قررت القيادة العليا السوفيتية في عام 1979 أنها بحاجة إلى جيل جديد من الطائرات المقاتلة؛ لضمان القدرة التنافسية للقوات الجوية السوفيتية، خلال فترة التسعينيات وما بعدها. وضع المشروع، الذي أصبح معروفًا باسم «مقاتلة الخط الأمامي متعددة الوظائف»، مجموعة معايير تصميم أساسية، تتوافق مع المفهوم السوفيتي والروسي المبكر لمواصفات مقاتلة الجيل الخامس، والتي ضمت: مناورة وسرعة فائقة، ورادار منخفض التردد، ونظام إلكترونيات طيران متكامل، وقدرة محسنة على الهبوط والإقلاع.
بعد عقود من البحث والتطوير، عرجت موسكو خلالها أولا على مشروع «ميج 1.44»؛ وضع الروس رهانهم على المقاتلة «سو 57»، من تصميم «مكتب تصميم طائرات سوخوي»، وتصنيع مصنع الطائرات جاجارين في مدينة كومسومولسك، التي أصبحت «علامة فارقة على طريق تطوير طائرات الجيل الخامس الروسية، على مدى العقد الماضي».
رحلة المقاتلة «سو 57».. من الولادة إلى التشغيل
كانت الخطوة العملية الأولى هي إعلان القوات الجوية الروسية طرح مناقصة لإنشاء «مقاتلة القرن الحادي والعشرين» في عام 2001، وفي العام التالي قبلت لجنة التحكيم العرض المقدم من مكتب تصميم طائرات سوخوي، وفي عام 2004 صدرت الموافقة على التصميم المقترح للمقاتلة.
انتهى صنع النموذج الأول وبدأ اختباره فعليًا عام 2009، وأقلع النموذج العملي الأول من مطار كومسومولسك بحلول عام 2010، وفي العام التالي شارك نموذجان تجريبيان من المقاتلة في «معرض طيران ماكس» 2011، ثم عُرِض نموذج مصغر في «معرض لوبورجيه الفرنسي» 2016.
طيلة هذه الفترة؛ لم تكن روسيا قد استقرت بعد على اسم لمولودها الجديد، حتى أعلنت عن الاسم الرسمي لمقاتلة الجيل الخامس الروسية «سو 57» في عام 2017، وكان هذا إيذانًا بنشر صور للطائرة أثناء وصولها إلى قاعدة جوكوفسكي، في 10 سبتمبر (أيلول) 2017.
بدأ اختبار محرك المرحلة الثانية في عام 2018، وفي 9 مايو (أيار) من العام ذاته، احتلت المقاتلة «سو 57» صدارة عرض عسكري ضخم في موسكو احتفالًا بذكرى فوز الجيش السوفيتي على ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أصدر الجيش الروسي لقطات لطائراته المقاتلة الشبح الجديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018.
لكن وقبل بدء تسليم المقاتلة إلى القوات في العام الجاري 2019، رصدت الأقمار الصناعية الإسرائيلية في فبراير (شباط) 2018، طائرتين على الأقل من طراز «سو 57»، في «قاعدة حميميم» الروسية الجوية على الساحل الغربي في سوريا.
مساومة سياسية بأدوات عسكرية.. كل ما تحتاج معرفته عن المقاتلة الشبح «إف-35»
المواصفات الفنية.. قليل من الاستعراض لا يتعارض مع السرية
ما تزال روسيا تحيط الجزء الأكبر من مواصفات طائرة «سو 57» بستارٍ من «السرية المفرطة»، لدرجة دفعت الهند إلى الانسحاب من مشروع تطوير الطائرة. بيد أن التفاخر الواجب في مثل هذه المقامات يقتضي استعراض «مقاتلة الجيل الخامس متعددة المهام المصممة لتدمير جميع أنواع الأهداف الجوية، على المدى الطويل والقصير، وضرب أهداف العدو البرية والبحرية، والتغلب على قدرات الدفاع الجوي».
تحلق الطائرة بطاقم مكون من فرد واحد، بسرعة تصل إلى 2600 كيلومتر في الساعة، وسرعة صعود تبلغ 330 مترًا في الثانية، لمسافة تصل إلى 5500 كيلومتر، وتستمر مدة الطلعة الجوية الواحدة حتى 5.8 ساعة، وأقصى حمولة قتالية 10 آلاف كيلو جرام.
تستطيع الطائرة الإقلاع من الممر القصير والهبوط عليه، والتزود بالوقود في الجو، ولديها قدرة فائقة على المناورة، وتتمتع بفعالية كبيرة في إصابة الأهداف الجوية والأرضية، وقدرة على التخفي عن رادارات كشف الطائرات، وبإمكانها التحليق بسرعة تفوق سرعة الصوت دون احتراق المزيد من الوقود.
المقاتلة «سو 57» متعددة المهام، أثناء عرض جوي بمناسبة الذكرى 105 لتأسيس سلاح الجو الروسي
والطائرة مزودة بمنظومة الحرب الإلكترونية «هملايا»، من تصميم معهد الأبحاث في مدينة كالوغا، التي توفر للمقاتلة حماية كبيرة من التشويش الإلكتروني، وتساعد في إبطال قدرة الطائرات المعادية على التخفي.
كما يعمل سطح الذيل الرأسي الدوار على تقليل مقاومة الهواء، وتساعد منظومة البصريات والإلكترونيات أو «إل إس50 إم» على اكتشاف الأهداف الجوية، ويستطيع المدفع المدمج «جي شي301» عيار 30 ملم، إطلاق 1500 طلقة في الدقيقة.
ويخدم رادار مقدمة الطائرة نحو 1500 وحدة استقبال وإرسال، ويتمتع بمدى كشف أكثر من 400 كيلومتر، وقدرة على تتبع 60 هدفًا وضرب 16 هدفًا في آن واحد، وتكتمل المنظومة بأجهزة الرادار الداخلية مع الهوائي «إي إف آيه آر إكس باند»، وأجهزة الرادار على الجناح مع الهوائي «أيه إف أيه آر إل باند»، ولاقطات أجهزة الرادار على الغشاء الذكي الذي يحمي جسم الطائرة.
أما حاوية الأسلحة الداخلية فتشمل: صاروح جو-جو متوسط المدى «كا-77-1»، وصاروخ جو–جو بعيد المدى «كا–137 إم»، وصاروخ جو-سطح مضاد للرادار «إكس 58 أو شي كا أيه»، والقنبلة الموجهة «كا أيه بي 500»، والصاروخ التكتيكي المضاد للسفن «إكس 35 أو أيه». وفي سياق التحديثات المستمرة، سوف تزود مقاتلات «سو 57» بـ«أسلحة دمار حديثة»، قد تشمل: صاروخ «إم 37 آر» جو–جو فائق السرعة، الذي يبلغ مداه أكثر من 300 كيلومتر.
وأصبح للطيار الآن بدلة جديدة صممتها المؤسسة العلمية والإنتاجية (زفيردا)، تستطيع مقاومة حمل زائد تصل شدته إلى تسعة وحدات قياسية لمدة 40 ثانية. وخوذة مزودة بمنظومة معالجة الصور، وإمكانية الطيران ليلا وفي ظروف الرؤية الرديئة، وتسديد الأسلحة على هدف محدد أوتوماتيكيًا، وإسقاط الصور الأكثر دقة على غطاء الخوذة الواقي، من تصميم شركة الاتصالات الإلكترونية.
الانتقادات الأمريكية: ليست مقاتلة شبح ولا من الجيل الخامس!
بموازاة الجهود المحمومة التي تبذلها الولايات المتحدة لابتلاع سوق مقاتلات الشبح، شنت المنصات الإعلامية الأمريكية حملة تشكيكية في قدرات المقاتلة الروسية «سو 57»، وذهب مؤسس ومحرر مدونة «The Aviation Geek Club» المتخصصة في مجال الطيران العسكري، داريو ليون، إلى درجة التشكيك في إمكانية اعتبار «سو 57» مقاتلة من الجيل الخامس، استنادًا إلى أنها صُمِّمَت في الأصل لتحل مكان مقاتلتي الجيل الرابع «ميج 29» و «سو 27».
وفي الوقت الذي تبلغ فيه قيمة المقاتلة الأمريكية (تقدر بنحو 121.8 مليون دولار) أكثر من ضعف ثمن نظيرتها الروسية (التي تقدر بنحو 50 مليون دولار)، فإن عددًا من الخبراء أكدوا لموقع «بزنس إنسايدر» أنه بالرغم من أن المقاتلة الروسية تتمتع بإمكانيات مناورة تحسد عليها وقدرة عالية على القتال الجوي، إلا أن الولايات المتحدة والصين هما فقط الدولتان اللتان أنتجتا حتى الآن مقاتلات شبح حقيقية.
نموذج لمقاتلة «سو 57» النفاثة معروضة في اليوم السابق لافتتاح معرض باريس الجوي 2019 في مطار لو بورجيه
إلى جانب هذا التشكيك الأمريكي في أن تكون «سو 57» مقاتلة شبحية، أو حتى من الجيل الخامس، تقول مجلة «ميليتاري ووتش» العسكرية إن الطائرة الروسية، «تختلف تمامًا عن المقاتلة «إف 35» الأمريكية في مواصفاتها ودورها القتالي، على الرغم من كونهما من مقاتلات الجيل الخامس».
فبينما صُمِّمَت «إف 35» لتكون طائرة خفيفة متعددة الأدوار ذات محرك واحد، مع وجود قيود كبيرة في قدراتها القتالية (جو-جو) بسبب سرعتها المنخفضة، وقدرتها على المناورة، وحمولتها التسليحية. يأتي على النقيض من ذلك، المحرك المزدوج الثقيل للمقاتلة «سو 57» الروسية، التي تعد أكثر قابلية للمقارنة مع الطائرة «إف 22 رابتور» الأمريكية، وهي مقاتلة تفوق جوي بعيدة المدى، تمتلك اليد العليا في القتال جو–جو، ويمكنها التحليق على ارتفاعات شاهقة، ويُعتقد أنها أكثر الطائرات المقاتلة قدرة على المناورة، كما أنها تحمل أكبر حمولة صواريخ جو–جو مقارنة بمنصات الجيل الخامس الأخرى.
الرد الروسي: إمكانيات الجيل السادس وطلاء مبتكر لزيادة التخفي
كل هذه الآراء تنحصر في المقارنة بين المقاتلتين «سو 57» الروسية و«إف 35» الأمريكية، أما إذا حصلت تركيا مثلا على المقاتلة «سو 57» من روسيا، فسيكون بحوزتها أقوى مقاتلة تفوق جوي في أوروبا والشرق الأوسط، خاصة أن الولايات المتحدة لم تُصَدِّر بعد طائرات التفوق الجوي من طراز «إف 22» و«إف-15 إكس»، وهو ما تعترف به المجلة العسكرية الأمريكية ذاتها.
أما الفروق بين المقاتلتين فيدركه الروس، وقد صرح رئيس الشركة الحكومية التي تدير صناعة الطائرات في روسيا، ألكسي فيودوروف، منذ عام 2010، بأن روسيا حشدت قدراتها الإبداعية والهندسية والمادية في المرحلة الراهنة لصنع مقاتلة الجيل الخامس الثقيلة، وقد تتوجه بعدها لصنع مقاتلة المستقبل الخفيفة.
وفي مواجهة التشكيك في إدراج «سو 57» ضمن مقاتلات الجيل الخامس، أكد القائد السابق لقوات الدفاع الجوي الروسية، ورئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور بونداريف، في نوفمبر 2017، أن طائرات «سو 57» لديها إمكانيات هائلة يمكن ترقيتها إلى مقاتلة من الجيل السادس.
المقاتلة الأمريكية «إف 35»
وأكد مسؤولو الدفاع الروس مرارًا أن الأجهزة المصممة لمقاتلات الجيل السادس في المستقبل اختبرت على نموذج «سو 57»، بما في ذلك أنظمة الطيران والملاحة بالإضافة للحرب الإلكترونية والرادار.
وفي مواجهة التشكيك في قدرات التخفي، أعلنت «شركة روستيخ» الحكومية يوم 11 يناير (كانون الأول) 2019، استخدام طلاء مبتكر من أكسيد الفلز لزجاج قمرة القيادة يضاعف امتصاص موجات الرادار، ويقلل من رصد الطائرة بنسبة 30%، ويقلل من تأثير الأشعة فوق البنفسجية على الطيار بنسبة أربع إلى ست مرات، والإشعاع الشمسي الحراري أكثر من ثلاث مرات.
وبحسب مدير الصناعة لمجموعة الأسلحة التقليدية والذخيرة والكيمياء الخاصة في الشركة الروسية، سيرجي أبراموف، فإن الابتكار الجديد يقلل من وزن الزجاج في قمرة القيادة بنسبة النصف، ويزيد من مقاومته، ويزداد امتصاص الأمواج الراديوية من 40% إلى 80%.
وفي استعراض واضح للقوة العسكرية، رافقت ست مقاتلات «سو 57» طائرة فلاديمير بوتين الرئاسية أثناء توجهه لتفقد الوحدات العسكرية في منطقة أستراخان، قبل العودة إلى مقره الصيفي في سوتشي على البحر الأسود لمقابلة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في مايو الماضي.
بعدها بأيام، أمر بوتين بزيادة عدد مقاتلات «سو 57» إلى 76 طائرة، وهو ما يقرب من خمسة أضعاف العدد الذي كان مستهدفًا في الأصل (16 مقاتلة) بحلول عام 2028؛ وكأنه يرد على التشكيك الأمريكي في عدم قدرة موسكو على توسيع خط إنتاج المقاتلة الجديدة، ويرسخ أقدام «سو 57» في المنافسة مع الولايات المتحدة خاصة بعد قرار واشنطن باستبعاد تركيا من البرنامج المشترك لصناعة الطائرة الشبح الأمريكية «إف 35».
«إف-14 توم كات».. قصة مقاتلة اعتراضية تملكها إيران وتخشاها أمريكا