في علم الفلك، يُمثل كوكب الزهرة توأم الأرض الشرير؛ فإذا كانت الأرض تمثل نموذجًا للجنة المُتخيلة التي تعج بكل سُبل الحياة؛ فإن الزُهرة يشبه تمامًا الجحيم، بدرجة حرارته المرتفعة التي يمكن لها أن تُذيب الرصاص، نحو 900 درجة فهرنهايت (482 درجة سيليزية)، وغلافه الجوي الذي يحتجز ثاني أكسيد الكربون داخله بنسبة تصل إلى 97%.
نعرف اليوم جيدًا أن «علم الفلك» قادر على تحليل الأغلفة الجوية للكواكب المجاورة، ومم تتكون، وكيف كانت تبدو في الأزمان الغابرة، وعن احتمالات تكون حياة فيها أم لا؛ لكن هل يمكن له أن يخبرنا شيئًا عن مستقبل الأرض التي نحيا فيها؟ هذا ما سنعرفه في السطور التالية.
«لهذا يشبهنا الكوكب الأحمر»: عن المريخ وماضي الأرض البعيد
بالنسبةِ إلى العلماء، المريخ، والزُهرة، والأرض، ثلاثة كواكب متطابقة تقريبًا؛ لكنهم خلال إحدى مراحل تطورهم اتخذوا مناحي مختلفة، أوصلتهم للحالة التي هم عليها الآن. وما يحاول علماء الفلك فهمه من خلال دراساتهم هو السبب الذي دفع الكواكب الثلاث للتطور على نحوٍ مختلف.
بالعودة إلى الوراء 4.6 مليارات سنة، تشاركت الكواكب الثلاث في السحابة نفسها من الغاز والغبار التي كونت أسطحها؛ وسطعت الشمس حديثة الولادة حينذاك في المركز، وخلال تلك المرحلة من البناء النشط تشكل الغلاف الجوي للكواكب الصخرية، والذي خضع لتطور قوى بفعل مجموعة من العوامل المعقدة شهدها كل كوكبٍ منهم على حدة، مما أدى في النهاية إلى الوضع الذي هم عليه اليوم، مع نجاة الأرض بصفتها الكوكب الوحيد الصالح للحياة بينهم لما يحتويه من ماء سائل على سطحه.
بعثة فينوس إكسبرس الأوروبية
بين عامي 2006 و2014، انطلقت بعثات فضائية تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، كان منهم بعثة «فينوس إكسبرس – Venus Express» التي رصدت كوكب الزُهرة، و«مارس إكسبرس – Mars Express» التي كانت مهمتها رصد كوكب المريخ. وقد كشفت البعثتان عن بيانات جديدة من نوعها تشير إلى أن الماء السائل قد تدفق على سطح الكواكب الشقيقة للأرضِ على الأقل مرة عبر تاريخها. إلا أن الماء على سطح الزُهرة قد غلى منذ زمنٍ طويل نتيجة للاحتباس الحراري الذي عانى منه توأم الأرض؛ أما على سطح المريخ فقد دفن الماء تحت الأرض أو بين الأغطية الجليدية للكوكبِ الأحمر.
كانت البيانات تشي بأن الكواكب الثلاث أثناء المرحلة الأولى من تكونها شهدت نشاط كثيف مشابه من إطلاق الغازات، الأجواء نفسها الحارة والكثيفة، والبرودة ذاتها التي تبعت ذلك. عندها أمطرت المحيطات الأولى من السماء. لكن في مرحلة ما من مراحل التكوين؛ تباينت خصائص النشاط الجيولوجي للكواكب الثلاث؛ وهذا ما أدى في النهاية لاختلاف مظاهر الحياة على أسطحها.
بالنسبة إلى «الكوكب الأحمر»، كان الأصغر حجمًا بينهم جميعًا، مما أدى إلى سرعة تبريد سطحه بخلاف الأرض والزُهرة، كما انقرضت براكينه والتي تعد وسيلة تجديد الغلاف الجوي للكواكب، مما أدى في النهاية إلى اختلاف نشاطه التكتوني عن الأرض حتى مع وجود بعض الزلازل العرضية؛ هذا النشاط التكتوني الذي ينتج منه في النهاية «إعادة التدوير الكوكبي» الذي يساعد في تعديل الغلاف الجوي وتنظيم كمية ثاني أكسيد الكربون على سطح الأرض.
كوكب المريخ ويطلق عليه الكوكب الأحمر
وفي الوقت الذي انعدم فيه النشاط التكتوني على سطح الزُهرة مع الانفجارات البركانية الدائمة، والظاهرة الجامحة للاحتباس الحراري التي يعاني منها الكوكب الشقيق؛ شهد كوكب المريخ نشاطًا مختلفًا على العكس تمامًا من ذلك، تجمد خلالها الكوكب الأحمر في ظاهرة أشبه بعصرٍ جليدي، جعلت غلافه الجوي رقيقًا للغاية بل بالكاد يحتفظ بأي غلاف جوي. وذلك على العكس من كوكب الزُهرة الذي يمتاز بغلاف جوي سميك جدًا أغلبه من ثاني أكسيد الكربون.
يمكنك الآن تخيل الوضع على سطح الكواكب الثلاث، التي يعد كوكب الأرض فيها هو الأكثر اعتدالًا. فالغلاف الجوي الحالي للمريخ رقيق للغاية لدرجة أنه على الرغم من احتوائه على ثاني أكسيد الكربون بنسبة كبيرة، لا يمكنه الاحتفاظ بطاقة الشمس بنسبة تكفي للحفاظ على المياه السائلة على سطحه. ولأن الصفائح التكتونية قلما تتحرك على سطح الكوكب الأحمر؛ يمكن لمركبات الفضاء دراسة صخور عمرها مليارات السنوات؛ هذا يرجع لافتقاره إلى عملية «إعادة التدوير الكوكبي».
كشفت بعثة «مارس إكسبرس» التي درست الكوكب الأحمر لأكثر من 15 عامًا أنه مع انخفاض الغلاف الجوي، تحركت المياه السطحية ودفنت تحت الأرض، وإما حُبست في القمم الجليدية القطبية. مما جعل العلماء يُشبهون المريخ بماضي الأرض في عصورٍ بعيدة، قائلين إن الكوكب الأحمر يستعد الآن للخروج من عصره الجليدي.
المريخ يشبه الأرض في كونه حساسًا لتغيرات مثل ميل محور دورانه حول الشمس. إذ يُعتقد أن استقرار الماء على السطح قد تغير على مدى آلاف وملايين السنين؛ حيث يخضع الميل المحوري للكوكب وبعده عن الشمس لتغيرات دورية؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل يمكن أن يدعم الكوكب الأحمر في المستقبل بعض أشكال الحياة؟
«الزُهرة والزمنُ القادم»: لهذا ستصبح الحياة على الأرض مستحيلة
من الأمور المثيرة للاهتمام، ما يعتقده علماء الفلك اليوم من أن كوكب الزُهرة، كان أول كوكب في نظامنا الشمسي لديه الظروف التي تسمح بتكوين الحياة على سطحه. فتوأم الأرض لم يكن دومًا بمثل حالته التي نعهدها حاليًا؛ وقبل أن يتحول إلى فرن عملاق بدرجات حرارة غير مسبوقة؛ مرَّ شقيق الأرض بمرحلة تشبه ما نمر به الآن من احتباسٍ حراري، وما يحاول العلماء دراسته اليوم، هي المراحل التي اجتازها الزهرة في الوصول إلى حالته الحالية، لتساعدنا على فهم ما يحدث على الأرض في الوقتِ الحالي.
قبل استكشاف كوكب الزُهرة عن قرب، كان يظن البعض أن توأم الأرض صالحًا للحياة، لكن رحلة «مارينر 5» عام 1967 خيبت آمال الكثيرين، عندما كشفت الرحلة التابعة لوكالة ناسا لعلومِ الفضاء أن درجة الحرارة على سطح الكوكب الشقيق تقترب من 900 درجة فهرنهايت؛ تحديدًا بلغت وقت الرحلة 860 درجة، الأمر الذي بخر أحلام الكثيرين في استكشاف الزُهرة عن قرب والهبوط على أرضه.
يبعد الزُهرة عن الأرض مسيرة 100 يوم، ولهذا تعلقت الآمال قديمًا باستكشاف الحياة على أقرب الكواكب إلينا. لكن بعدما عادت رحلة الفضاء الأمريكية ماجلان عام 1990؛ أظهرت الصور التي التقطتها عن توأم الأرض طبيعة أشبه بصورتنا الذهنية عن الجحيم، مع حممٍ بركانية تتفجر بلا نهاية من قممه وسحابات غيوم كثيفة بددت أي أمل لإمكانية الحياة على سطحه؛ حينها خفت الحديث عن استكشاف «الزُهرة» في الأوساط العلمية لسنواتٍ، قبل أن يتجدد مؤخرًا رغبة منهم في دراسة الظروف التي حولت هذا الكوكب إلى جهنم، وذلك عندما بدأت بعثة أكاتسوكي اليابانية لعام 2015 دراستها للغلاف الجوي للزُهرة.
سطح كوكب الزهرة
كان الزهرة حاضرًا أيضًا في البعثات التي انطلقت بانتظام لاستكشاف النظام الشمسي، إذ دونوا عنه الملاحظات التي لا تُعد ولا تُحصى. وهي البيانات التي قد تساعد في حل الأسئلة المتعلقة بتطور الحياة على هذا الكوكب الشقيق.
إبان الستينيات من القرن الماضي، اعتقد العلماء أن الزُهرة لا علاقة له بـ«صلاحية الحياة»، وعلى مدار العقود الفائتة وتراكم المعلومات، تغيرت وجهة النظر هذه؛ إذ يعتقد علماء اليوم أن الغلاف الجوي للزُهرة يمكنه أن يخبرنا الكثير عما يمكن أن يفعله الاحتباس الحراري في كوكبٍ كان يومًا صالحًا لتكون الحياة على سطحه. الأمر بالنسبة إليهم كان أشبه بالنظر إلى مستقبلنا، وما يمكن أن نصبح عليه يومًا.
يمثل الزُهرة الحالة القصوى للاحتباس الحراري، مع نسبٍ غير مسبوقة لثاني أكسيد الكربون الذي يمثل اليوم أكثر من 97% من غلافه الجوي، المثير للقلق، كان حالة كوكب الأرض التي تتجه بخطى ثابتة نحو المصير ذاته لشقيقتها، خاصةً مع الزيادة الكبيرة في نسب ثاني أكسيد الكربون داخل غلافنا الجوي، والتي تسببت في ارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض لمستويات غير مسبوقة. لكن لحسن الحظ ما زال أمامنا الكثير من الوقت قبل أن نصل إلى تلك الحالة القصوى.
قديمًا كان علماء الفلك يبحثون داخل كواكب النظام الشمسي عن الأماكن الصالحة للحياة، هذا عندما خرج «كوكب الزُهرة» من حساباتهم لكون الحياة على سطحه مستحيلة؛ أما اليوم فهناك أكثر من بعثةٍ فضائية تستعد لاستكشاف كوكب الزُهرة، لأسباب كثيرة أهمها، معرفة سبب هذا التغيُّر الكبير في غلافه الجوي، وهل كان تغيرًا بطيئًا بمرورِ الوقت نتيجة للاحتباس الحراري، أم أن هناك حادثة فريدة لا نعرفها دمرت الحياة على الكوكب الشقيق.
ما الذي ينتظر الحياة على الأرض؟
تُعد التغيرات المناخية اليوم هي التهديد الأكبر الذي يواجه البشرية، خاصةً مع الزيادة المحتملة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. ومع دراسة جموح الاحتباس الحراري على سطح «كوكب الزُهرة»، تأتي النتائج مرعبة لما يمكن أن تصل إليه الحياة على الأرض مع بدء ظاهرة الاحتباس الحراري فيها. ومن الطرق التي يمكن أن يساعدنا بها علم الفلك في فهم الظاهرة وحماية الأرض من مصيرها، نجد إطلاق الأقمار الصناعية التي تعمل على دراسة تغير المناخ ورصده على الكواكب المختلفة.
فمن خلال التعرف إلى طبيعة الكواكب الأخرى والأغلفة الجوية الخاصة بها، ودراسة العوامل التي أنتجت الحياة على سطح الأرض ومنعت تكون الحياة على سطح الكواكب الأخرى؛ يمكننا أن نتجنب الظواهر الجامحة، ومن ثم حماية الحياة التي تميز كوكبنا، الأرض.
يشير العلماء إلى أن كوكب الزهرة يمكنه أن يخبرنا الكثير عن الزمن القادم، إذا فقدنا السيطرة على ظاهرة الاحتباس الحراري. خاصةً وأن الكوكب الشقيق امتاز في بدء تكونه بعوامل حياة أشبه بتلك التي تكونت على الأرض في ماضيها من تكثيف البخار في محيطات سائلة؛ وذلك قبل أن يغلي ماؤه بفعل الاحتباس الحراري. وما يعمل العلماء على محاكاته اليوم هو متى بالضبط فقد توأم الأرض الماء السائل، وكم من ثاني أكسيد الكربون يلزم غلافنا الجوي قبل أن نلحق به.
مع الازدياد الملحوظ الذي نشهده اليوم في درجات الحرارة، يمكن أن يؤدي ذلك في المستقبل إلى جموح ظاهرة الاحتباس الحراري إلى الدرجة التي قد تغلي معها المحيطات وتتبخر، وهي نقطة اللارجوع بالنسبةِ لنا، وهو مصير محتوم في وقتٍ ما بعيد من عمر هذا الكوكب، إلا أننا بانبعاثات الكربون التي نتجت منذ بداية عصر الثورة الصناعية وحتى يومنا هذا، نعمل على تسريع تلك العملية بما قد يجعل كوكبنا الحبيب غير صالح للأجيال الجديدة من أبنائنا.
وعلى الرغم من أن الكواكب الثلاث الشقيقة قد بدأت بالمكونات نفسها، نعرف اليوم أن جيران الأرض قد عانوا من كوارث مناخية مدمرة لم يتمكنوا معها من الاحتفاظ بمياههم لفترة طويلة. فأصبح كوكب الزهرة شديد الحرارة والمريخ شديد البرودة؛ أما الأرض فقد أصبحت الكوكب المعتدل مع الظروف المناسبة تمامًا للحياة. ولهذا فإن فهم تطور هذه الكواكب ودور غلافها الجوي أمر مهم للغاية لفهم التغيرات المناخية على كوكبنا لأن قوانين الفيزياء ذاتها تحكم الكل في النهاية.