ولادة بنت المستكفي: أسطورة قرطبة التي ألهمت ابن زيدون وعشقها الوزير ابن عبدوس

«أنا والله أصلحُ للمعالي وأمشي مِشيتي وأتيه تيهًا.. وأُمكّن عاشقي من صحن خدّي، وأُعطي قبلتي من يشتهيها». * ولادة بنت المستكفي

نحن الآن في مدينة قرطبة داخل قصر الخليفة الحادي عشر للأندلس، والحاكم الخامس عشر لها من سلالة الأمويين، محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله، الشهير بالمستكفي بالله، والذي بويع للخلافة يوم قُتل عبد الرحمن المستظهر خلال عام 1024م. قال عنه ابن بسام في كتابه «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»: إنه لم يكن شخصية تاريخية سوية؛ إذ كان «متخلفًا وضعيفًا وجاهلًا».

ولادة بنت المستكفي (صورة تخيلية)

ولادة بنت المستكفي (صورة تخيلية)، المصدر

ولكن السطور التالية ليست عنه، وإنما عن ابنته الأميرة والشاعرة ولادة بنت المستكفي، والتي كانت خلافًا لأبيها ذات شخصية قوية وعلم واسع، وهو الأمر الذي وصفته كتب التراث بالمفارقة بين الأب الخليفة الجاهل والابنة الشاعرة المعلاة التي خلدها التاريخ.

الأميرة الشاعرة صاحبة أشهر صالون أدبي بقرطبة

خلال العصر الذهبي للعرب في الأندلس، وتحديدًا في عام 994م، ولدت الأميرة ولادة التي كانت أمها جارية إسبانية شديدة الجمال تُدعى سكرى، أورثت ابنتها جمالها، فقد قال ابن بسام عن ولادة بأنها كانت فاتنة الحسن، رائعة الطلعة، ذات وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، وقسمات تأنق في صنعها الجمال.

كانت قرطبة مسقط رأسها، عاصمة الأمويين، تضم جامعة وقصور وحدائق وتزخر شوارعها بالكثير من دكاكين الوراقين، إذ لم تكن تلقى فيها شخصًا أميًا، وكان الدارسون يفدون إليها من مختلف بلدان أوروبا منبهرين بجمال المدينة وثرائها، ولكن في سنوات صباها شهدت المدينة أحداثًا جسامًا؛ فقد ضرب الطاعون قرطبة في عام 1011، وخلال عام 1025 قُتل والدها في ثورة الغضب العارم التي اندلعت في المدينة ضد العساكر الأمويين، لكن ولادة لم تتأثر كثيرًا بوفاة والدها واستمرت في طريقها، وفور أن اشتد عودها أقامت صالونًا أدبيًا لأدباء وشعراء عصرها من علية القوم.

من «ضيق» القصور إلى «سعة» العبادة.. ملوك هجروا الكرسيّ من أجل سجادة صلاة!

يقول المؤرخ الأندلسي ابن سام في كتابه «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، أن صالونها كان مفتوح الأبواب دائمًا، وكانت النساء من مختلف طبقات المجتمع يفدن على الصالون من أجل تعلم القراءة والكتابة والموسيقى، ولم يكن الصالون يقتصر على النساء فقط؛ فقد كان من أشهر مرتادي صالون ولادة الأدبي، ابن حزم مؤلف كتاب «طوق الحمامة»، إذ كانت تجمعه بولادة علاقة صداقة قوية. ويعرف عن ابن حزم أنه كان تلميذ النساء؛ إذ كان يتردد أيضًا على صالون سكينة بنت الحسين، وقد عهد به والده إلى تلقي العلم والأدب والشعر على يد النساء بسبب تفشي ظاهرة المثلية الجنسية في هذا العصر، وفي هذا المقام يقول ابن حزم في كتابه طوق الحمامة «لقد شاهدت النساء وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وحين تفيّل وجهي، وهن من علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الأشعار ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدًا إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك، لا أنسى شيئًا مما أراه منهن». 

وكانت ولادة تقول الشعر وتدخل في مباريات أدبية مع شعراء كثيريين وتتفوق عليهم، وكان تتصف أيضًا بالجرأة والقوة والوقوف أمام عادات وتقاليد المجتمع إذ قالت لابن زيدون:

«ترقّب إذا جنَّ الظلامُ زياراتي.. فإني رأيتُ الليلَ أكتم للسرّ، وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلُح.  وبالبدرِ لن يطلع وبالنجم لم يَسْرِ». 

ليست ولادة وحدها.. شاعرات الأندلس عاشقات جريئات

الحقيقة أن نساء الأندلس كن يتمتعن بقسط كبير من الحرية، وكانت الشاعرات على قدر لافت من روح المبادرة الشخصية في التعبير عن مشاعرهن، فلم يكن متخوفات أو مترددات؛ فنجد على سبيل المثال متعة جارية الشاعر العراقي زرياب قد حضرت من الأندلس إلى بغداد، وأعلنت صراحة أمام جميع الأدباء عن حبها للأمير عبد الرحمن الأوسط الأموي؛ إذ تقول:

«يا من يُغطّي هواه.. من ذا يُغطّي النهارا؟ قد كنتُ أملكُ قلبي.. حتى علقتُ فطارا. يا ويلتا أتراه.. لي كان، أو مستعارا. يا بأبي قرشيّ.. خلعتُ فيه العذارا». 

 

مجالس الطرب في الأندلس، المصدر

وهناك أيضًا الشاعرة الحسناء حفصة بنت الحاج الركونية، التي وقعت في غرام الشاعر أبو جعفر بن سعيد الأندلسي وقالت في حبه: «أزوركَ أم تزور فإنّ قلبي.. إلى ما تشتهي أبدًا يميلُ. وقد أمّلتُ أن تظمى وتضحى.. إذا وافى إليك بيَ المقيلُ. فعجّل بالجواب فما جميلٌ.. إباؤك عن بثينة يا جميلُ». 

من هنا كانت شرارة الحب الأولى بين ولادة وابن زيدون

التقى ابن زيدون الأندلسي  ولادة بنت المستكفي في صالونها الأدبي، وقيل أنه لم يفارقها ليوم واحد، إذ أعجب بها منذ المرة الأولى، وبادلته هي الإعجاب نفسه، وسرعان ما نشأت بينهما علاقة قوية، غير أن ولادة كانت تقترب منه حينًا وتصده أحيانًا كثيرة، إلى أن كتب لها قصيدة قال في مطلعها: «أضحى التنائي بديلا عن تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا. نتم وبنا وما ابتلت جوانحنا.. شوقا إليكم ولا جفت مآقينا».

 تخيلية للأميرة ولادة بنت المستكفي والشاعر ابن زيدون

صورة تخيلية للأميرة ولادة بنت المستكفي والشاعر ابن زيدون، المصدر

وقد بذل ابن زيدون كل جهده في سبيل إرضاء ولادة التي اعتبرها مصدر إلهامه أذ كتب لها قائلا:

«أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا.. لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه سالين عنه ولم نهجره قالينا.. ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ لكن عدتنا على كره عوادينا». 

وبعد فترة طويلة من الصفاء والحب والمودة بين العاشقين، وفي إحدى ليالي الصالون كانت جارية الولادة تغني فطرب ابن زيدون من صوتها، وطلب منها أن تعيد على مسامعه ما كانت تغنيه مرة أخرى، فغضبت ولادة غضبًا شديدة وكتبت قصيدتها القائلة: «لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا.. لم تهو جاريتي ولم تتخيّر. وتركت غصنًا مثمرًا بجماله.. وجنحتَ للغصن الذي لم يثمر. ولقد علمت بأنّني بدر السمـــا.. لكن دهيت لشقوتي بالمشتري». 

ولادة تُقرب ابن عبدوس نكاية في ابن زيدون

هجرت ولادة بنت المستكفي ابن زيدون، ولكي تثأر لكرامتها تقربت من الوزير أبي عامر ابن عبدوس الذي كان يعشقها، وحاول ابن زيدون أن يسترضيها ويبعدها عن ابن عبدوس، لكنها رفضت، فكتب رسالة أسماها «الرسالة الهزلية» على لسان ولادة، ثم بعث بها إليها لكي ترسلها إلى عاشقها الجديد، ولكنها غضبت منه غضبًا شديدًا؛ إذ قال ابن زيدون في جزء من رسالته:

«أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فان العُجب أكبر، ومعرفة المرء نفسه أصوب، وأنك راسلتني مستهديا من صلتي ما صِفرت منه أيدي أمثالك، متصديا من خلّتي ما قُرعت دونه أنوف أشكالك». 

حين علم ابن عبدوس أن ابن زيدون لا زال يحاول التقرب من حبيبته ولادة، وشى به عند أبي الحزم جهور أمير قرطبة متهمًا إياه بمحاولة قلب نظام الحكم، ما أدى إلى سجنه. فكتب ابن زيدون، قصائد كثيرة يستعطف الأمير كي يفك سجنه ويتوسل إليه عند ذوي الشأن، وعلى رأسهم الأمير أبو الوليد بن أبي الحزم جهور حتى عُفي عنه، ولما توفي أبو الحزم خلفه ولده أبو الوليد وقرب إليه الشاعر ابن زيدون الذي مدحه بالكثير من القصائد التي تفيض بالإخلاص وبعدها اتخده أبو الوليد سفيرًا بينه وبين ملوك الطوائف.

حديقة قصر قرطبة، المصدر

وطوال هذا الوقت لم ينس ابن زيدون عشقه لولادة، وحاول معها مرة أخرى، لكن ابن عبدوس وقف له بالمرصاد وحاول التفريق بينه وبين أبو الوليد، فخشي ابن زيدون أن يلقى من الولد ما لقيه من الوالد؛ فترك قرطبة وقرر الذهاب إلى المعتضد بن عباد ملك إشبيلية، حاملًا معه خبرة السفير السياسي العالم ببواطن الأمور والشاعر الكبير وقلبًا بجرح غائر خلفه عشق ولادة.

وعلى الرغم من عشقها لابن زيدون، وعشق ابن عبدوس لها، وبعد كتابة الكثير من الشعر حول الحب واستقبال الأدباء في صالونها ممن حاولوا نيل رضاها، إلا أن الولادة لم تتزوج حتى أخر أيام عمرها التي شارفت على المائة عام، وتوفيت خلال سنة 1091 وهو العام نفسه الذي غزا فيه الموحدون قرطبة وكأن موتها كان أسدل ستار الأدب على تلك المدينة الزاهرة.

ولادة بنت المستكفي.. ابنة عصر ملوك الطوائف

حياة ولادة بنت المستكفي وقصة حبها مع ابن زيدون ترسم لنا صورة لعصر من أكثر عصور الأندلس إثارة وهو عصر ملوك الطوائف؛ ورغم أن الباحثين يصفون تلك الحقبة بأنها أكثر الفترات انحطاطًا في تاريخ الأندلس، إذ سقطت الدولة الأموية الموحدة القوية، وانقسمت إلى دويلات متناحرة تهادن العدو، ولكن الأندلس لم تشهد فترة أكثر زخمًا وتوهجًا بالإنتاج الثقافي والفكري كذلك الذي حدث إبان عصر ملوك الطوائف.

لقد شهد هذا العصر تمزقًا سياسيًا كانت له عواقبه الوخيمة ولكن الحياة الثقافية والفكرية والعلمية كانت في أوج ازدهارها، فقد نبغ عدد من العلماء الذين كان لهم أثر عميق في تقدم العلم، وفي مقدمتهم أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي، صاحب الجداول الفلكية الشهيرة وأكبر راصدي الفلك في زمانه، والفقيه ابن حزم من أشهر علماء المذهب الظاهري في قضايا القرآن الكريم والذي خاض حياة حافلة بالمعارك الفكرية، وقد جاء هذا الازدهار المعرفي والفكري نتيجة حتمية لميراث الماضي وتراكم المعرفة من ناحية، وبسبب تنافس ملوك الطوائف على استقطاب الكتاب والشعراء من ناحية أخرى، وقد طغت المكائد السياسية على هذا العصر مثل ما فعل ابن عبدوس مع ابن زيدون من أجل عيون ولادة بنت المستكفي، فلم يكن معروفًا أين تنتهي السياسة وأين يبدأ العشق.

المرابطون في الأندلس.. هكذا بدأت الدعوة الدينية هناك

 

المصادر

تحميل المزيد