مطارداتٌ، اشتباكٌ بالأيدي، إطلاقُ نارٍ، سياراتٌ تحترق، قتلٌ بلا هدف، دماءٌ في كل مكان.. هذه هي الحالة التي يعيشها المراهق الذي يجلس خلف الشاشة ويمارس إحدى ألعاب الفيديو، مُعرضًا عقله لكل هذه الأحداث الدموية التي تمتزج فيها جرعات الأدرينالين بالإثارة والمتعة، ثم بكبسة زر ينتهى كل ذلك، ويعود إلى عالمه الحقيقي مرة أخرى.
لذا يُحذِّر الكثير من الخبراء النفسيين والتربويين من الآثار السلبية لألعاب الفيديو ذات المحتوى العنيف على سلوكيات الأطفال، وتتعالى هذه التحذيرات عادةً عقب حوادث القتل العشوائي التي تحدث بشكلٍ متكررٍ في المدارس الأمريكية، والتي تعد بحسب دراسة أعدتها كلية الطب بجامعة «ميامي» وقسم الاجتماع بجامعة «أوهايو» بالولايات المتحدة الأمريكية ظاهرةً جديدة خلال الخمسين سنة الماضية، وتسببت خلال الفترة من 1990 إلى 2013 في مقتل 363 حالةً في حوادث إطلاق نيران متفرقة على 215 مدرسة.
ألعاب الفيديو ..العنف الافتراضي في دائرة الاتهام
مع كل حادث إطلاق نار عشوائي على مدرسة من المدارس تتوجه أصابع الاتهام بشكلٍ تلقائي إلى ألعاب الفيديو العنيفة بوصفها متهمًا رئيسًا في تغذية العنف وتحويل العنف الافتراضي إلى عدوان حقيقي على أرض الواقع، وعلى الرغم من أن هذه القضية جرت مناقشتها طويلا في السابق إلا أنها تعود إلى السطح مع كل حادثة عنف عشوائية، مثلما حدث حين لقي 19 طفلًا وبالغان مصرعهم في إطلاق نار في مدرسة ابتدائية في جنوب تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية في 24 مايو (أيار) 2022، على يد صبي يبلغ من العمر 18 عامًا، كان في حوزته مسدس وبندقية شبه آلية من طراز «AR-15».
وتوضح الباحثة جوين ديوار الحاصلة على درجة الدكتوراه في علم النفس المقارن من جامعة «ميشيجان» في مقالة لها منشور على موقع «بيريتنج ساينس» التربوي أن السبب الذي يضع ألعاب الفيديو في دائرة الاتهام دائمًا هو غياب الدراسات التي تتبع النتائج طويلة الأمد لتأثير تلك الألعاب على سلوك الأطفال، فمعظم الدراسات تجريبية ترصد التأثيرات قصيرة الأمد على سلوك الأطفال، والتي تتلاشى بعد الانتهاء من التعرض للعبة بفترةٍ قصيرةٍ، ولا توجد مؤشرات على كونها مرتبطة بمشكلات سلوكية طويلة الأمد.
وأضافت ديوار أن الدراسات التي اهتمت برصد التأثير طويل الأمد للعنف على السلوك كانت نتائجها متضاربة ويصعب تعميمها، بل تنفي، في الغالب، وجود علاقة بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة وبين حوادث إطلاق النار الجماعي.
كبش فداء؟.. هل يبرِّئ العلم ألعاب الفيديو؟
يشير تقرير منشور على موقع «ناشيونال هلث» المعني بالصحة العامة إلى دراسة نشرتها جامعة «أكسفورد» على عينة مكونة من ألف مراهق وأولياء أمورهم، بهدف قياس السلوك العدواني للشباب وفقًا لألعاب الفيديو التي لعبوها، وقد توصلت الدراسة إلى أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة ليس لها تأثير ملموس على السلوك العدواني في الحياة الواقعية.
وهو الأمر الذي أكده كريستوفر جيه فيرجسون، أستاذ علم النفس بجامعة «ستيتسون»، في مقالة له منشورة على موقع «كونفرزيشن» المهتم بالأبحاث والآراء الأكاديمية، إذ أشار فيرجسون إلى تقريرٍ لجمعية علم النفس الأمريكية شارك في إعداده، والذي يوصي بوقف الربط بين السلوك العدواني المتمثل في إطلاق النار الجماعي وبين ألعاب الفيديو العنيفة، فلماذا إذن يتم اتهام ألعاب الفيديو بالمسوؤلية عن حوادث القتل الجماعي.
المصالح السياسية
يميل الكثير من صانعي السياسة إلى إلقاء اللوم على ألعاب الفيديو العنيفة عقب حوادث القتل الجماعي التي تتكرر بصفة خطيرة، وفي خضمِّ النقاش الجاري في المجتمع الأمريكي حول أسباب انتشار هذه الظاهرة الخاصة بالولايات المتّحدة دونًا عن العالم أجمع، يجري جدل بين الأطراف السياسية المختلفة حول ما إذا كانت السهولة الشديدة في اقتناء الأسلحة في أمريكا هي أحد أسباب هذه الظاهرة، كما يعتقد الليبراليون.
بينما يتجه الجمهوريون المحافظون، الذين يُعرف عنهم ولعهم بالأسلحة ودفاعهم عن الحقِّ الذي يكرِّسه الدستور الأمريكي في امتلاكها، مباشرةً للبحث عن «كبش فداء» لتحميله مسؤوليَّة هذه الحوادث، وكثيرًا ما تكون ألعاب الفيديو إحدى ضحايا هذه الحملة، إذ تُلصق بها تهمة التسبب في زيادة مستوى العنف عند الشباب والمُراهقين.
فخ العنصرية
عادة ما يلعب العِرق الذي ينتمي إليه الجاني دورًا كبيرًا في تحديد أسباب ارتكاب جرائم إطلاق النار، فيميل الإعلاميون والقادة السياسيون إلى الدفع بألعاب الفيديو كأحد الأسباب الرئيسة لإطلاق النار في حالة كون الجناة من البيض أكثر من الجناة الأمريكيين من أصول أفريقية، ربما بسبب القوالب النمطية التي تربط الأقليات بجرائم العنف المختلفة.
وتشير مجموعة من الأبحاث أُجريت في جامعة «فيلانوفا» ونُشرت نتائجها على موقع «جمعية علم النفس الأمريكية» أنه بتحليل 200 ألف مقال إخباري حول ما يقرب من 204 عمليات إطلاق نار جماعي على مدار الأربعة عقود الماضية، جرى ذكر ألعاب الفيديو في 6.8% في حوادث إطلاق النار بالمدارس عندما كان الجناة من البيض مقارنة بـ0.5% عندما كان الجناة امريكيين من أصول أفريقية .
وكشف بحث آخر نُشر في الدراسة نفسها عن الوجه العنصري في تفسير أسباب الجرائم؛ عندما طلب من مجموعة من الطلبة البيض قراءة رواية خيالية عن إطلاق نار جماعي من قِبل شاب يبلغ من العمر 18 عامًا، وصف بأنه مهووس بألعاب الفيديو، تضمنت نصف قصص المشاركين صورة لشاب ابيض والنصف الآخر صورة لشاب أسود، وطُلب من الطلاب التصويت على عبارة «أن تاريخ الجاني في لعب ألعاب الفيديو العنيفة لها دور في ارتكابه للجريمة بـ(لا أوافق بشدة)، و(أوافق بشدة)، وأشارت النتائج إلى تغير الاختيار من (لا أوافق بشدة) إلى (أوافق بشدة) بتغيير صورة الجاني الوهمية.
ما التأثير الحقيقي لألعاب الفيديو العنيفة على طفلك؟
1- محاكاة العنف
تُشير نظرية التعلم الاجتماعي إلى أن الطفل يتعلم عن طريق الملاحظة والمحاكاة لمحيطه الاجتماعي ووفقًا لتقرير لموقع «كلية الطب» التابع لجامعة «هارفارد»؛ فإن الطفل يتعلم العنف عن طريق محاكاة مشاهد العنف التي يراها في العاب الفيديو.
إلا أنه وبحسب موقع «فيرى ويل فاميلي» ليس كل ما يتعلمه الطفل يتحول إلى سلوك، لذلك ليس بالضرورة أن يتحول العنف إلى سلوك عنيف على أرض الواقع، خاصةً أن هناك مجموعة من العوامل التي تتحكم في تحول ما يتعلمه الطفل إلى سلوك ومنها شخصية الطفل ودوافعه.
2-خلل في المهارات المعرفية
تستخدم ألعاب الفيديو صورًا متحركة وأصواتًا مثيرة لزيادة التشويق والسيطرة على الطفل الذي يشعر مع الوقت، وكأنه البطل الحقيقي للعبة، وتؤثر كل هذه التقنيات والحيل على عقل الطفل، فوفقًا لدراسة منشورة على موقع «المكتبة الأمريكية للطب» يتأثر الدماغ بأحداث العنف التي يتعرض لها، ويعتقد أنه جزءًا من اللعبة ويتعرض لهجوم حقيقي.
فيبدأ الجسم في تفعيل آلية الهروب، ويقوم بضخ كميات كبيرة من هرمون الكورتيزول والأدرينالين استجابةً للتوتر الذي يمر به الجسم ومع استمرار التعرض لألعاب الفيديو دون ضوابط يصبح الجسم دائمًا فى حالة تحفيز وتحت تأثير هرمونات التوتر فيصاب الطفل بالإجهاد المزمن الذي يؤدي مع الوقت إلى خلل في الوظائف العقلية والمهارات المعرفية المختلفة من إدراك وانتباه وتذكر.
3-شعور زائف بالسعادة بسبب الإدمان
وفقًا لموقع «سكرين سترونج» أحد المواقع المتخصصة في التخلص من إدمان الشاشات، فإن ألعاب الفيديو تحفز الدماغ على إطلاق هرمون الدوبامين «هرمون السعادة»؛ والذي يؤدي إلى تحفيز نظام المكافأة في الدماغ إذ إن توقع المكافأة يزيد من مستويات هرمون الدوبامين، و يؤدى التدفق المستمر للدوبامين إلى إجبار البنية العصبية في الدماغ على التغير والتكيف بسبب التحفيز السريع الذى يتعرض له الطفل أثناء اللعب، والذى يدفع الطفل إلى الرغبة في معاودة اللعب للشعور بالحالة نفسها؛ الأمر الذي يجعله عالقًا في دائرة اللعب في صورة أقرب للإدمان.
كيف تحمى طفلك من ألعاب الفيديو ؟
تهيمن ألعاب الفيديو بشكلٍ كبير على حياة شريحة عريضة من الأطفال والمراهقين، الأمر الذي دفع الكثير من الآباء ومقدمي الرعاية للبحث عن وسائل تقلل من الاستخدام المفرط لألعاب الفيديو؛ وإليك بعض المقترحات التي قد تساعدك:
1-حدد ساعات اللعب
تحديد ساعات معينة للعب يساعد إلى حدٍّ كبيرٍ في التقليل من تأثير ألعاب الفيديو في سلوك الطفل خاصةً إذا بدأ الطفل في الوقوع في فخ إدمان اللعب، ويشير تقرير منشور على موقع معهد «تشايلد مايند» المعني بالصحة العقلية؛ إلى أنه من الأفضل تحديد عدد ساعات اللعب وفقًا لعمر الطفل والذى حددته الاكاديمية الامريكية لطب الأطفال بما لا يزيد عن 60 دقيقة في أيام المدرسة وساعتين أيام الدراسة للأطفال الذين تزيد أعمارهم عن ست سنوات وما يقرب من 30 دقيقة للأطفال أقل من ست سنوات .
2-اكسر دائرة الإدمان
تتحول ألعاب الفيديو إلى إدمان عندما لا يجد الطفل وسيلةً أُخرى يشغل بها وقته سوى الجلوس خلف الشاشات لساعاتٍ طويلةٍ، لذا حاول أن تشغل وقت طفلك بأنشطة أخرى مثل الرياضة وتعلم اللغات أو الرسم وتعلم الفنون المختلفة، وشجعه على التواصل واللعب مع الأطفال الآخرين.
3-شجع طفلك دائمًا
أحد الجوانب الجذابة لألعاب الفيديو هو أنها تحقق الإشباع الفوري للطفل أثناء اللعب على عكس المهارات الأخرى التي يمكن أن يتعلمها الطفل، والتى تحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ للوصول إلى ثمرة إنجازها، ويشير موقع «إيرث إيزي» إلى نتائج الأبحاث التي أجرتها عالمة النفس في جامعة «ستانفورد كارول دويك»؛ إلى أن الطريقة التي يقدم بها الآباء الدعم والتشجيع لأبنائهم، تؤثر في طريقة تعلم الأطفال مهارات جديدة.
وأكدت أنها تؤثر كذلك في درجة تقديرهم لأنفسهم وشعور بالفخر، إذ أشارت النتائج إلى أن 90% من الأطفال أُشيدَ بهم على تعلمهم مهارات جدية، كانوا حريصين على القيام بالمهام الجديدة مهما بلغت صعوبتها، فشجع طفلك حتى يجد الحافز للاستمرار.
4-كن قدوة جيدة
يتعلم الأطفال عبر المحاكاة ويكتسبون الكثير من الخبرات والتجارب من خلال محيطهم الاجتماعي، فكن قدوةً جيدةً وتوقف عن إدمان الشاشات، ليس بالضرورة أن تكون مدمن ألعاب فيديو، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تعد إدمانًا من نوع آخر، انتبه ونظم عدد ساعات تعرضك لوسائل التواصل المختلفة .
5- الجأ إلى المختصين
حدد ما إذا كنت بحاجة إلى الدعم من طرف أحد المتخصصين أم لا، خاصةً إذا أصبح طفلك عدوانيًّا أو عنيفًا، في هذه الحالة من الأفضل لك استشارة أخصائي سلوك وأخصائي نفسي لتعديل سلوكه .