أصدرت حكومات عدّة دول أوروبية إلى جانب أمريكا، تحذيرًا أمنيًا بعَدم استخدام أجهزة شركة «هواوي» في مجال شبكات الاتصالات، كما قبضت كندا على المديرة الماليّة للشركة، ابنة مؤسس الشركة، بناءً على طلب أمريكي، لتورّطه في مخالفة العقوبات الأمريكية على إيران.
لا ينفصل هذا التصعيد تجاه الشركة الصينية، عن سياق الحرب التجارية الدائرة بين بكين وواشنطن، وتحرّكات الأخيرة نحو إعلان سلسلة من الإجراءات ضد مئات البضائع الصينية، وتشكيل تحالفات تجارية مع دول أُخرى لعزل بكين. يحاول هذا التقرير تتبّع الأسباب الحقيقية وراء تصاعد أزمة شركة «هواوي» الأخيرة، وماهية المزاعم التي تتحدث عن صلة الشركة بالجيش الصيني، واستخدامها من جانب الأخير في عمليات تجسس على نطاق واسع، ومآلات هذا التصعيد الأخير من جانب عدة دول.
رين تشنغ فَي.. مؤسّس «هواوي» ضابط متقاعد من الجيش الصيني
فى عام 1987، وعقِب انتهاء خدمته العسكرية، قرّر رين تشنغ فَي، الضابط في جيش تحرير الشعب الصيني آنذاك ذو 73 عامًا، استثمارَ أمواله وعدد من شُركائه، وتوظيف نفوذه الواسع وصلاته الوثيقة مع السلطات في تأسيس شركة اتصالات، يكون مقرّها الرئيسي في إقليم شينزين في جنوب الصين؛ برأسمال لا يزيد على 3.5 آلاف دولار أمريكي. اختار المهندس السابق في المؤسسة العسكرية كلمةً من القاموس الصيني «هواوي» لشركته، والتي تعني بالعربية «الإنجاز الرائع للصين».
مؤسّس شركة «هواوي» (يمين) رُفقة الرئيس الصيني
لم يكن رين تشنغ، يتخيّل أن تنمو حجم تعاملات شركته المحلية بهذه السرعة، لتتحوّل إلى واحدة من كُبرى الشركات العالمية في مجال الاتصالات، وتصبح أداةً فاعّلة لسلطات بلاده، للمناورة الاقتصادية أمام القوى العظمى في العالم.
وتُثار الشكوك حول طبيعة علاقة الشركة بالحكومة الصينية، والتي تجعل البعض يعتقد أنّها إحدى الكيانات المملوكة للمؤسسة العسكرية في الصين، ويُعزز من هذه الفرضية، هويّة مؤسس الشركة؛ كونه ضابطًا سابقًا في جيش تحرير الشعب الصيني، إلى جانب تزامن تأسيس الشركة مع النشاط الملحوظ للجيش الصيني في ضخ أموال كبيرة للاستثمار في قطاع الاتصالات خاصة في فترة التسعينيات.
وقد نشط استثمار الجيش الصيني مع أوائل الثمانينيات في العديد من المشروعات في قطاعات الاتصالات، بالإضافة إلى تجارة الشقق والأراضي والمقاولات، وإنتاج سلع استهلاكية وإدارة الفنادق والمزارع، حتى وصل عدد تلك المشروعات إلى 20 ألفًا، بلغت أرباحها حوالي 13 مليار دولار سنويًا.
وارتفعت الشكوك حول علاقة الشركة بالجيش الصيني في عام 2012، بعدما توصلت «وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA)»، لتطوير برنامج تجسّس على مستوى العالم؛ كشف وقتها عن وجود علاقة بين الشركة وجيش التحرير الصيني، ويُعزز من ذلك أيضًا حجم التسهيلات الممنوحة للشركة من جانب السلطات الصينية؛ واحتكارها أغلب الصفقات الحكومية في بداية سنوات التأسيس، مثل فوزها بعقد تشغيل مقاسم الهواتف في الصين، إلى جانب القرارات الحكومية التي ساهمت في تعزيز حضور الشركة في الصين، مثل قرارها الذي اتخذته الحكومة الصينية في العام 1996 بعدم استخدام المنتجات الأجنبية المنافسة، ليدفع ذلك الشركة إلى أن تحتل مكانة خاصة داخل الصين.
لعلّ مسألة ملكيّة الجيش لأسهُم في الشركة بواسطة أشخاص لا يزالون في الخدمة مجرد احتمال؛ لكن الأمر المؤكّد هو الصّلة الوثيقة والمعاملة الاستثنائيّة بين السلطات الصينية والشركة؛ والتي تؤكّدها عدّة شواهد أبرزها منح الحكومة الصينية للشركة مبلغًا يُقدّر بنحو 228 مليون دولار أمريكي لمشاريع في مجال البحث والتطوير، إلى جانب إقرار قانون المعلومات الوطني الصيني، في عام 2017، والذي ينصّ على أن الهيئات والشركات يجب أن تدعم وتتعاون مع عمل أجهزة الاستخبارات الوطنية.
وأدّى خضوع الشركة لقوانين حكومية من السلطات الصينية إلى الترويج لفكرة استخدام الأخيرة لشركة «هواوي» في التجسّس على الدول الأوروبية وأمريكا، ما أدى لصدور قرار من جانب الولايات المتّحدة وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا بمنع الشركات المحليّة لديها من استخدام «هواوي» في توفير تكنولوجيا الجيل الخامس لشبكات المحمول، إلى جانب عزم اليابان على اتخاذ الإجراء ذاته.
وبحسب واشنطن فإن «السيطرة على التكنولوجيا التي تتحكم في شبكات الاتصالات الحيوية تمنح «هواوي» القدرة على التجسس أو قطع الاتصالات في حال أيّ نزاع مستقبلي خصوصًا أن معظم الأجهزة أصبحت مرتبطة بالإنترنت، الأمر الذي يجعل الدول التي تستخدم أجهزة «هواوي» تتابع هذه المخاطر بحرص».
وأشارت مُذكرة رسمية، صادرة من رؤساء وكالات أمنية مختلفة في أمريكا، إلى دور الشركة الصينية الرائدة في عمليات تجسّس من خلال برمجيات خبيثة، إذ قامت الشركة باستخدامها للتجسس على المواطنين، وأرسلت بعد ذلك هذه البيانات لجهات حكومية ووكالات استخباراتية في الصين؛ لتحظر واشنطن وجود الشركة أو منتجاتها على أراضيها، كما طالبت بالابتعاد عن الخوادم والبُنى التحتية للشبكات التي تقوم «هواوي» بتطويرها وبيعها.
وتكرّرت نفس مزاعم اتهام الشركة بالتجسس داخل أمريكا، بعد العثور على برمجية تجسس، في 700 مليون هاتف «أندرويد»، موجودة داخل العديد من التطبيقات، يتم استخدامها في هاتف «هواوي»، والتي تبيّن أن هذه البرمجية تتوصّل إلى الرسائل وقائمة الأسماء وسجل المكالمات كل 72 ساعة، ثم ترسل تقريرًا بذلك إلى خوادم في الصين.
امتدّ نفوذ الشركة إلى لعب دور في تقديم تسهيلات للسلطات الإيرانية، وخرق العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وذلك عبر استمرار عمل فرع لشركة «هواوي» اسمه «سكاي كوم» في إيران منذ 2009 إلى 2014، -جنبًا لمهامه باعتباره وكيلًا لشركة «هواوي»- لعقد صفقات تجارية مع إيران في خرق للعقوبات المفروضة على الأخيرة، وهو ما أدّى إلى القبض على المديرة المالية للشركة منغ وان تشو، في كندا، بطلب أمريكي، قبل أن تُقرّر كندا إطلاق سراحها.
وقال المتحدّث باسم البنتاجون، ديف إيستبرن حينها أن «أجهزة «هواوي» و«زي تي إي» قد تمثل «تهديدًا غير مقبول لعناصر الجيش والمعلومات والمهمات». وأضاف: «ليس من الحكمة مواصلة بيعها» في المتاجر التابعة للجيش.
وأمام هذه الاتهامات التى تطال الشركة من سنوات، وعلاقتها بالسلطات الصينية، واستخدام الأخيرة لها في التجسس على مواطنين خارج البلاد، تدافع الشركة عن هذه الاتهامات، وتقول إنها «مستقلة عن الحكومة الصينية، وأنها تمنح أولوية للسلامة والأمن عند تقديم خدمات تكنولوجية وهذا المناخ من العداء لها يعود إلى أنها أصبحت منافسًا قويًا».
كيف تفوقت شركة «هواوي» على الشركات الأمريكية في قطاع الاتصالات؟
تنطلق الأهمية الواسعة، والتركيز المتزايد من جانب السلطات الأمريكية والحكومات الأوروبية برفع حجم الضغوط على شركة «هواوي»، من أسباب عديدة، يأتي على رأسها حجم النمو الكبير التي حققته الشركة، التي تحوّلت مؤخّرًا لواحدة من كبرى شركات تكنولوجيا الاتصالات في العالم، وأصبحت ثاني أكبر شركة لصناعة الهواتف الذكية متقدمة على «آبل» الأمريكية، بعد دخولها في مجال صناعة الهواتف الذكية، واستحواذها على 15% من السوق العالمية، وتحتلّ المرتبة الثانية بعد «سامسونج».
صورة لإحدى مقار شركة «هواوي» في الصين
وقد عزّزت الشركة الصينية نفوذها، عبر توسيع اختصاصاتها منذ عام 2003، لتُصبح من أبرز الشركات المتخصصة بالبنية التحتية لشبكات الاتصالات الخلوية للجيليْن الثالث والرابع، إلى جانب مساهمتها في تطوير شبكات الجيل الخامس التي يتوقّع أن تنتشر في عام 2020.
وتُشير الأرقام الصادرة عن مؤسسة «آي دي سي» الأمريكية، وهي جهة بحثية في ولاية ماساتشوسيتس، مختصّة بالمتابعة الدورية لحركات الصعود والهبوط في أسواق الاتصالات في أكثر من 110 دولة حول العالم، إلى تفوّق هواوي على شركة «آبل»، بعدما خسرت الأخيرة مكانتها (الثانية سابقًا) لتصبح في المرتبة الثالثة عالميًا، واستحوذت أجهزة «هواوي» على مكانها ببيْع 54 مليون جهاز وبحصة سوقيّة بلغت %16 خلال النصف الأول من العام 2018.
إلى جانب ذلك؛ فقد نجحت «هواوي» في بناء 1500 شبكة لها في جميع أنحاء العالم، لتصل عدد الدول التي تبيع الشركة منتجاتها فيها نحو 170 دولة، ويعمل بها 170 ألف موظف، إلي جانب 160 مليون مستخدم نشط، بينما يبلغ عدد التحميلات من المتجر 40 مليون تحميل شهريًا.
حضور الشركة لم يعد قاصرًا على منتجاتها فقط في السوق الأوروبية، بل عززت حضورها عبر رعايتها لفرق رياضية مهمة مثل أرسنال وباريس سان جيرمان، إلى جانب الاستثمار في كُبرى جامعات العالم، مثل توظيف نحو 1.4 مليون دولار في جامعة كارلتون في كندا، من أجل تأسيس مختبر أبحاث لتطوير خدمات الحوسبة السحابية، كما قامت برعاية برنامج تابع لـ«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، والذي يقوم بتدريس مستقبل صناعة الاتصالات.
هل تنجح الصين في حماية «هواوي» من الهجمة عليها؟
لم تقف الصين صامتة أمام تعرّض مدير الشركة وابنة مؤسّسها للاعتقال، إذ أصدرت السفارة الصينية في كندا بيانًا، قالت فيه إن الصين «ترفض وتحتجّ بشدّة على مثل هذه الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان، وتحثّ السلطات الكندية على تصحيح الخطأ وإطلاق سراح منغ وانزو».
كما استدعت الخارجية الصينية، السفير الكندي لديها للاحتجاج على التوقيف، واعتبر نائب وزير الخارجية مسألة توقيف المديرة المالية للشركة «اعتداءً سافرًا» على حقوقها ومصالحها باعتبارها مواطنةً صينيّة، وأضاف في بيان إن «هذا الفعل يتجاهل القانون وهو عمل غير معقول ومنحط».
كما استخدمت السلطات الصينية أكثر من ورقة ضغط على كندا مثل شروع السلطات في التحقيق مع مواطن كندي يشتبه في أنه «أضرّ بالأمن القومي»، وذلك بعد اعتقال بكين الدبلوماسي الكندي السابق مايكل كوفريغ «للاشتباه في قيامه بأنشطة تضر بأمن الدولة»، على حسب ما ذكرته السلطات الصينية.
ويبدو أن الضغوط الصينية حقّقت المراد منها، بعدما أفرجت كندا عن المسؤولة المالية داخل شركة «هواوي»؛ لكن تظّل الحرب قائمة على الشركة، خصوصًا بعدما صدرت قرارات من جانب حكومات أوروبية إلى جانب واشنطن بحظر استخدام منتجات الشركة، وهو ما يُمثّل تحديًا كبيرًا أمام نجاح الشركة، وأمام الصين كذلك، التى تخوض حربًا تجاريّة أمام أمريكا.
وتملك الصين أكثر من ورقة ضغط، تتجاوز التصريحات، أمام السلطات الأمريكية، والتى يبرز منها ورقة الديون الأمريكية، إذ تحتفظ الصين بديون للحكومة الأمريكية بقيمة 1.17 تريليون دولار، وهي عبارة عن سندات للخزانة الأمريكية، اشترتها الصين وسيلة للاستثمار.
وقد تلجأ الصين لتجميد هذه الأرصدة، وهو ما سيؤدي لهزة كبيرة في الأسواق العالمية، والتي سيكون حجم تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي كبيرًا. الورقة الأخرى التي من المُحتمل استخدامها من جانب الصين هي التضييق على الشركات الأمريكية العاملة على أراضيها، سواءٌ من خلال تشديد إجراءات الجمارك أو رفع كُلفة عمل هذه الشركات.