هل سبق وشعرت بتسارع في ضربات قلبك، وعدم قدرتك على التنفس، وارتباك شديد ودُوار قد يصل إلى حد الإغماء عند إمعان النظر في لوحة فنية جميلة؟ أو عند زيارتك إلى مدينة ذات طبيعة ساحرة؟ إذا كنت تعرضت لهذه الأعراض من قبل؛ فأنت ربما تعاني من متلازمة ستندال أو متلازمة «الصدمة الفنية».

ما هي متلازمة ستندال؟

تُعرف متلازمة ستندال على أنها اضطراب سيكوسوماتي (اضطراب نفسي جسماني) يتسبب في عدم انتظام وتسارع ضربات القلب، ودوار، وتعرّق، وارتباك شديد قد يتطور إلى حالة من الهذيان حين ينظر الشخص إلى عمل فني شديد الجمال ويثيره عاطفيًا.

أما الأعراض الحادة للمتلازمة فتتمثل في نوبات هلع، وشعور شديد بالارتباك، وعدم القدرة على حفظ التوازن، وغثيان، وفقدان مؤقت للذاكرة، بل قد يمتد الأمر إلى الإصابة بحالة من الجنون المؤقت. والسبب وراء كل ذلك هو أن الإنسان قد تعرض لجرعة مفرطة من الجمال فاقت قدرته على التحمل؛ فانعكست حالته النفسية على صحته الجسدية.

ستندال.. كاد يغمى عليه من فرط جمال ما رأى

سُميت المتلازمة باسم الكاتب الفرنسي ماري هنري بيل، المعروف باسمه الأدبي «ستندال». زار ستندال مدينة فلورنسا الإيطالية عام 1817، وهناك فُتن بالفن الفلورنسي لعصر النهضة الإيطالية، وكتب وصفًا تفصيليًا عن زيارته لهذه المدينة، ومدى انبهاره بها في كتابه: «Naples and Florence: A Journey From Milan to Reggio».

 

الكاتب الفرنسي ماري هنري بيل المعروف باسم ستندال

 

حين دخل ستندال كاتدرائية سانتا كروتشي مدينة فلورنسا لأول مرة انبهر انبهارًا شديدًا باللوحات الجدارية لفنان عصر النهضة الإيطالي جيوتو دي بوندوني التي تزين أسقف وجدران الكاتدرائية، ولم يصدق أنه يقف في نفس المكان الذي دُفن فيه مايكل أنجلو وجاليليو جاليلي. وفي تلك اللحظة شعر ستندال بتسارع وعدم انتظام ضربات قلبه، ولم تقو قدماه على حمله، وقد كتب عن شعوره في تلك اللحظة قائلًا: «لقد شعرت بشيء من النشوة بمجرد التفكير أنني الآن في فلورنسا بالقرب من قبور هؤلاء الرجال العظماء. إن عقلي لا يستطيع استيعاب كل هذا القدر من الجمال… إن ما رأيت هو حتمًا الجمال في أسمى معانيه، إذ إن كل شيء هناك كان يخاطب روحي مباشرة… لقد شعرت بقلبي يخفق بشدة، وكأن روحي تخرج من جسدي، لدرجة أنني مشيت بحذر شديد خوفًا من أن أقع».

بكلماته هذه ألقى ستندال الضوء على الأعراض الغريبة التي كانت تظهر على بعض السائحين أثناء زيارتهم لمدينة فلورنسا، وعجز الجميع عن إيجاد تفسير مناسب لها لفترة طويلة، حتى قامت الطبيبة غرازيلا ماغيريني، رئيس قسم الطب النفسي بمستشفى سانتا ماريا نوفا بفلورنسا، بصياغة مصطلح «متلازمة ستندال» في كتابها الذي حمل نفس الاسم وصدر عام 1979.

اعتمدت ماغيريني في كتابها على مشاهداتها الشخصية، باعتبارها رئيسة قسم الطب النفسي بمستشفى سانتا ماريا بفلورنسا، لحالات إغماء واضطرابات شديدة الوطأة حدثت لأكثر من 100 سائح فور رؤيتهم للأعمال الفنية الشهيرة بمدينة فلورنسا، وقد حددت ماغيريني نوعية هذه الاضطرابات بأنها تشمل نوبات قلق وهلع، وهلوسة شديدة قد تتطور إلى نوبات ذهانية.

وقالت ماغيريني في كتابها: «إن من يقعون فريسة لهذه المتلازمة تتراوح أعمارهم في الغالب بين 26 إلى 40 عامًا، وهم غالبًا ما يتمتعون بحس عاطفي مرهف». وعن سبب ارتباط متلازمة ستندال بمدينة فلورنسا بالتحديد، قالت ماغيريني: «إن مدينة فلورنسا تختلف عن غيرها من المدن الأثرية الشهيرة باعتبارها متحفًا مفتوحًا يحوي معظم أعمال عصر النهضة الذي تتميز أعماله باحتوائها على تفاصيل مزعجة وقاتمة قد تثير بعض الذكريات في لاوعي المشاهدين ذوي الإحساس المرهف، الذين تؤثر حالتهم النفسية على صحتهم الجسدية، ولكنهم يستعيدون حالتهم الطبيعية بعد مغادرة المدينة والابتعاد عن جرعة الفن المكثفة».

ديستوفسكي وفرويد.. أشهر من أصابتهم متلازمة ستندال

الجمال ما هو إلا بداية الرعب الذي نظن أننا مازلنا قادرين على تحمله، والغريب في الأمر أننا ننظر إليه بإعجاب شديد، بينما يمضي بخطوات واثقة لإبادتنا *الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه

 

على الرغم من أن الأديب الفرنسي ستندال يُعد أشهر فنان تم توثيق إصابته بالمتلازمة التي سُميت باسمه، إلا أن هناك بعض الأدباء والفنانين الذين تم توثيق تعرضهم لأعراض مشابهة لأعراض تلك المتلازمة؛ كالروائي الفرنسي مارسيل بروست، والأديب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي.

في دراسة صدرت عام 2005، قال طبيب الأعصاب البرازيلي إدسون أمانسيو: إن دوستويفسكي كان يعاني من متلازمة ستندال، وقد ظهر هذا جليًا في الحالة التي أصابته عند رؤيته للوحة «المسيح في القبر» للفنان الألماني هانز هولبن أثناء زيارته هو وزوجته لمتحف بمدينة بازل؛ فقد وقف دوستويفسكي أمام هذه اللوحة في سكون وصمت وكأنه مربوط إليها لدرجة أن زوجته قد ظنت أن نوبة صرع سوف تنتابه.

اقرأ أيضًا: فيودور دوستويفسكي.. صوتا المسيح والشيطان في إنسان واحد!

وتحكي زوجته عن هذا الأمر قائلة: «في الطريق إلى جنيف، توقفنا ليوم واحدٍ في بازل، وفي نيتنا أن نرى اللوحة التي سمع بها زوجي من أحدهم. هذه اللوحة المرسومة بريشة هانز هولبن تصوّر المسيح بعد أن قاسى من العذابات ما يفوق طاقة البشر، وقد أُنزل من الصليب وأُسلم للتحلل والعفن، وجهه المنتفخ مغطى بالجراح الدامية، وقد بدا مفزعًا. اللوحة تركت انطباعًا هائلًا على زوجي، ولقد توقف أمامها كما لو أنه مصعوق. بعدَ أن عدت إليه بعد ما يقرب من 15 إلى 20 دقيقة وجدت زوجي لا يزال واقفًا أمام اللوحة كما لو كان مربوطًا بها. بدت على وجهه المهتاج تلك الملامح المفزوعة التي اعتدت أن أراها في اللحظات الأولى السابقة لنوبات الصرع التي تداهمه. أسرعت بإمساكه من تحت ذراعه وأخذته إلى غرفة أخرى وأجلسته على كرسي مترقبة في أية لحظة مجيء نوبة الصرع، لحسن الحظ أنها لم تأت».

لوحة المسيح في القبر لهانز هولبن

لقد أحدثت هذه اللوحة، التي وصفها دوستويفسكي بأنها «كفيلة بأن تجعل المرء يفقد إيمانه دفعة واحدة»، تأثيرًا بالغًا عليه، وقيل إنها ألهمته لكتابة رواية الأبله، وهو أيضًا قد تحدث عنها مطولًا في تلك الرواية، وأسهب في شرح اختلافها عن اللوحات الأخرى التي تركز على جمال وصفاء وجه المسيح عند موته، بينما هذه اللوحة تصوره رجلًا ميتًا وعلى وجهه آثار التعذيب المريع الذي ذاقه؛ مما يجعل المرء في حيرة حول ما إذا كان هذا الرجل الميت سيقوم مرة أخرى.

اقرأ أيضًا: «لكلّ مرض رواية».. هكذا أصبح «الأدب» علاجًا!

فرويد يخرّ صعقًا أمام تمثال موسى

في عام 1505، طلب البابا يوليوس الثاني من النحات الإيطالي مايكل أنجلو أن ينحت له تمثالًا للنبي موسى ليضعه في ضريحه، فاعتمد أنجلو على مواصفات النبي موسى المذكورة في سفر الخروج وصنع تمثالًا متقنًا يكاد يبدو حقيقيًا لدرجة أنه يقال إن أنجلو حين أنهى التمثال ضربه بقاعدة الإزميل على ركبته قائلًا له: «تكلم يا موسى».

لم يكن أنجلو هو الشخص الوحيد الذي صُعق من شدة إتقان وجمال التمثال، بل إن عالم النفس الشهير سيجموند فرويد قد خر مغشيًا عليه أمامه حين رآه لأول مرة.

تمثال موسى للنحات الإيطالي مايكل أنجلو

كان سيجموند فرويد مولعًا بجمع التحف الفنية، كما أنه كان لديه شغف لا ينتهي بالتاريخ والآثار، خصوصًا تلك الموجودة بمدينة أثينا، ولكنه بالمقابل كان يخاف من زيارة تلك الأماكن الأثرية؛ لأنه كان يشعر بأعراض غريبة تنتابه حين يكون أمام عمل فني بالغ الجمال؛ فهو قبل أن يغشى عليه أمام تمثال موسى قد عانى من حالة غربة عن الواقع أثناء زيارته لمعبد البارثينون.

وعلى الرغم من أن فرويد لم يكن متدينًا، إلا أنه لم يتأثر بأي عمل فني في حياته مثلما تأثر بتمثال مايكل أنجلو للنبي موسى، لدرجة أنه كتب مقالًا وقّعه باسم مستعار تحت عنوان «تمثال موسى لمايكل أنجلو» وقد عبر في هذا المقال عن عميق دهشته وإعجابه من دقة نحت التمثال الذي بدا له تمثال رجل يكبح جماح غضبه، وقد استدلّ على ذلك من وضع اليدين، إذ تبدو اليد اليمنى ممسكة بالألواح، ولكن ليس بإحكام، أما اليسرى فإنها تبدو بعضلاتها المشدودة وعروقها النافرة كما لو أنها ارتدت إلى وضعها بعد حركة عنيفة.

لقد شعر فرويد أن تمثال موسى يوشك أن يحطم الرخام ويقوم ليثور في وجه بني إسرائيل ويعاقبهم على اتخاذهم العجل من دون الله، لدرجة أنه استمر في الذهاب إلى التمثال والجلوس أمامه مطولًا لمدة ثلاثة أسابيع حتى يتسنى له دراسة تعابير وجهه وفهم مدلولاتها.

 

اقرأ أيضًا: «إيفان الرهيب» يقتل ابنه.. لوحات «إيليا ريبين» عن الثورة والكوميديا والموت

 

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد