في طرق الضفّة الغربيّة والقدس، يمكن للمارين بالمركبات مشاهدة مناظر طبيعيّة خلابة على حافتي الطريق، من المفترض أن تسلب الأنظار، وتُمتّعها بما يسر العيون والقلوب. لكن الفلسطينيين وحدهم هم من يدركون ضريبة الالتفات لهذه المناظر الطبيعية دون توقُّع خروج «فتية التِلال»، أو «تدفيع الثمن»، أو «التمرد» المنضوين في جماعات العنف اليهودي، من جُرف يطل على طريق سريع، فهؤلاء لا يكتفون بحرق محصول لمُزارع فلسطيني، أو إعطاب سيارة، أو كتابة عبارات عنصرية على جدران المنازل، بل تتزايد جرائمهم في قتل المارّة بالصخور، كما حدث مع السيدة الفلسطينية عائشة الرابي، أو إحراق العائلات وهم نيام كما حدث مع واقعة عائلة دوابشة.

«العنف اليهودي» ينال من أم لثمانية أبناء

كان مساء يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مُرهقًا لكنّه جميل، فالاستعدادات ليوم زفاف الابنة إسلام بعد نحو الأسبوعين تتم على قدم وساق، لكن استشهاد «أُمّ العروس» عائشة الرابي (45 عامًا) حوّل حياة الأسرة دراماتيكيًّا من بهجة الاحتفال إلى مشاهد الحزن والعزاء، وخاصة حياة الزوج وأبناء عائشة الثمانية.

شاهد: تشييع جثمان الفلسطينية عائشة الرابي

تعود تفاصيل الجريمة إلى العاشرة من مساء ذاك اليوم، حين ألقى متطرّفون يهود صخرة حادّة الحفاف، وبحجم كُرة القدم، على السيارة التي كان يقودها زوج عائشة قرب حاجز زعترة (جنوبي نابلس)، حطّمت الصخرة الزجاج الأمامي للسيارة وارتطمت برأس عائشة، فيما أُصيب زوجها الذي فقد السيطرة أثناء القيادة، وذُعرت ابنته ذات التسع سنوات راما. يقول الزوج يعقوب بعد أن تمكّن بأعجوبة من الوصول إلى المستشفى لإنقاذ زوجته: «أخبروني في البداية أنّ وضعها كان خطيرًا، بعد 10 دقائق أخبروني أنها كانت ميّتة بالفعل عندما وصلت»، كما قال: «سمعت أحدهم يصرخ عرب، ثم حطّم حجر في سيارتنا، نظرت إليها ورأيت وجهها ورأسها مليئين بالدماء».

مرتكبو الجريمة هم من المتطرّفين اليهود الذين حولوا حياة سكان مدن الضفة الغربية إلى جحيم، وهم تحديدًا من تنظيم «فتية التلال»، الذين يستهدفون الفلسطينيين وممتلكاتهم، وقد وقف وراء هذه الجريمة خمسة من هذا التنظيم كما اعترفت قوات الاحتلال الإسرائيلي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2019، أي بعد ثلاثة أشهر كاملة من وقوع الجريمة، فقالت إن هؤلاء يتعلّمون في معهد ديني استيطاني في مستوطنة ريحاليم المقامة على أراضي الضفة الغربية.

الأكثر خطورة تمثّل في مواقف جهات رسمية في إسرائيل، انطلقت لممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيليّة للإفراج عن المتّهمين رغم وجود اعترافات بتورطهم بالقتل تحت ذريعة تعرّضهم للتعذيب، فقد وصل الأمر بوزيرة القضاء الإسرائيلية، أيليت شاكيد، لإجراء اتّصال تضامن مع والدة أحد هؤلاء المعتقلين، فيما كان الأخطر سفر نشطاء من اليمين المتطرف من مستوطنة يتسهار إلى المدرسة الدينية برحليم بعد 24 ساعة من رشق سيارة عائلة رابي بالحجارة، منتهكين حرمة السبت بالسفر في مركبة والاجتماع بمجموعة من المشاركين في جريمة القتل، بهدف إرشادهم إلى كيفية التزام الصمت خلال التحقيق معهم، وعدم التعاون مع المحققين بحال تم اعتقالهم.

متطرفون يهود يشاركون في مظاهرة ضد أساليب استجواب المتطرّفين اليهود

واستجابة لهذه الضغوط، قامت الحكومة الإسرائيليّة في العاشر من يناير الماضي بإطلاق سراح أربعة مشتبهين بشروط مقيدة، أهمها الإقامة الجبريّة، فيما أبقت على الخامس بذريعة أن «قوة الاشتباه (ضد المشتبه) عالية جدًا. والمخالفات المنسوبة لهذا المشتبه تستدعي استمرار اعتقاله كونها تشير إلى تشكيل خطر وتحسب من تشويش مجرى التحقيق، ولا تسمح بالإفراج عنه إلى اعتقال منزلي». وفعليًّا قالت مصادر إسرائيلية في 24 من يناير إنّ النيابة العامة الإسرائيلية، تتّجه لتقديم لائحة اتهام ضد هذا القاصر للمحكمة المركزية، وستنسب له تهمة «القتل غير العمد»، وذلك بعد إثبات أن الحمض النووي (DNA) لهذا المستوطن هو نفسه الذي كان على الحجر الذي ألقي على السيارة التي كانت تستقلها أسرة الرابي.

«بيزنس إنسايدر»: جولة في «الخليل» لفهم حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (صور)

 

ارتفاع وتيرة الاعتداءات والحكومة الإسرائيليّة تقف مكتوفة الأيدي

ما يزال الطفل الفلسطيني أحمد دوابشة يعاني من الحروق التي تغطّي نصف وجهه منذ أن أقدم مستوطن متطرف على حرق منزله في 31 يوليو (تموز) عام 2015، وكذلك كونه الناجي الوحيد في أسرته، فقبل أيام استأنف الطفل دراسته في الفصل الثاني من العام الدراسي الأول في المدرسة التي أصبحت تحمل اسم شقيقه: «مدرسة الشهيد علي الدوابشة».

الطفل أحمد دوابشة

فـ«علي» هو شقيق أحمد، الرضيع الذي استشهد مع أمه ريهام وأبيه سعد، حرقًا بقنابل المولوتوف التي ألقاها المتطرّفون على بيتهم في قرية دوما بنابلس، فحرقت الأجساد وكلّ شيء في المكان، وذاب كل شيء إلا عبارات «الانتقام» و«دفع الثمن» بالعبرية. يقول عمُّه نصر: «كل الجروح تندمِل مع مرور الوقت، إلا جرح أحمد، يكبر مع سنوات عمره».

فيما اكتفت قوات الاحتلال الإسرائيلي في إطار تأكيد عزمها على «مكافحة المجموعات اليهودية المتطرفة» بإصدار حكم بالاعتقال الإداري لأول مرة على يهودي متطرف يدعى «مردخاي ماير»، على خلفية قتل عائلة دوابشة، ولم تستجب لرفع عائلة دوابشة قضيتين، الأولى جنائية ضد المستوطنين الذين نفّذوا الجريمة وخطّطوا لها، ويتم النظر بها في المحكمة الإسرائيلية في اللد، وقضية تعويضات ضد الحكومة والجيش الإسرائيليين في المحكمة المركزية في الناصرة.

في المحصلة، تشكّل عدة جماعات يهودية القلب النابض للـ«إرهاب» اليهودي المتجدد، منها مجموعات «تدفيع الثمن» التي تنشط في مستوطنة «يتسهار» (قرب نابلس)، ومجموعات «شبيبة التلال» الأكثر عنفًا، والتي تعيش في بؤر استيطانية، مثل «غيئولات تسيون» و«رمات مغرون»، وهي جماعات مستمرة بارتكاب جرائم كإتلاف إطارات المركبات الفلسطينية، وخطّ الشعارات العنصرية على جدران المنازل الفلسطينية، إلى إضرام النار في البيوت والمساجد والممتلكات، وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على الطرق التي يمر بها الفلسطينيون، كما تشمل تلك الهجمات إحراق دور عبادة مسيحية وإسلامية، وإتلاف أو اقتلاع أشجار الزيتون، فقد وقفت هذه الجماعات وراء حريق في كنيسة رقاد السيدة العذراء في القدس، وحريق في كنيسة الخبز والسمك في طبرية، كما تواصل هذه الجماعات اعتداءاتها بالضرب، ومداهمة القرى الفلسطينية ليلًا، والاعتداء على الممتلكات الزراعية، وحرق البيوت، وإلقاء الحجارة على المارة.

شعارات عنصرية على جدار منزل فلسطيني في حي بيت حنينا في القدس الشرقية في هجوم لجماعة «تدفيع الثمن».

فإذا ما استعنّا بلُغة الأرقام، يتّضح أنّه مع الارتفاع الحادّ في حالات الاعتداءات اليهودية، سجّل وقوع 482 حادثة خلال عام 2018، مقابل 140 حادثة خلال عام 2017، مما يعني أن العمليات زادت ثلاثة أضعاف خلال العام الماضي عن عام 2017. وتظهر بيانات الأمم المتحدة أن نسبة الخسائر البشرية والضرر الذي لحق بالممتلكات ارتفعت بنسبة 175% منذ عام 2016، وهو أعلى رقم منذ الذروة من أربع سنوات.

وتبقى محافظة نابلس المنطقة الأكثر تضررًا من عنف المستوطنين، إذ وقعت فيها 40% من الحوادث في عام 2018 (86 حادثة)، غالبيتها في المناطق المحيطة بمستوطنة يتسهار والمواقع المتاخمة لها، وفي المستوى الثاني تأتي محافظتا الخليل ورام الله 17% و16% من الحوادث على التوالي.

أما بحسب معطيات جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك)، فقد ارتفعت وتيرة الاعتداءات الترهيبية اليهودية في الضفة الغربية المحتلة بنسبة 50% خلال عام 2018، ارتكبت منظمات الترهيب اليهودي 295 اعتداءً عنيفًا في العام الماضي، مقارنة مع 197 اعتداءً خلال عام 2017.

«جنة الحريات».. إسرائيل تواجه منشورات فيسبوك بالاعتقالات والقبضة الحديدية

 

كيف تورّطت الطبقة السياسية الإسرائيليّة في دعم «العنف اليهودي»؟

تدعم تحرّكات الجماعات العنيفة اليهودية بالفتاوى التي يطلقها كبار الحاخامات في صفوف المستوطنين، والتي تُجيز قتل الفلسطينيين في دروس السبت الدينية، إذ يوفّر الحاخامات خلفيّة فكريّة ودينيّة تستند إليها التنظيمات «العنيفة» في المستوطنات الإسرائيلية.

لكن الأخطر أن تزايد ظاهرة «الإرهاب» اليهودي زيادة ملحوظة ناجم عن عدم وجود ردع رسمي إسرائيلي للمتطرفين اليهود، الذين يتمّ اعتقالهم على خلفية ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، ثم الإفراج عنهم خلال أيام تحت ذرائع مبهمة.

 

متطرف يهودي

وبدءًا بموقف الأحزاب الإسرائيلية، فإن تلك الأحزاب -وخاصة اليمينية المتطرفة منها- تصمُت عن إدانة أو تناول الحديث عن ما يعرف بـ«الإرهاب اليهودي»، وهو صمت يأتي لتحقيق مكاسب انتخابية، فالآن تهدف الأحزاب لإرضاء المستوطنين قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في أبريل (نيسان) القادم؛ لكسب أصواتهم في المعركة الانتخابية المنتظرة.

كذلك وبرغم وجود بعض أصوات أمنية إسرائيلية تحذّر من أثر الحماية التي يوفّرها السياسيون لهؤلاء المتطرفين، ما قد يدفعهم إلى تصعيد هجماتهم بصورة أكثر تطرفًا، فإن هؤلاء يتلقون دعمًا مفتوحًا من رؤساء المجالس الاستيطانية، ومسؤولين في أجهزة رسمية، بل تعترف مصادر إسرائيلية أن محاولات من قبل وزير الدفاع السابق موشيه يعالون، ووزيرة العدل السابقة تسيبي ليفني، بتعريف هجمات «تدفيع الثمن» كهجمات إرهابية بموجب القانون، أُحبطها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فحكومة نتنياهو بعد جريمة آل دوابشة حافظت على مكانة التنظيم غير القانوني المدعو «فتيان التلال».

أما الأكثر دلالة على تأييد جزء من الطبقة السياسيّة في إسرائيل لهذه العمليات، فهو تنفيذ بعض الهجمات من قبل هؤلاء بوجود عناصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل إن هؤلاء الذين يُظهرون قدرة فائقة على ملاحقة الفلسطينيين يتحدثون عن وجود صعوبة في اختراق جماعات «العنف اليهودي»، بذريعة أنهم يعملون في خلايا، مع القليل من الاتصال في ما بينهم، ويزعمون أيضًا أنّه يتمّ تدريبهم على كيفية الوقوف في وجه تقنيات الاستجواب لجهاز «الشاباك».

وبالأرقام يظهر أن 85.3% من الشكاوى التي يقدمها فلسطينيون ضد المتطرّفين اليهود يتم إغلاقها بسبب عدم قدرة المحققين على اعتقال المشتبه بهم، أو جمع أدلة كافية لتقديم لائحة اتهام، كما تبعت منظمة «يش دين» لحقوق الإنسان 1045 شكوى فلسطينية ضد المستوطنين اليهود، من عام 2005 إلى عام 2014، ووجدت أن 7.4% فقط أدّت إلى إصدار لوائح اتهام، كما تم فتح 185 تحقيقًا بين عامي 2014 و2017 وصلت إلى مرحلة نهائية، ولم يُلاحق المجرمون إلا في 11.4%، بينما أغلقت ملفات 164 تحقيقًا دون توجيه اتهام.

 

فلسطيني يعرض إطار سيارته الذي عطله المتعصبون اليهود بالقرب من كتابات مكتوبة بالعبرية «الموت للقاتلين».

والأخطر من الدعم المعنوي والديني، هو إغداق أثرياء يهود بالمال على هذه الجماعات، فقد حوّل أثرياء في إسرائيل ملايين الشواقل لمدارس دينية تحرّض على القتل، وتنظيمات ارتكبت جرائم ضد فلسطينيين، من بينهم شيري آريسون، التي أنشأت جمعية تحمل اسم «متآن»، لتحويل الملايين من الشواقل، لجمعيات وتنظيمات تقدّم الدعم للمتطرّفين اليهود، أو منفّذي جرائم الكراهية ضد العرب وقادتهم، ووصل الأمر بهذه الجمعية أن يحصل المتبرعون لها على إعفاء ضريبي من وزارة القضاء الإسرائيلية، بوصفها جمعية حاصلة على شهادة جودة الإدارة، وكذلك ورد اسم الملياردير نوحي دنكر، الذي يدير شركة «إ د بي» العملاقة، التي تقدم تمويلًا للمدرسة الدينية «يوسيف» في مستوطنة «تسهار» المقامة شمال الضفة الغربية، وهي أحد معاقل جماعة «تدفيع الثمن».

ما لا تعرفه عن كراهية إسرائيل للمسيحية!

 

 

المصادر

تحميل المزيد