لم يتفق الباحثون على تعريف محدد وثابت للتاريخ، فرغم توارث فهمه على أنه سجلّ لأعمال الإنسان باعتباره الفاعل الأبرز في هذا الكون، لم يتم الاتفاق على تفاصيل بناء هذا السّجل، وهو ما دفع لظهور مدارس مُختلفة للتأريخ والتاريخ.

وجرت العادة أن يستقرئ المُؤرّخون بعض ملامح الأحداث الماضية من خلال تحليل ما يُكتشف من آثار وما توفره من معطيات، سواءٌ في بنيتها أو بما تحمله من معلومات مكتوبة أو مُصوّرة. ومن بين الأساليب التي حُفظ بها التاريخ ونُقل بها منذ قرون عديدة أيضا المُشافهة أو ما يُعرف بالتاريخ الشفهي، وهو عبارة عن روايات وقصص تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل، خاصّة إذا سلمت سلسلة النقل من الكسر لسبب أو لآخر.

ورغم أن الإنسان كان مُنذ الأزل حريصًا على تخليد قصصه ونقلها للاحقين، إلا أن هذا الحرص يكون مُضاعفًا لدى الأقليات الدينية والإثنية، باعتبارها تستشعر دائمًا، بحكم القلة العددية، أن ثقافتها وكينونتها مُهدّدة.

في هذا التقرير، نسلّط الضوء على إحدى الأقليات الضاربة في القدم، والتي نجحت رغم قدمها – إلى حد الآن – في مواصلة روايتها لقصصها لتكون بمنزلة التاريخ الناطق، وهي أقلية الصابئة المندائية التي سنتعرف عليها باعتبارها ظاهرة ثقافية اجتماعية وإرثًا حضاريًّا تاريخيًّا، بعيدًا عن سجالات الحلال والحرام والكفر والإيمان التي لها فرسانها.

جذور النشأة واللغة والمُعتقد

اختلف المؤرخون في أصل الصابئة المندائيين ونشأة دينهم ومصادره الأولى، ونشأت في ذلك نظريتان: فأمّا الأولى فترجّح أنهم من سكان ما بين النهرين القدماء، وتقول بأنهم ورثوا الكثير من الميثولوجيا البابلية، ولكنهم تأثروا باليهودية بحكم تجاورهم مع اليهود التي كانت تسكن ما بين النهرين، وقد تأثروا بالمسيحية من خلال الاحتكاك بالنساطرة المسيحيين – النسطورية هي المعتقد الديني المسيحي الرافض لمجمع أفسس المعقود سنة 431 م-.

وأمّا الثانية فتقول بأن منشأهم كان في الغرب، في منطقة البحر الميت – فلسطين حاليًّا – أو في شرق الأردن حيث كانوا يمارسون شعيرة التعميد هناك، قبل أن يتحوّلوا لجنوب العراق. وعلى العموم؛ هناك إجماع على أن الصابئة المندائية هي آخر الطوائف الصابئة التي حافظت على بقائها حتى الآن، ويتواجد معتنقوها أساسًا في جنوب العراق وإيران واتخذوا من ضفاف الأنهار موطنًا لهم لارتباط طقوسهم الدينية بالماء الجاري – اليردنا -.

Embed from Getty Images
مجموعة من المندائيين خلال أداء طقوسهم بأحد أنهار العراق

فيما يخصّ الجانب الديني؛ يُعرّف المندائيون أنفسهم على أنهم أقدم ديانة موحدة عرفتها البشرية فهم يُؤمنون بالله كما يؤمنون بالنبي آدم عليه السلام وشيت وسام بن نوح وإبراهيم الخليل وأخيرًا بالنبي يحيى بن زكريا «يوحنا المعمدان» وهو آخر أنبيائهم.

وتدعو الديانة الصابئية للإيمان بالله ووحدانيته مطلقًا، لا شريك له، واحد أحـد، ومن جملة أسمائه الحسنى، والتي لا تحصى ولا تـُعـَـد «الحي العظيم، الحي الأزلي، المزكي، المهيمن، الرحيم، الغفور».

وتقول المندائية «إن الله الحي العظيم انبعث من ذاته وبأمره وكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، وإنه كذلك بأمره تم خلق آدم وحواء من الصلصال عارفين بتعاليم الدين الصابئي وقد أمر الله آدم بتعليم هذا الدين لذريته لينشروه من بعده».

ويعتمد الصابئة المندائية في أداء طقوسهم على اللغة المندائية وهي اللغة التي دوِّنت من خلالها كتبها الدينية. وتصنف اللغة المندائية الكلاسيكية على أنها الفرع الآرامي الشرقي النقي إذ تتميز بصرامتها وعدم تأثرها بأي لهجة أخرى من ناحية القواعد.

وللغة المندائية نسخة عامّية أو محكية وتُسمّى «الرطنة» وهي التعبير الدارج الذي يستخدمه المندائيون في حياتهم اليومية، وهي لهجة في طريقها للانقراض باعتبار أن استعمالها اقتصر على مندائيي الأهواز عكس مندائيي العراق الذين يستخدمون اللهجة العراقية الدارجة.

الكتب المُقدّسة

للصابئة مجموعة من الكتب التي تنظم لهم طقوسهم، وشعائرهم وتنقسم تلك الكتب إلى ثلاث مجموعات وهي:

المجموعة الأولى: أجزاء التعاليم الدينية وتتكون من:

  • «كنزا ربا» (الكنز الكبير) ويقول المندائيون إنه صحف آدم عليه السلام، فيه موضوعات كثيرة عن نظام تكوين العالم وحساب الخليقة وأدعية وقصص، وتوجد في خزانة المتحف العراقي نسخة كاملة منه. طبع في كوبنهاجن سنة 1815م، وطبع في لايبزيغ سنة 1867م.

يتألف «الكنزا ربا» من قسمين اثنين: كنزا يمينا (الكنز اليمين) ويحتوي على التعاليم والوصايا والتحذيرات وعلى قصص الخلق والتكوين والنشوء وعلى صحف آدم وشيتل (شيث) بن آدم ودنانوخت (إدريس) وعلى قصص بعض الملائكة. وكنزا سمالا (الكنز الشمال) ويحتوي على مجموعة من التراتيل وعلى مجموعة من القصص الخاصة برجوع وعروج النفس إلى موطنها الأصلي الذي نزلت منه (الما دنهورا-عالم النور).

صفحة غلاف النسخة المُعربة من كتاب كنزا ربا وتحمل شعار الصابئة المندائية

  • «دراشا إد يهيا» (دروس ومواعظ يحيى)
  • ديوان «أباثر» (ديوان الملاك أباثر) ويحتوي على شروح كاملة للذنوب وأنواعها، وأحكامها وعقوباتها.

صفحة من صفحات ديوان أباثر

  • ديوان «آلما ريشايا ربا» ( ديوان العالم الكبير أو الحياة الأخرى)
  • ديوان «آلما ريشايا زوطا» (ديوان العالم الصغير أو الحياة الدنيا)

المجموعة الثانية أجزاء المراسيم والطقوس الدينية

من بينها «سيدرا إد نشماثا» (كتاب الأنفس) والذي يهتم بطقوس المصبتا (التعميد المندائي)، ومراسيم الزواج. و«القلستا» وهو كتاب حول الأدعية والتراتيل والصلوات، ويشمل كل ما جاء بتراتيل ونصوص الصباغة (التعميد) الصابئية، وتراتيل، الزواج و«قداها ربا» ويعني الصلاة العظيمة أو طلب التوسل العظيم، بالإضافة إلى «الف وتريسار شيّاله» ويتضمن الأخطاء التي يرتكبها رجل الدين ويتناول في جزء منه التقويم المندائي السنوي ومراسيم الزواج وطقوس الصباغة، و«نياني اد رهمي» وهو كتاب خاص بالأدعية والصلوات الرسمية وغير الرسمية.

المجموعة الثالثة: أجزاء المعرفة والعلم والتاريخ

وهما «أسفر ملواشة» أو كتاب تحديد أوقات الشر التي يواجهها الناس والمدن و«حران كويثا» الذي يستعرض هجرة بعض الناصورائيين (الاسم الأول الأقدم للمندائيين). يتضمن «حران كويثا» أيضًا بعض التواريخ للأحداث الفلكية السابقة وكذلك اللاحقة.

تراتبية المنظومة الدينية لدى المندائيين

يشترط في رجل الدين المندائي أن يكون سليم البنية الجسدية، متزوجًا وله أبناء، وغير مختون، وله كلمة نافذة في شؤون الطائفة كحالات الولادة والتسمية والتعميد والزواج والصلاة والذبح والجنازة، ورتبهم على النحو التالي:

1- الحلالي: ويسمى «الشماس» يسير في الجنازات، ويقيم سنن الذبح للعامة، ولا يتزوج إلا بكرًا، فإذا تزوج ثيبًا (أرملة أو مُطلّقة) سقطت مرتبته ومنع من وظيفته، إلا إذا تعمد هو وزوجته 360 مرة في ماء النهر الجاري.

2- الترميدة: إذا فقه الحلالي الكتابين المقدَّسين «سيدرا إد نشماثا» و« نياني إد رهمي» أي كتابَيْ التعميد والأذكار فإنه يتعمد بالارتماء في الماء الموجود في المندي (المعبد المندائي) ويبقى بعدها سبعة أيام مستيقظًا لا تغمض له عين حتى لا يحتلم، ويترقى بعدها هذا الحلالي إلى ترميدة، وتنحصر وظيفته في العقد على البنات الأبكار.

3- الأبيسق: الترميدة الذي يختص في العقد على الأرامل يتحول إلى أبيسق ولا ينتقل من مرتبته هذه.

4- الكنزبرا: الترميدة الفاضل الذي لم يعقد على الثيبات مطلقًا يمكنه أن ينتقل إلى كنزبرا وذلك إذا حفظ كتاب «الكنزا ربا» فيصبح حينئذٍ مفسرًا له، ويجوز له ما لا يجوز لغيره، فلو قتل واحدًا من أفراد الطائفة لا يقتص منه لأنه وكيل الرئيس الإلهي عليها.

5- الريش أمه: أي رئيس الأمة، وصاحب الكلمة النافذة فيها. وصاحب هذا اللقب أو المنزلة الآن هو الشيخ ستّار جبّار حلو (عراقي).

6- الربّاني: وفق هذه الديانة لم يصل إلى هذه الدرجة إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام، كما أنه لا يجوز أن يوجد شخصان من هذه الدرجة في وقت واحد. والرباني يرتفع ليسكن في عالم الأنوار وينزل ليبلغ طائفته تعاليم الدين ثم يرتفع كرّة أخرى إلى عالمه الرباني النوراني.

العبادات المندائية

للمندائيين عبادات مُختلفة تمثل الجانب العملي لتديّنهم شأنهم شأن باقي الديانات الأخرى التي يكون التعبد فيها مرتبطًا بأفعال وفرائض مُعيّنة.

  • الشهادة والتوحيد (سهدوثا إد هيي) وهي الاعتراف بالحي العظيم (هيي ربي) خالق الكون، واحد أحد، لا شريك لأحد بسلطانه.
  • الصـباغـة (المصبتا): وتعتبر من أهم أركان الديانة المندائية، وهو واجب على كل مندائي، تجري مراسيمـه في المياه الجارية العذبة، لقطع العهود، والصباغة تمثل في المعتقد المندائي ولادة جديدة للفرد تطهر القلوب من الآثام والأخطاء.

فيديو لتعميد (صباغة) أحد المندائيين.

  • الصلاة (البراخة) وتؤدى ثلاث مرات في اليوم: قبيل الشروق، وعند الزوال، وقبيل الغروب. فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود، وهي تستغرق ساعة وربع الساعة تقريبًا، وتسبق بالغسل بالماء
    (الرشامة).

مراحل الرشامة المندائية استعداد للصلاة

  • الصوم وهو عند الصابئة على نوعين: الصوم الكبير ويشمل الصوم عن كبائر الذنوب والأخلاق الرديئة، والصوم الصغير وهو صوم الجِسم عن المَلذاتِ الدّنيويّة والشّهوانيّة والحِسيّة لمدة 36 يومًا متفرقة على طول أيام السنة.
  • الصـدقـة ( زدقـا بريـخا).

ديانة عرقية بلا دعوة ولا تبشير

وعكس أغلب الديانات الأخرى، لا تعمل الصابئة المندائية على استقطاب أشخاص جدد، ولا يُمكن لغير المندائي أبًا عن جد أن ينتمي لهذه الطّائفة فهي إذن ديانة عرقية غير تبشيرية.

وبحسب بعض المصادر المندائية ووفق ما جاء في بعض كتبهم، كان قرار وقف التبشير أي الدّعوة إلى اعتناق الديانة المندائية على إثر لحملات إبادة جماعية تعرض لها المندائيون في القرن الأوّل الميلادي قادها اليهود في أورشليم. وورد نص في كتاب «حران كويثا» الذي أرخ لهذه الحادثة أنه قتل فيها آلاف المندائيين وكان بينهم 360 رجل دين مرة واحدة لأنهم مندائيون، مما أدى إلى هجرتهم إلى خارج المنطقة وهذا هو النزوح الأول للمندائيين خارج وطنهم.

ومنذ سنة 67 بعد الميلاد، تاريخ وقف التبشير المندائي بقرار منهم؛ فإنه يتعين على الفرد حتى يكون مندائيًّا أن يكون سليل أبوين مندائيين ويجب عليه أن يتزوج مندائية، وفي حال تزوج من خارج الطّائفة يعتبر خرج عن الديانة وحكمه في حكم الميت، وفق توضيح رئيس الطائفة المندائية الشيخ ستّار جبّار حلو.

المصادر

تحميل المزيد