مُرتديًا البذلة الرسمية التقليدية التي يرتديها العازفون بقاعات الموسيقى والمسارح، جلس على كرسيه، واضعًا التشيلو بين ساقيه، تناول القوس وبدأ في العزف. قد يبدو المشهد عاديًا، لكن ما ليس بعادي هو أن هذا العازف كان يجلس في ساحة مات بها في اليوم السابق نحو 22 شخصًا بخلاف الإصابات، وظل يعزف كل يوم عن كل روح أُزهقت في ذلك القصف.
هذا هو عازف التشيلو فيدران سميلوفيتش، والذي يُمكننا التعرّف على نبذة من حياته خلال السطور التالية.
«أنت تسألني هل أنا مجنون للعب التشيلو؟ لماذا لا تسألهم ما إذا كانوا مجانين لقصف سراييفو؟»
كانت هذه إجابة سميلوفيتش على أحد الصحافيين الذي سأله عمّا إذا كان مجنونًا؛ لأنه يقوم بالعزف على آلته في الشوارع في خضم منطقة حرب، مُعرضًا حياته للخطر.
نشأ فيدران سميلوفيتش في عائلة موسيقية. وعندما كان طفلًا، أشركه والده في مجموعة «Musica Ad Hominem» (وتعني: الموسيقى من أجل الناس)، للمُشاركة في عزف الموسيقى خلال العروض العامة.
لاحقًا أصبح سميلوفيتش عازف التشيلو الرئيس في أوبرا سراييفو، كما عزف في أوركسترا سراييفو الفلهارمونية، والمسرح الوطني في سراييفو.
مدينة مُحاصرة ومدنيين يُقتلون
في أوائل التسعينات كانت الحياة صعبة على الجميع في سراييفو بسبب اندلاع الحرب. كانت يوغوسلافيا منقسمة إلى دول مختلفة؛ إذ أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا في 6 مارس (أذار) 1992، لكن الصرب لم يقبلوا ذلك.
أسس الصرب دولة جديدة، وأطلقوا عليها اسم جمهورية صربسكا، والتي ستشمل بعض المناطق البوسنية. وقد شنّ الصربي، رادوفان كارادزيتش، رئيس جمهورية صربسكا في الفترة ما بين عامي 1992 – 1996، الحرب البوسنية، بهدف وضع مناطق أخرى تحت سيطرته.
سراييفو، ومعظم سكانها من البوسنيين، كانت مُحاصرة في البداية من قِبل الجيش اليوغوسلافي، ثم أصبحت مُحاصرة من قِبل قوات صربسكا بدءًا من 5 أبريل (نيسان) 1992 ولمُدة أربع سنوات في أطول حصار عرفته أوروبا في التاريخ الحديث.
على الرغم من وجود نحو 70 ألف جندي بوسني في المدينة، إلا أنهم لم يكونوا مُجهزين بشكل جيد. وكان يقطن سراييفو في ذلك الوقت حوالي 500 ألف شخص، الآلاف منهم قتلوا خلال المذابح المُتعددة التي حدثت بالمدينة، حين وجهت القناصة رصاصها خلال الحصار ضد المدنيين.
الموت أثناء انتظار الخبز
بالنسبة لسميلوفيتش وسكان المدينة الآخرين، كانت الحياة عبارة عن محنة يومية لمحاولة العثور على الطعام والماء وسط القصف ونيران القناصة التي أودت بحياة العديد من الأبرياء.
في 27 مايو (أيار) 1992 اصطف طابور طويل من الناس في أحد المخابز القليلة التي لا تزال تعمل، سقطت قذيفة هاون في وسط الطابور، فقتلت 22 شخصًا، وأصابت أكثر من 100 آخرين بجروح خطيرة. وبُعثرت الأشلاء وتناثرت الدماء أمام أنقاض المخبز.
كان سميلوفيتش يعيش بالقرب من المخبز وشعر بالفزع عندما رأى هذا المشهد الدموي من نافذة شقته، شعر بالعجز لأنه لم يكن يملك فعل شيء، فلم يكن سياسيًا ولا جنديًا، كان كل ما يُملكه هو قدرته على العزف على آلة التشيلو التي تقبع بين جدران منزله.
لم يستغرق نفسه في الكثير من التفكير، ففي اليوم التالي وبعدما أدرك أنه لا يجيد فعل أو تقديم شيء آخر سوى العزف، ارتدى ملابسه الرسمية كأنه يتحضر لحفلة موسيقية كلاسيكية، وحمل كرسيًا والتشيلو إلى ذلك الفناء الذي تم فيه قتل أولئك المدنيين الذين ينتظرون الخبز، التقط قوسه وبدأ في العزف.
المعزوفة التي لعبها سميلوفيتش أثناء الحصار.
عزف بطريقة مثيرة للغاية مُعبرًا عن المشاعر الأليمة التي اكتسحته، وعلى الرغم من المخاطر المُحتملة، فقد اجتمع الناس للاستماع. وعندما انتهى من العزف قام بحمل التشيلو وذهب إلى مقهى. وسرعان ما جاء الناس إليه مُعربين عن تقديرهم لما فعله، ومُرددين له أن هذا ما يحتاجونه، وهو ما جعل سميلوفيتش يعود، ليس فقط في اليوم التالي، بل لمُدّة 22 يومًا تالية، مُقررًا العزف يومًا كاملًا عن كل روح أُزهقت أثناء وقوفها في طابور الخبز.
لم يكن وجوده طوال هذه الأيام آمنًا؛ لأن نيران القناصة لم تتوقف، وظلت قذائف الهاون تُمطر الحي، لكن سميلوفيتش لم يتوقف أبدًا عن العزف، ولم يقتصر عزفه على هذا المكان فحسب، بل ذهب إلى مواقع أخرى حيث أودت القذائف بحياة مواطني سراييفو. عزف هناك، وعزف في المقابر والجنازات دون مقابل، على الرغم من أن المدفعية الصربية كانت تستهدف الجنازات كوسيلة لخلق المزيد من الدمار المؤلم، لكنه أراد أن تكون موسيقاه هدية للجميع، وصوت سلام لأولئك الذين يُحاولون الهرب من رصاص القناصة.
العازف الذي صنع دعاية عالمية لقضيته
«لم أتوقف عن عزف الموسيقى طوال الحصار. كان سلاحي التشيلو الخاص بي»، هذه كانت إحدى تصريحاته التي تم تداولها من خلال الأخبار والتقارير التي تناولت وعرضت ما يفعله سميلوفيتش في الشوارع المُمتلئة بالنيران والدماء، فأصبح رمزًا للسلام.
أصبحت قصته معروفة في جميع أنحاء العالم، ورويت في الصحف وصوّرت على شاشات التلفزيون. وهو ما جلب الانتباه لقضية حصار مدينته التي لم يكن العالم مبالٍ بها، خلال إحدى المُقابلات الصحافية قال سميلوفيتش: «ولدت لأبوين مُسلمين، لكنني لا أهتم بذلك، انتمائي لسراييفو واهتمامي بالدعوة للسلام». ثم أضاف: «لست مُميزًا، فقط أنا مُوسيقي، وجزء من هذه المدينة. وأحاول أن أفعل ما بوسعي مثل أي شخص آخر».
كانت الصورة الأكثر أهمية لسميلوفيتش هي صورته في قاعة مدينة سراييفو، فبعد أن أُحرقت قاعة المدينة بسبب القصف من جانب القوات الصربية، لم يعد بإمكان مواطني سراييفو التعرّف على أحد أجمل المباني قبل القصف، وهو ما اجتذب وسائل الإعلام التي جاءت لكتابة تقاريرها عن سراييفو وقاعة المدينة أيضًا.
دخل الصحافيون إلى القاعة بالكاميرا، وكان سميلوفيتش هناك أيضًا، يحمل كرسيه والتشيلو، وبدأ في العزف. نُشرت الصورة في جميع الوسائط تقريبًا، مُصدّرة رسالة لدعاة الحرب والكراهية بأن الشجاعة والإبداع لا زال لديهما القدرة على المُقاومة.
موسيقى وأدب بإلهام من سميلوفيتش
ألهمت عروض سميلوفيتش الشُجاعة الموسيقيين الآخرين. كتب المؤلف الموسيقي ديفيد وايلد معزوفة «The Cellist of Sarajevo» للتشيلو على شرفه، وقام الصيني يو يو ما، وهو من أشهر عازفي التشيلو في العالم، بتسجيلها، واحتضن سميلوفيتش بعد أداء المقطوعة، كما كُتبت العديد من الأغاني الشعبية، وحتى كتاب للأطفال، عن أعماله.
سردت حكاية سميلوفيتش رواية «The Cellist of Sarajevo»، للكاتب ستيفن جالواي، ولقت نجاحًا عالميًا.
تحكي الرواية أحداث حصار سراييفو، وتحديدًا قصة ثلاثة أشخاص يحاولون البقاء في مدينة مليئة بالخوف الشديد خلال هذه الأوقات العصيبة، بالإضافة إلى عازف التشيلو الحزين الذي يلعب دون خوف في وسطهم، بعد ما شاهده من سقوط القذيفة على طابور الخبز من نافذة شقته، ليُقرر أن يبدأ العزف في نفس مكان سقوط القذيفة، خلال الرواية حاول جالواي خلق قصة تتحدث بقوة عن كرامة وكرم الروح البشرية تحت الظروف العصيبة بالغة القسوة.
في أواخر عام 1993 غادر سميلوفيتش سراييفو. وواصل مسيرته الموسيقية عازفًا للتشيلو، انتقل إلى أيرلندا الشمالية حيث أصدر ألبومًا بالتعاون مع تومي ساندز، وهو موسيقي شعبي أيرلندي من داعمي السلام أيضًا.