«هل نتوقع أن تصبح عمليات إطلاق النار الجماعية روتينية؟ في كل مرة نقول يكفي، ثم تحدث من جديد». تساؤل طرحه بيل نيلسون، السيناتور عن ولاية فلوريدا، في أعقاب حادثة مجزرة مدرسة «بارك لاند» بولاية فلوريدا، التي وقعت في فبراير (شباط) عام 2018، وخلفت نحو 17 قتيلًا و20 مصابًا.
لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها، بل إن وتيرة إطلاق النار الجماعي تتزايد في جميع أنحاء الولايات المتحدة، في المدارس وأماكن أخرى غيرها، تزايدًا مُقلقًا. وما زالت تُثير المآسي المتكررة والحوادث المخيفة لإطلاق النار ردود فعل سياسية شديدة الانقسام؛ إذ يحثّ بعض الأميركيين على تشديد القوانين على مبيعات السلاح وملكيته، في حين يدعو آخرون إلى وضع مزيد من الحراس المسلحين في المدارس.
وعلى الجانب الآخر، ينمو خط مواز، تتسارع فيه المدارس والجامعات في التعاقد مع شركات الأمن الإلكتروني؛ لمراقبة وتتبع أنشطة طلابها الرقمية فيما يُشبه الهوس بالمراقبة الرقمية. ويُثير هذا الوضع الذي تجاوز الصفوف المدرسية إلى غرف نوم الطلاب، القلق في نفوس الطلاب، وأولياء أمورهم على حد سواء. فكيف غيرت حوادث إطلاق النار الجماعي المدارس الأمريكية؟ وما الإجراءات التي تتخذها للحد من تكرار مثل هذه الحوادث؟ وهل تمثل دوافع كافية للتجسس على ملايين الأطفال؟ وما موقف أولياء الأمور وخبراء الخصوصية والحريات من ذلك؟
الطلاب الأمريكيون بين مطرقة الكونجرس وسندان لوبي الأسلحة..
في يوم الثلاثاء 20 أبريل (نيسان) عام 1999، اقتحم تلميذان مسلحان مدرسة كولومبين بولاية كولورادو، وشرعا في مجزرة أسفرت عن مقتل 12 طالبًا ومدرسًا، وإصابة أكثر من 20 شخصًا، ثم انتحر هذا الثنائي. كانت تلك أول عملية قتل جماعية تنقلها جميع الشبكات التلفزيونية في البلاد مباشرة، ورابع أكثر مذابح المؤسسات التعليمية دموية في تاريخ الولايات المتحدة، بعد مجزرة مدرسة باث عام 1927، ومذبحة جامعة فرجينيا للتكنولوجيا عام 2007، ومجزرة جامعة تكساس عام 1966.
ألهمت مذبحة «كولومبين» عدة نسخ أخرى من المذابح، فيما يُعرف بـ«تأثير كولومبين»، وأصبحت كلمة «كولومبين» مرادفًا لإطلاق النار الجماعي. وأثارت المذبحة جدلًا بشأن قوانين السيطرة على السلاح، وتوافر الأسلحة النارية في الولايات المتحدة، والعنف المسلح لدى الشباب. وأثارت النقاشات أيضًا حول طبيعة زمرة المدرسة الثانوية، والثقافات الفرعية والبلطجة، وكذلك دور الأفلام وألعاب الفيديو العنيفة في المجتمع الأمريكي.
وقد أعادت مجزرة مدرسة «بارك لاند» بولاية فلوريدا، السجال الدائر حول ثقافة الأسلحة في الولايات المتحدة، وتعالت الأصوات المطالبة بوضع حد لانتشارها، وفرض قيود صارمة على بيعها؛ للحدّ من حوادث إطلاق النار المتكررة، خاصة في المدارس والجامعات. وفي حوار مع وكالة «فرانس 24»، قالت ميفي روبيانو، والدة إحدى الطالبات، التي نجت من المجزرة: «من غير المنطقي أن يمنع القانون القاصرين من شراء الكحول، ويسمح لهم بشراء السلاح».
وفي المقابل، تقف قيادات من الحزب الجمهوري المحافظ، ولوبي شركات تصنيع الأسلحة، التي تتزعمها الجمعية الوطنية للأسلحة (NRA) بالمرصاد ضد أي تشريعات من شأنها منع حق امتلاك الأسلحة، وتُطالب بنشر المزيد من الأسلحة للدفاع عن النفس. ورغم تكرار حوادث إطلاق النار وما تُسببه من صدمات نفسية عميقة داخل المجتمع، يستمر الجمهوريون في رفض تمرير قوانين جديدة لمراقبة الأسلحة، ما يظهر في رفض الكونجرس تشديد القيود على ملكية السلاح. وفي واشنطن، يُظهر الرد السياسي حتى الآن أن الجمعية الوطنية للأسلحة، التي أنفقت 30 مليون دولار لدعم حملة ترامب في 2016، ما تزال قوية.
وفي ظل الوضع الراهن، يجد الجيل الذي شهد حادثة «كولومبين»، والأجيال الجديدة التي تلتها، أنفسهم بين مطرقة الكونجرس ممثلًا في الحزب الجمهوري، وسندان لوبي شركات الأسلحة. وتتزايد مخاوف الأطفال في سن الخامسة في رياض الأطفال، جنبًا إلى جنب مع من يكبرونهم سنًّا في المدارس الثانوية، في حين يشعر آباؤهم بالقلق أكثر من أي وقت مضى حول سلامة أطفالهم.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «جالوب» عام 2018، أن واحدًا من بين كل خمسة طلاب على مستوى البلاد عبروا عن شعورهم بعدم الأمان في المدرسة. وأعرب 35% من أولياء الأمور عن شعورهم بالقلق، بزيادة أكثر من 10% منذ حادثة إطلاق النار الجماعي في «بارك لاند».
معسكرات سجون.. كيف غيرت حوادث إطلاق النار المؤسسات التعليمية؟
أدى تفاقم عنف الأسلحة النارية في المدارس الأمريكية، منذ حادثة «كولومبين» إلى تعريف الأجيال القادمة من الطلاب، التي تلت حادثة «كولومبين»، بقاموس جديد من الأدوات التي لم يكن في وسعهم تخيل استخدامها في المدرسة، أو الحرم الجامعي، مثل تدريبات التعامل مع إطلاق النار، وحقائب الظهر المضادة للرصاص، ومعدات إيقاف النزيف، وغيرها.
وأصبحت تدريبات إطلاق النار المنتظمة، والتي تجري في كثير من الأحيان بمساعدة وكالات إنفاذ القانون المحلية، شائعة الآن في الفصول الدراسية في جميع أنحاء البلاد، في إطار الإجراءات المتبعة لتهيئة الطلاب والمدرسين للتعامل مع مثل هذه الحوادث. وقد أقامت العاصمة واشنطن إلى جانب 41 ولاية العديد من تدريبات الطوارئ في المدارس، وبات يُطلب من كل مدرسة حكومية في الولايات المتحدة أن تكون لديها خطة طوارئ للتعامل مع أي تهديد وشيك.
وبينما قد تتباين التفاصيل الدقيقة بين الولايات والمناطق التعليمية، يتوجب على الطلاب معرفة ما ينبغي لهم فعله في حالة حدوث هجمات إطلاق النار. وداخل الفصول الدراسية، يجري توعية الطلاب باللجوء إلى ما يُعرف بـ«الزوايا الصلبة»، والتي تمثل مساحات آمنة للاختباء بعيدًا عن الأبواب والنوافذ. هذا فضلًا عن وجود مُعدات إيقاف النزيف؛ لإنقاذ الأرواح.
وفي السياق ذاته، تنامى توفير المعدات والخدمات الأمنية في قطاع التعليم؛ لتصبح صناعة مزدهرة تبلغ قيمتها 2.7 مليار دولار، وتُنتج منتجات تغطي كل شيء، من أنظمة المراقبة المحسنة، إلى ألواح الكتابة المضادة للرصاص، وأبواب الفصول المدرعة، وفقًا لمنظمة «IHS Markit».
وفي بعض الولايات، مثل فلوريدا، حيث جرى التوقيع على قانون السلامة العامة لمدرسة مارجوري ستونمان دوجلاس الثانوية؛ أصبح الوجود الأمني المسلح في كل حرم جامعي إلزاميًّا، بالإضافة إلى تحديد نقطة دخول واحدة؛ لضمان حرم جامعي آمن. وأصبحت بعض المؤسسات التعليمية محاطة بالكامل بالأسوار العالية، يجوب في دوريات حولها الموظفون المكلفون تنفيذ القانون، والمعروفون باسم «ضباط الموارد المدرسية»، أو حراس الأمن المدربين في زي رسمي. وغدت بعض المدارس والجامعات الآن تُشبه معسكرات السجون أكثر منها أماكن للتعليم.
من صفوف الدراسة إلى غرف النوم.. كيف تتجسس المؤسسات التعليمية على طلابها؟
لم يتوقف الأمر على إقامة الدورات التدريبية، وتعزيز الأمن في المؤسسات التعليمية داخل الولايات المتحدة؛ لمواجهة حوادث إطلاق النار المتكررة، بل امتد الأمر إلى مراقبة أنشطة الطلاب الإلكترونية، والتجسس على ما ينشره روادها على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي رسائلهم الخاصة بين بعضهم بعضًا. وقد تنامت أعداد شركات التكنولوجيا المعنية بمراقبة رسائل البريد الإلكتروني، والمستندات الخاصة بملايين الطلاب الأمريكيين، عبر آلاف المناطق التعليمية؛ بحثًا عن علامات تتعلق بالأفكار الانتحارية، أو التنمر، أو خطط إطلاق النار في المدارس.
وتعمل تلك الشركات التقنية مع المدارس؛ لمراقبة عمليات البحث التي يُجريها الطلاب على الإنترنت، وكيفية استخدامهم له. وقد غذَّت المخاوف من إطلاق النار في المدارس نمو هذا السوق الإلكتروني؛ ما جعل تقنيات المراقبة المدرسية الجديدة لا تتوقف عند انتهاء اليوم المدرسي، بل تمتد لمراقبة أي شيء يكتبه الطلاب في حسابات البريد الإلكتروني الرسمية، أو الدردشات، أو المستندات، على مدار 24 ساعة في اليوم، سواء كان الطلاب في فصولهم الدراسية، أو غرف نومهم.
وتستخدم تلك الشركات خوارزميات تعتمد على الكلمات الأساسية، والتعلم الآلي؛ لمسح المنشورات التي ينشرها الطلاب على وسائل التواصل الاجتماعي، ضمن منطقة جغرافية محددة للكلمات، التي يمكن أن تُشير إلى أن الطالب في خطر، أو يُشكل تهديدًا للآخرين. وعند اكتشاف كلمة معينة، يُرسل تنبيه إلى مسؤولي المدرسة. ومقابل رسوم إضافية، يمكن لتلك الشركات أيضًا فحص محتويات رسائل البريد الإلكتروني للطلاب. وتقول إن الهدف من ذلك هو التخفيف من مشكلات التنمر الإلكتروني، وإيذاء النفس، وانتحار المراهقين، ومنع إطلاق النار الجماعي، وغيرها من أعمال العنف.
ومن أبرز الشركات التي وُظِّفت لتنفيذ أعمال المراقبة الإلكترونية، «سيكيورلي (Securly)» و«بارك (Bark)»، و«لايت سبيد (Lightspeed)» و«سوشيال سينتينل (Social Sentinel)». وقد سبق وصرح جاري مارجوليس، مؤسس الأخيرة: «لقد صممنا تقنية تساعد في الواقع على منع حدوث أشياء سيئة، عبر توفير معلومات يمكنها أن تعطي سياقًا لما يحدث، بطريقة تحترم الخصوصية، وكل ما أتلقاه به هو التساؤلات حول مشكلات الخصوصية. إنه أمر محبط».
وتقول شركة «جاجل (Gaggle)»، الرائدة في مراقبة البريد الإلكتروني والمستندات المشتركة في المدارس، إن تقنيتها تُستخدم حاليًا في مراقبة 4.5 مليون طالب، في 1400 منطقة مدرسية، وأن تقنيتها ساعدت في إنقاذ حياة أكثر من 700 طالب، كانوا يخططون أو يحاولون بالفعل الانتحار. أيضًا تقول «بارك» إنها تعمل مع ما لا يقل عن 1400 منطقة مدرسية في جميع أنحاء البلاد، وتَدّعي أن تقنيتها ساعدت في منع 16 حالة إطلاق نار في المدارس، واكتشفت 20 ألفًا من حالات إيذاء النفس الشديدة. وفي السياق ذاته، تقول شركة «سيكيورلي» إن منتجاتها تستخدم لحماية 10 مليون طالب عبر 10 آلاف مدرسة، وساعدت في عام 2018 مسؤولي المدارس على التدخل في 400 موقف يُمثل تهديدًا وشيكًا.
وقد ارتفع المبلغ الذي تنفقه المؤسسات التعليمية الحكومية العامة على خدمات البريد الإلكتروني، ومراقبة المستندات، من حوالي 4 مليون دولار إلى أكثر من 8 مليون دولار منذ عام 2013، العام الذي تلا حادثة إطلاق شاب عشريني النار في مدرسة «ساندي هوك» الابتدائية؛ وأسفر عن مقتل 20 طفلًا وستة معلمين في عام 2012. ويبدو أن هذه الأرقام أقل من الحجم الكامل للسوق، وفقًا لمركز برينان للعدالة.
وتستغل تلك الشركات مثل هذه الحوادث المأساوية، في جذب مزيد من المؤسسات عقب كل حادثة إطلاق نار جماعي، بالرغم من الأدلة القليلة على جدوى برامج التجسس الخاصة بها في إحداث أي تأثير في العنف. وخاصة وأن إحصائيات تلك الشركات حول الأرواح التي ساهمت في إنقاذها، تستند إلى بيانات قصصية خاصة بها، ولم يجري تقييمها بصورة مستقلة. ولا يوجد حتى الآن تقييم مستقل لما إذا كان هذا النوع من تكنولوجيا المراقبة، يعمل فعليًّا على الحد من العنف وإيذاء النفس.
انتهاكات للخصوصية وإنذارت خاطئة.. مخاوف أولياء الأمور من قبضة المراقبة الأمنية
رغم الجهد الهائل الذي تبذله المؤسسات التعليمية الأمريكية؛ لإثبات أنها تفعل شيئًا للحفاظ على سلامة الأطفال، ما يزال أولياء الأمور والطلاب غير مدركين إلى حد كبير لنطاق وكثافة الرقابة المدرسية الإلكترونية، وفق ما يقول خبراء الخصوصية. ويُضيف تشاد مارلو، خبير الخصوصية في اتحاد الحريات المدنية الأمريكية، إن المؤسسات التعليمية تحاول تبرير عملها الرقابي وما تنفقه عليه من الأموال، مدفوعةً بمخاوف من إطلاق النار.
وعلى عكس السيطرة على الأسلحة، قال مارلو إن المراقبة مستساغة سياسيًّا؛ وبالتالي تستخدمها المؤسسات وسيلةً لإظهار قيامهم برد فعل على حوادث إطلاق النار، مع أنه لا يوجد دليل على أنها ستؤثر إيجابيًّا في المشكلة. فضلًا عن ذلك، يقول خبراء الخصوصية إن المراقبة المنتشرة قد تُلحق الضرر بالأطفال، وخاصة الطلاب ذوي الإعاقات وأصحاب البشرة الملونة.
ويرى الخبراء أن مراقبة حسابات الطلاب على وسائل التواصل الاجتماعي انتهاكًا للخصوصية، وطبقة أخرى في الشراكة الحميمة بين الحكومة الأمريكية، وشركات التكنولوجيا للمراقبة الجماعية، والرقابة على الإنترنت. وتملك كثير من تلك الشركات روابط مباشرة مع الوكالات العسكرية والاستخبارية. وغالبًا ما يجري التعاقد مع هذه الشركات دون إخطار الطلاب، أو أولياء الأمور.
وقد أدت إحدى خدمات المراقبة إلى طرد طالب في عام 2013، يُدعى أسيل يوسفي من مدرسته الثانوية؛ بسبب نشره رسالة على موقع «تويتر» قال فيها إنه كان سيضرب مدرسًا في حَلقِه، وأوضح لاحقًا أنها كانت مزحة داخلية في الفصل، لكن مدرسته عدتها تهديدًا. وفي حالة أخرى، اتُهمت إحدى الطالبات بحيازة أموال كثيرة في الصور، وأخرى جرى إيقافها بعد نشرها صورة لها على موقع «إنستجرام»، ارتدت فيها قميصًا يحمل صورة لوالدها الذي كان ضحية جريمة قتل. وقال مسؤولو المدرسة إن ألوان القميص ورمز اليد، الذي استخدمته الطالبة دليل على وجود روابط لها مع العصابات.
ويرى كثير من أولياء الأمور والمدافعين عن الحريات أن حقيقة استخدام مثل هذه الخدمات في الرقابة الإلكترونية، يُمثل مشكلة أمنية خطيرة للطلاب، ويُعد جانبًا من جوانب عملية أوسع لعسكرة الجامعات، التي تجري في جميع أنحاء البلاد. وهو الأمر الذي يُشكل مخاطر هائلة على الحقوق الديمقراطية للشباب، والعمال في كل مكان. ويرون كذلك أن أكبر ما يهم ليس فقط البيانات التي تجمعها الشركات عن الطلاب، بل التداعيات طويلة الأجل على الأطفال الذين يجري تطويعهم لتسليم البيانات دون سؤال؛ وهو الأمر الذي يعمل على تطبيع الأجيال التالية على عالم رقمي أقل خصوصية، ومبني على برامج خاصة.