وعد فأوفى، هكذا فجر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجأة مجددًا، فأعلن انسحاب بلاده من «اتفاقية باريس للمناخ»، محققًا بذلك أحد الوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية.
ما هي «اتفاقية باريس للمناخ»؟
إحدى أخطر المشكلات التي يواجهها العالم اليوم، هي مسألة التغير المناخي، أو«الاحتباس الحراري Global warming»، نتحدث هنا عن ارتفاع يحدث في درجة حرارة الأرض، نظرًا للتأثيرات الضارة التي تسببها الغازات والانبعاثات الناتجة عن الأنشطة البشرية المختلفة، خاصة الصناعية منها.
ما حدث في 2015، وأدى إلى توقيع «اتفاقية باريس للمناخ Paris Climate agreement»، هو أن جل زعماء العالم قد قرروا – وفي لحظة توافق نادرة – أن يوقعوا اتفاقًا يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويخفف من تأثيرات ذلك التغير المناخي، وقّع على الاتفاقية 195 دولة من أصل 197 هي مجموع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بغياب سوريا ونيكاراغوا فقط.
وتنص بنود الاتفاق على تعهد الجميع بحصر ارتفاع درجة حرارة الأرض وإبقائه «دون درجتين مئويتين»، و«بمتابعة الجهود لوقف ارتفاع الحرارة عند 1.5 درجة مئوية» تحدد قياسًا بعصر ما قبل الصناعة في كوبنهاجن عام 2009، ويعني ذلك تقليصًا شديدًا لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، عبر انتهاج إجراءات للحد من استهلاك الطاقة، والاتجاه نحو الطاقات البديلة والاستثمار فيها والعمل على إعادة تشجير الغابات.
وقد أقرت الاتفاقية آلية لمراجعة تلك الالتزامات كل خمس سنوات، تبدأ أولها في 2025، كما يجب أن تساهم الدول الأكثر تقدمًا بتمويلات تقدمها إلى الدول النامية لمساعدتها في مواجهة آثار التغير المناخي، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة (يمكن الاطلاع على النص الكامل للاتفاقية باللغة العربية عبر هذا الرابط).
وفقًا للاتفاقية، فإن كل دولة تحدد منسوبها من الانبعاثات الغازية الواجب خفضها، من دون أن تبقى ملزمة بها قانونًا، وقد تعهدت إدارة أوباما بخفض انبعاثات الولايات المتحدة -ثاني أكثر باعث للكربون في العالم بعد الصين- في 2025 بنحو 26- 28 % مقارنة بمستوياتها عام 2005، أي حوالي 1.6 مليار طن من الانبعاثات السنوية، كما أن إدارة أوباما قد تعهدت بمنح نحو 3 مليارات دولار للدول الأكثر فقرًا بحلول عام 2020.
وفي المقابل، فقد أكدت الصين كذلك التزامها بمقررات الاتفاق، فألغت مؤخرًا خططًا لإنشاء 100 محطة طاقة تعمل بالفحم، كما استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع الطاقة المتجددة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
لماذا انسحب ترامب من الاتفاقية؟
«إلى متى ستظل أمريكا تتعرض لهذا الذل والهوان؟ نحن نريد معاملة عادلة، لا نريد أن تهزأ بنا الشعوب الكبرى أكثر من ذلك» *ترامب في بيان انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ
منذ البداية، أبدى ترامب عداءه لاتفاقية باريس، ويشير تحليل تغريدات ترامب على موقع تويتر أنه قد ذكر موضوع التغير المناخي 115 مرة، وعبّر فيها مرارًا بأن المسألة برمّتها ليست أكثر من «خدعة» ابتدعها الصينيون لتدمير اقتصاد الولايات المتحدة.
وموطن اختلاف ترامب مع الاتفاقية، أنه يرى أنها تحدد قدرة الولايات المتحدة على التحكم بمصادر الطاقة لديها، في حين أنه يعتبرها «تسمح للصين وكذلك الهند ببناء ما يشاؤون من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم»، وهو – كما توضح صحيفة الواشنطن بوست – ادعاء غير دقيق تدحضه نصوص الاتفاقية نفسها التي لا تجعل كل دولة تحدد خطواتها وكمياتها بنفسها، وبإمكان ترامب نفسه أن يعدل من القرارات التي قررتها إدارة أوباما بلا أي مشكلة.
هذا فضلًا عن أن الصين ليست ماضية بلا حسيب أو رقيب في مشروعات الطاقة بالفحم كما يقول ترامب، بل ألغت كما ذكرنا عشرات المشاريع وضخت استثمارات ضخمة في مجال الطاقة المتجددة، أيا يكن، فإن ترامب لم يرهق نفسه كثيرًا بالنقاش حول الأمر، فأعلن قبل أيام أنه بصدد إعادة اتخاذ قرار بخصوص الاتفاقية، ولم يلقِ بالًا لنداءات الساسة في الداخل، أو لـ «توسلات» القادة الغربيين الذين طالبوه بالتمسك بالاتفاقية حرصًا على مستقبل أكثر أمانًا للأجيال اللاحقة.
مدعومًا بتأييد مستشاره الوفي «ستيف بانون»، وصهره «جاريد كوشنر»، ونائبه «مايك بنس» قرر ترامب إذًا سحب بلاده من الاتفاقية، وقد حظيت تلك الخطوة بمباركة بعض القطاعات الاقتصادية التي ترى في المضي قدمًا في تلك الاتفاقية إخلالًا بمصالحها، سيما تلك الولايات التي تعتمد بشكل كبير على حرق مصادر الطاقة التقليدية من فحم وبترول وغاز طبيعي.
أوروبا «مذعورة».. الصين شاكرة لـ«هدية» ترامب
لم يكد ترامب يعلن قراره، حتى سارع الأوروبيون والصينيون على تأكيد تمسكهم بالاتفاقية، وتحت عنوان «ترامب يهدي الصين فرصة ثمينة لقيادة العالم»، اعتبرت صحيفة النيويورك تايمز أن ترامب من حيث هو يريد كبح جماح المارد الصيني، فإنه يعطيها فرصة نادرة عبر الانسحاب من هذه الاتفاقية.
نُظر إلى هذه الاتفاقية باعتبارها ثمرة لجهود مشتركة بين أكبر قوتين صناعيتين -واشنطن وبكين- ، ومن شأن الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية أن يرسخ لصورة الأمريكيين بوصفه جانبًا لا يؤمن جانبه، ولا يحترم كلمته، كما أنها تنفي في نظر البعض الدعاية الأمريكية باستحقاقها لقيادة العالم أخلاقيًا، فكيف لمن لا يلقي بالًا لعالم نظيف لمصلحة الأبناء والأحفاد أن يتحدث بعد ذلك عن الأخلاق أو المبادئ؟
الفرصة سانحة للصين إذًا -بحسب النيويورك تايمز- لالتقاط الراية التي يسقطها ترامب طوعًا، فالرئيس الأمريكي يوفر على الصينيين سنوات من الجهد ومئات المحاضرات والندوات، كل هذا لأن ترامب -بحسب المعترضين على القرار الأمريكي – فكر بعقلية رجل الأعمال، وبشكل سطحي، من دون الوضع في الاعتبار أي عواقب أخرى.
لكن بعيدًا عن الاعتراض الأخلاقي على قرار الانسحاب، فإن ثمة من تلقاه بذعر حقيقي، الأوروبيون، على الجانب الآخر من المحيط، أدركوا أن ترامب جاد فيما يقول، فقد جاء هذا القرار بعد أيام قليلة من اللقاء الذي جمع ترامب بزعماء الناتو، شهد هذا اللقاء توترات عدة، أو لنقل بشكل أدق أنه أعاد إحياء المخاوف الأوروبية بشأن إمكانية أن يسير ترامب على خطى أسلافه في الالتزام بالدفاع عن القارة العجوز.
«هناك ثلاث وعشرون دولة من الدول الثماني والعشرين ما زالوا لا يدفعون ما يجب دفعه وما يُفترض أن يدفعوه من أجل ميزانياتهم الدفاعية». *هذا ليس عادلاً بالنسبة إلى الشعب الأمريكي الذي يدفع الضرائب *ترامب خلال حديثه مع قادة الناتو الشهر الماضي
تبدو ألمانيا هي الأكثر تخوفًا من سيناريو الانسحاب الأمريكي والنأي نحو الذات، فالعلاقات المتوترة بين ميركل وترامب لم تعد تخفى على وسائل الإعلام، وقد خرجت ميركل سريعًا لتندد بقرار الانسحاب الأمريكي، وتصفه بالأمر «المؤسف للغاية»، ولعل ما نشرته صحيفة الفورين بوليسي قبل أسابيع، من رصد لخطوات ألمانية هادئة باتجاه تشكيل «جيش أوروبي»، يدلل بشكل أكبر على القناعة التي باتت تترسخ يومًا بعد يوم لدى القادة الأوروبيين، بأن أيام الاعتماد على الأمريكيين قد ولت، مؤقتًا على الأقل.