في مصر «نزلة الريس» إلى المول لشراء بعض الطعام، ثم الذهاب إلى صديقهم الآخر «عمرو» في مكان عمله.
بالرغم من أن توفيق – الذي كان يريد الهجرة لأوروبا وليس للخليج- يبتهج لرؤية الشابات في المول لأن ذلك نادرًا ما يحدث في قطر لأعزب مثله، لكنه قال لحظة دخوله «دلوقتي عرفت قد إيه مصر بنت ناس. دا زيف. دا ترومان شو. عمري ما مصر وحشتني زي دلوقتي».
تنبع هذه الكراهية بالنسبة لتوفيق من زيف واصطناع ما يوجد داخل المول «الترومان شو»؛ ذلك الشكل المتطرف للإنفاق بإفراط أمام الاستغلال الذي يواجهه وجميع العمال مثله في قطر من وجهة نظره.
ذلك العامل الذي يجد نفسه مضطرًا لعدّ كل «مليم» في راتبه الزهيد، لأن الترفيه القليل يتعارض مع أهداف العمال الرئيسية للهجرة وهو «ادخار الفلوس لمستقبله» (اختار الباحث أن تترجم إلى الفلوس وليس إلى المال لأنه يقصد الورق النقدي بشكل واضح بخلاف كلمة المال التي يمكن أن تطلق على عقارات وأملاك أخرى)، بالتالي يشعرون داخل هذه الأماكن بالاغتراب والكراهية في مقابل حب مصر أو بالتحديد تلك القرى التي جاءوا منها والتي تشبههم كثيرًا.
قال كارل ماركس في كتابه بؤس الفلسفة إنه «كلما زاد رأس المال الإنتاجي اضطر بدرجة أكبر إلى أن ينتج لسوق لا يعرف احتياجاته، وازداد سباق الإنتاج للاستهلاك». ربما بصورة واضحة بالنسبة لهؤلاء العمال البسطاء تعد هذه «البهرجة» خارج حدود أسواقهم وحياتهم.
يعتبر هذا المول والأبراج العالية وما يشبه هذه الأماكن شيئا أكثر من واقعهم أو كما يطلق الباحث عليهم مصطلح «الهايبر واقع» بالنسبة لهم، هو شكل من أشكال المحاكاة المقنعة لدرجة أن الشيء الأصلي يبدو إلى جوارها أقل واقعية، أو يُهجر تمامًا.
حيث إن هذه الأماكن التي يبنيها هؤلاء العمال تخدم طبقة مختلفة تمامًا، وهو ما يجعلهم في غربة أي ديستوبيا مخيفة بمعنى أنهم يصبحون على الجانب الآخر من العالم الذي يبنونه ويشاهدونه داخل المول، الذي يعتبر «يوتبيا» أو كما يفسرها الباحث مدينة الأغنياء.
يفرّق الباحث بين مفهوم «الغربة»؛ ذلك الانفصال عن الروابط المألوفة للفرد والانقطاع عن الحياة الكاملة التي يجب على المرء أن يتحملها رغمًا عنه. وبين مفهوم «السفر» الذي يسعى المرء له ولا يهدّد روابط وحياة الفرد. بالتالي يمكننا أن نعتبر عمال الخليج في حالة اغتراب عن الواقع الذي يعيشون فيه، حالمين بمسارات حياة مختلفة عن هذا الواقع المجبرين عليه بحسبه.
كان العمل «الممل وعديم الجدوى» لعمرو وصديقه توفيق، والذي حصلوا عليه من مصر بعد عناء بواسطة مكاتب إلحاق العمال بالخارج. هو أن يعمل الفرد حارس أمن في وردية 12 ساعة لسبعة أيام في الأسبوع مقابل 1100 ريال سعودي أو ما يعادل 1750 جنيه مصري آنذاك.
بالتالي لم يسمح هذا الراتب «الزهيد» للعامل أن يجلب أسرته معه أو حتى أن يملك سيارة خاصة يذهب بها للعمل بديلًا للمواصلات العامة التي تكلفه كثيرًا إذا لم يلحق مواصلات الشركة.
«لما باجي من الشغل بحس إني مش قادر على حاجة إلّا النوم، الوردية الــ12 ساعة مش بتسيبلك وقت ولا طاقة علشان تراعي أي حاجة تانية في حين إن الموظفين القطريين يناموا ويسيبولك الشغل كله وبعدين يدفعولك جزء صغير من الفلوس… ده حرام لدرجة إن كلمة حرام متكفيش» *أحد العمال المصريين.
قال الفيلسوف جورج بوليترز في كتابه «مبادئ أولية في الفلسفة»: «إن الناس يصنعون تاريخهم بفعلهم وفقًا لإرادتهم؛ التي هي تعبير عن أفكارهم. هذه الأفكار تتأتى من ظروفهم المعيشية المادية أي من انتماءاتهم إلى طبقة ما». إذًا تؤدي إشكالية العمل الرخيص هذه إلى شعور العمال دائمًا بعدم جدوى الطبقة التي ينتموا إليها نتيجة الإهمال الذي يلاقونه أمام المجتمع الرأسمالي الذي لا يستطيعون مجاراته، وهو ما يزيد من إحساسهم بالغربة.
ربما يعتقد البعض إنها نظرة طبقية نوعًا ما لكنّها مشروعة كما يوضح لنا الباحث. هم في النهاية يشترون طعامهم من نفس المكان الذي يذهب إليه موظف آخر في البنك يتقاضى ما يقرب من 200 ألف ريال، ولم يكن حراس الأمن عمومًا هم الأقل أجرًا فهناك بعض الوظائف كعمال النظافة والخادمات من يعمل بـ500 ريال شهريًا.
على الرغم من أن «صامولي» يخبرنا إن العامل في الخليج لا يستطيع أن يشتكي وضعه لأن ذلك يؤدي إلى ترحيله الفوري من البلاد، بالإضافة إلى وجود محظورات قانونية لتكوين نقابات أو تنظيم إضرابات شرعية، إلا أنه يقول إن هناك ما هو أصعب على المستوى الإنساني عمومًا وهو الملل غير الطبيعي من «تكرار الحياة» والروتين الذي يعيشه هؤلاء العمال.

صورة لصامولي شيلكة
يسكن العمال الذكور منفصلين عن النساء وعن العائلات القطرية عمومًا، كما يقسمون حسب الجنسية التي ينتمي إليها العامل سواء من مصر أو سيرلانكا أو نيبال وهكذا.
عادة ما يتكون المسكن من طابقين أو ثلاثة، ويوجد حمام واحد في كل طابق، في غرفة تجمع العديد من العمال، حيث بقايا الطعام الذي يطهونه بأنفسهم يترك في أكياس بلاستيكية قرب السقف خوفًا من حشرات مثل الصراصير، بالإضافة إلى الناموس والبق، الذي يقف بالمرصاد للعمال خصوصًا أثناء النهار شديد الحرارة.
هناك سجادة يجلس عليها العمال للطعام والصلاة. أيضًا يحافظ المصريون تحديدًا على وجود «لاب توب» شخصي لكل فرد يتحدثون من خلاله إلى ذويهم وأقاربهم في مصر.
بالرغم من أن هذا الزحام «غير النظيف» يقضي على خصوصية الأفراد إلا أنه يساعد كثيرًا في تكوين صداقات، لكنها عرقية وعنصرية ومتحيزة إلى أبناء نفس البلد بحسب صامويل. فهناك العديد من المشكلات التي تحدث بين العمال على أساس الدولة التي جاءوا منها فقط. مثلًا يتقزز المصريون من رائحة وشكل الطعام الآسيوي ويعتبرون تناوله ولاء وتبعية للآسيوين.
يقول «شيلكه» إن هذه الغربة قد تساعد هؤلاء المصريين على معرفة عادات وتقاليد مختلفة عنهم لكن هذا لا يعني تقبلهم للأمر، فالمصري بالنسبة للمواطن النيبالي الأصل شخص لا يعرف كيف يتحمل الآخرين أو يتعامل معهم باستثناء القليل منهم.
يخبرنا شيلكة الخبير بمصر بأن المصريين يعاملونه بوّد ولطف، لكنه يرجع ذلك إلى كونه أبيض أوروبي وله امتيازات خاصة، في حين تشوب معاملة العمال فيما بينهم بعض الندّية، حيث يحاول المضطهِد أن يشعر بأنه أفضل حالًا من الآخرين، فكلاهما فقير يشعر بالتنافس على المكانة والمكان.
يقول الباحث إن النظام القطري هو المسؤول الرئيسي عن هذا الأمر، بسبب «نظام الكوتة» الذي تستخدمه الدولة عمدًا وتحاول وضع نسب محددة لكل مجموعة دول مختلفة في اللغة والدين، وربما تتبادل العداوة إلى حد كبير لكن بشكل غير مباشر. قررت قطر نهج هذا النظام بعد احتشاد العمال الفلسطينيين في وقت الاحتلال العراقي للكويت حيث كان العمال العرب هم الأغلبية آنذاك.
تنزع هذه الطريقة السياسة من المعادلة، فالعمالة الأجنبية عمومًا في قطر تصل إلى 80% من السكان وهو ما يجعل الدولة من وجهة نظر شيلكة في خطر حقيقي لو اتحدوا في مواجهة الحكومة والقيادة العليا للدولة.
«كل شيء في قطر يدور حول الفلوس»
في الواقع الاقتصادي وبحسب التقليد الماركسي يصبح العامل أكثر فقرًا كلما أنتج ثروة أكثر، وكلما زاد إنتاجه قوة واتساعًا. يصبح العامل سلعة أرخص كلما زاد ما ينتجه من السلع، حيث انخفاض قيمة العالم الإنساني تزداد في تناسب مباشر مع زيادة عالم الأشياء. لا ينتج العمل السلع فقط إنه أيضًا ينتج نفسه والعمال أنفسهم باعتبارهم سلعة، وذلك بحسب الرؤية الماركسية.
يقول «صامولي شيلكه» إنه بطريقة أو بأخرى، يفهم غالبية العمال في قطر مدى الاستغلال والظلم الذي يتعرضون له، بالتالي يعتبر البعض هؤلاء العمال الذين يحاولون إتقان عملهم شيئا غير ملائم وخارجًا عن المألوف بين العمال، فهم على يقين أنهم يمكن أن يموتوا من أجل الشركة، ولن تعطيهم مكافأة مقابل ذلك.
هُم يعملون 12 ساعة في 365 يوم متواصل في العام، وهذه تضحية كافية تجعل النوم في مكان العمل أمرًا معتادًا بالنسبة لهم، وكذلك كل ثغرة في النظام يمكن من خلالها ادخار الفلوس أو الجهد تعتبر بمثابة استرداد كرامة ومبعث للفخر والسعادة بالنسبة لهم.
يقول الباحث إننا يمكننا أن نعتبر هذه الطرق «الالتفافية» لا تتحدى النظام بقدر ما تجعله أنعم وقعًا على هؤلاء البسطاء.
يجتمع العمال «الذكور» في قطاعي الصناعة والإنشاءات يوم عطلتهم (الجمعة) في شارع وسط مدينة الدوحة، يرجع أصلهم إلى مختلف البلدان، ولا يشاركهم هذا الطقس حراس الأمن، فهم يعملون هذا اليوم الإضافي الذي يرفع من رواتبهم نسبيًا.
هذا اليوم بالتحديد من كل أسبوع بخلاف باقي الأيام تكون المولات والحدائق للعائلات فقط، فالعمال العزّاب غير مرحب بهم، رغم أن الكثيرين منهم متزوجون ولهم أطفال لكن في بلادهم، ولا يستطيعون أن يجلبوا أسرهم إلى قطر نتيجة ارتفاع ثمن المعيشة هناك، في حين يُسمح للأجانب الأوروبين العزاب بالتجول بشكل طبيعي.
يقول الباحث إن هذا الفصل الجنسي بين العمال الرجال وبين النساء عمومًا يؤدي إلى تنامي التفكير الذكوري والكبت الجنسي لدى العمال، بالتالي يعمّق الأزمة ولا يحلها بالنسبة لهؤلاء العمال، بحيث يجعل حديث العمال الدائم عن النساء والأساطير المتعلقة بشغفهن للدخول في علاقة جنسية مع أي مصري.
في المقابل ساعد ذلك كثيرًا العمال القابلين لهذا الفصل الصارم في تنامي أفكار الصحوة الإسلامية والعودة للدين وما يشبهها من أفكار.
يشتكي العمال حالهم دائمًا، ويقولوا إن «الفلوس» تحكم كل شيء في قطر، معنى الحياة تقلص إلى جني النقود وادخارها وإنفاقها حصرًا، وهو ما يدفعهم لمناقشات دائمة حول المبلغ الذي يجنيه كل فرد فيهم باستمرار.
يبدو الأمر طبيعيًا إلى حدٍ ما، فالناس تهاجر من أجل المال بشكل أساسي، لكن الباحث ينزعج من «هيمنة حسابات الدخل والنفقات والمدخرات» التي تسيطر على أغلب الأحاديث بشكل صارخ بعكس مصر التي تناقش فيها الأمور المادية في الخفاء على حد قوله.
يقول توفيق (حارس الأمن): «كل شيء هنا يدور حول الفلوس لأن الفلوس هي سبب الوجود هنا، ولأن من الصعب الحصول على ما يكفي منها، ولأن هناك آخرين يحصلون على الفلوس بكثرة». بالتالي الفلوس هي شكل السلطة الوحيد في قطر بينما لا يملك توفيق حيلة أمام تواجده بوصفه مغتربًا، خصوصًا أن رأيه دائمًا «إن المشروع الوحيد اللي ينفع في مصر هو إنك تسافر».
يقول «صامولي شيلكه» في حواره لـ«ساسة بوست» إن «النظام الخليجي» يستغل العمالة بلا استثناء حيث لم نعد نرى أهمية واضحة حتى لخريجي الجامعات مثل ذي قبل، لكن المؤسف في رأيه أن تغيير هذا النظام عمل صعب جدًا، حيث يمكننا أن نتخيل انهيار النظام العالمي بأكمله لكن يبقى نفط الخليج ونظامه كما هو.

صورة من حوار «ساسة بوست» مع صامولي شيلكة
أن تهاجر يعني أن تحلم بأشياء ربما لن تعيشها
لا بد للرجل المصري أن يسافر لأن عليه أن يتزوج، فالزواج والأولاد مسألة ضرورية لكي لا يعد الشاب المصري فاشلًا في نظر مجتمعه، حتى إن لم يكن متحمسًا، لذلك فلا بد من جمع المال الذي يتزوج به، بالتالي تصبح للهجرة والحصول على المال «غرض أخلاقي» لبناء أسرة جديدة، أي أن التفكير لا يكون عن نجاح أو فشل الهجرة بقدر تركيزه على الهجرة في حد ذاتها بالنسبة للمصريين، فهي المسار الوحيد للخروج من العدم (مصر) إلى الإنتاجية والمال (قطر والخليج) رغم كل الظروف الصعبة التي يواجهها المهاجر.
يقول «صامولي» إنه بالنسبة لهؤلاء العمال الحلم لا يعتبر حرية خالصة تمامًا، فالأحلام بدورها «أصبح المعروض منها قليلًا»، بالتالي الأحلام هنا حتمية ومرسومة مسبقًا للفرد، فالرجل المصري يتزوج من أجل بناء أسرة، ويضطر نتيجة ذلك إلى الهجرة وجمع المال لهذه الأسرة والنتيجة «أن الفرد يعيش جزءًا كبيرًا من حياته بعيدًا عن الأسرة التي ناضل لبنائها».
يذكر الباحث مميزات هذه «الأحلام الحتمية» أيضًا، حيث إن هذه الأحلام التي تخص الزواج والعمل المريح حولت الريف المصري إلى مباني خرسانية كالمدن تمامًا، كما إنها تسهم في تغيير أنماط التدين سواء للمسيحيين أو المسلمين، بالتأكيد ليس الخليج هو المصدر الرئيسي في هذا التغيير لكن الهجرة تشكل جزءًا من انغلاق الأفراد أمام المختلفين دينيًا وأخلاقيًا، بحسبه.
يخبرنا «شيلكه» إنه في النهاية «يصبح الانفصال بين الخيال والأخلاق والأحلام مستحيلًا، هذه الوحده غير القابلة للانفصال هي ذاتها التي تجعل قوة الخيال قوية لهذه الدرجة، وقادرة على إعادة إنتاج واقع سيء لا يمكن إنكاره. في الوقت نفسه فإن هذه القوة لطالما تعايشت وتجاوزت مع قوة أخرى أضعف، هي الرغبة فيما هو أكثر من المعروف وما يمكن توقعة» أو على حد تعبير الروائي مختار سعد شحاتة «يحلم العامل بأن يكون لديه أحلام أخرى».
يلاحظ «صامولي» نتيجة ذلك انتشار التصوف الإسلامي بين العمال المسلمين المنوط بهم هذا البحث وبالأحرى عند «توفيق». يزعم إنهم وجدوا في هذا النوع من التدين «أسلوب دفاع نفسي» يهربون من خلاله عن العجز الذي يحيط بهم من قبل الحكومات والمجتمعات الرأسمالية.
من كان له قلب فلينتبه
يتابع «صامولي» رحلته مع بطله «توفيق» بعد أن قرر العودة لمصر، ذلك العامل الذي يحب الأدب والشعر لدرجة أن سبب عودته من قطر إلى مصر هو قراءة رواية تشجع على البحث الدائم لتحقيق الأحلام (الخيميائي لباولو كويلو)، وهو ما يجعله يتساءل حول قوة الخيال عمومًا الذي يجعلنا نأخد خطوات مصيرية مثل هذه.
لم تستمر أحلامه كثيرًا، فسرعان ما عاد يبحث عن عقد عمل آخر في الخليج قبيل ثورة يناير، لكن الثورة قد غيرت الأمر على الأقل حين قامت، وتحمس لها توفيق وأصبح ناشطًا سياسيًا مليئًا بالحماسة التي لم تكن موجودة عندما كان في قطر، لكن ذلك ينتهي أيضًا «بفشل الثورة» كما يعتقد توفيق.
قرر توفيق أن يهجر مصر مرة أخرى لكن هذه المرة كانت إلى أبو ظبي في دولة الإمارات، لكنه يحمل أملًا جديد هذه المرة بخطبته للفتاة التي كان يحبها «زرقاء».
عاد توفيق في 2013 ليحتفل بزفافه إلى حبيبته زرقاء. يقول الباحث إن هذا الأمر قليل الحدوث في مصر، بالرغم من أن مشروع الزواج إجباري إلا أن الزواج من فتاة تحبها شيء أكثر صعوبة هنا.
لكن وعلى ما يبدو إن العالم يتغير سريعًا عندما نكون سعداء، فمع الوقت يتحول توفيق مرة أخرى للتجهم والتفكير (بعكس النهايات السعيدة التي تمناها مع رواية الخيميائي) في عبء دخل الأسرة الذي يزيد يومًا تلو الآخر خصوصًا مع «حمل» زرقاء.
فقدت الغربة في نظره ميزتها الوحيدة التي تملكها؛ جمع المال الكافي. أصبح العالم أشبه بسجن كبير يعيش فيه الفقراء من أمثال «توفيق» بحسبه، ربما زادت نظرته التشاؤمية للأمور إلا إنه لم يرَ بديلًا لما يقاسيه من عناء لا ينقطع، رغم سعيه الدائم للحياة بشكل «طبيعي».
«دايمًا فيه سور. الجواز كان سور لازم أنط من فوقه، ولما عديته دخلت ع السور اللي بعده، اللي هو تربية العيال وإني أبني مستقبلهم، الحياة عبارة عن سلسلة من الأسوار اللي لازم الإنسان يعديها، دايمًا في سور لازم تنط من فوقه» جعلت هذه النظرة للحياة «توفيق» على يقين من رأيه القديم «إن المشروع الوحيد الصالح في مصر هو السفر» وهو ما أكّد رؤية «صامولي» إن الهجره تعيد إنتاج ذاتها بهذه الطريقة.
على حد قول عالمة الأنثروبوجيا الإيطالية «باولا أبينانتي»: «عندما يتعرض الناس لحدود الخطابات التي تبني سلوكهم ومطامحهم، قد يشعرون بضرورة البحث عن فتحات تأويلية أو سبل لإعادة التفكير وإعادة تشكيل الأسس الخطابية والأخلاقية التي تبني سلوكهم ومطامهحم»، بالتالي ربما علينا أن نعتبر المجازات التي يستخدمها توفيق هنا توضح العناء الدائم الذي يواجهه ويريد تحديده والتخلص منه.
مغتربون حتى نهاية العالم
يخبرنا الباحث بشعور العمال في الخليج وبأن الغربة تشكل دائمًا حالة ضغط نفسي وعاطفي على العامل، إلا أنهم لا يملكون بديلًا لذلك. يتعجب الباحث من ردود بعض العمال المهاجرين بعد سبعة أعوام من هجرتهم إن كانوا سيعودوا إلى بلادهم أم لا عندما أجابوه: «إحنا قاعدين هنا حتى آخر ريال، لغاية ما النفط يخلص».
مع ندرة فرص العمل في مصر، إضافة إلى العمل عديم الجدوى الذي يجعلك تعمل لمجرد إنك لست عاطلًا، يجعل ذلك من التفكير في ترك «الغربة» شيئا صعبًا، أو كما يقول «كارل ماركس» إنه إذا كان هذا الأجر أو العمل قد بدأ بجعل الإنسان يعمل كي يعيش فإنه ينتهي بأن يعيش حياة الآله، ولا يعود لوجوده قيمة إلّا مجرد قوة إنتاجية، ويُعامله الرأسمالي وفقًا لذلك.
بشيء من التعاطف يقول «صامولي» إن قرية مثل نزلة الريس بمصر هي مسقط رأس توفيق وعمرو؛ العمال الأساسين اللذان سار معهما ببحثه، أصبحت هذه القرية وغيرها ضواحي خليجية بحسبه «هي البيت لمن يضطرون للغربة لجعل هذا البيت ممكنًا» بالضبط مثل سيرلانكا والنيبال وغيرها من الأماكن التي تعتمد على الخليج حتى تعيش في أغلب الأحيان. بالتالي لا يمكن فهم المجتمع المصري دون أن نضع الخليج في المعادلة سواء اقتصاديًا أو سياسيًا، فلا يمكن فهم مصر بشكل منفصل عن الخليج عمومًا، في رأيه.
في النهاية يخبرنا الباحث إن «توفيق» اتصل به لكن بعد الانتهاء من الكتاب ليخبره إنه عاد وسيسافر مرة أخرى، يقول «إنه هذه المرة في نزهة»، وهو ما يعتبره أيضًا «نوعًا من الدفاع النفسي» لشخص لا يملك غير الهجرة حتى يعيش.
ربما توفيق وغيره من العمال لم يجدوا أنفسهم سوى «رحالة» لا يملكون سوى حزم أمتعتهم والتنقل بها من دولة إلى أخرى ليبحثوا عن حلم رُسم لهم مسبقًا. لم يتغير المشهد كثيرًا على مدى السنين، ما زالوا يحلموا بالهجرة طمعًا في الحياة، وما زالوا يكتمون دموعهم عند وداع من يحبون، لكن على ما يبدو لن يستطيعوا أن يعيشوا بدون حلم صغير يرون فيه حياة كريمة لم تتحقق بعد.