نادرًا ما نجد مكانًا على سطح الكرة الأرضية لم تصل إليه يد البشر التي تغيِّر من طبيعته ومعالمه، لكن هناك بقعة ظلت بمنأى عن تدخلات الدول والشركات، وبقيت محتمية بخصائصها الطبيعة، ليصبح أقصى ما استطاعه الإنسان إزاءها هو جعلها منصة للبحوث العلمية، إنها القارة القطبية الجنوبية «أنتاركتيكا»، والتي تصفها المعاهدة الدولية المنظمة لشئونها بأنها «محمية طبيعية، مُكرَّسة للسلام والعلم».
فعلى الرغم من أن البشر وصلوا إلى «أنتاركتيكا» بأنشطتهم وأدواتهم منذ منتصف القرن العشرين، فإن وسائل التكنولوجيا لم تمنحهم اليد العليا للتغلب على العوائق الطبيعية التي تحمي تلك القارة حينذاك، وهو الأمر الذي تغير حاليًا، ليبدأ صراع دولي حول استغلال هذه المساحة غير المأهولة من الكرة الأرضية، ومع تداول الأخبار حول الأنشطة العلمية لتركيا في القارة الجنوبية، بجانب اقترابها من تأسيس قاعدة علمية ثابتة هناك، أصبح هناك سؤال حول مدى رغبة تركيا في دخول حلبة الصراع الدولي لاستغلال هذه المنطقة.
«أنتاركتيكا».. أكبر محمية طبيعة في العالم
تقع قارة «أنتاركتيكا» أسفل الدائرة القطبية الجنوبية (أي تحت خط عرض 66 جنوب خط الاستواء)، على مساحة 14.2 ملايين كيلو متر مربع، أي أكبر من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 6 ملايين كيلو متر مربع، ولديها ساحل يمتد بطول 18 ألف كيلو متر، ويغطي الجليد 98% من سطحها.
وتحتوي قارة «أنتاركتيكا» على 90% من جليد العالم و70% من مياه العذبة على الأرض؛ لذلك في حال تدهورت حرارة بفعل الاحتباس الحراري، وذاب جليد القارة، فمن المتوقع أن ترتفع مستويات البحر إلى 60 مترًا، الأمر الذي سيكون كارثة محققة على المناطق المنخفضة من العالم.
قاعدة علمية في أنتاركتيكا
وقد كان الجليد، بجانب بعدها الجغرافي عن المناطق المأهولة بالسكان، سببًا في تأخُّر اكتشاف البشر لها إلى القرن العشرين، وحتى بعد اكتشافها ظل البشر بعيدين عنها، باستثناء الجزر القطبية الجنوبية وأجزاء من المحيط الجنوبي حيث كان يجري صيد الحيتان، لكن التطور التكنولوجي شجَّع البشر على استكشاف القارة، واحتلالها بواسطة المحطات العلمية التي أقيمت من أجل البحوث والاستكشافات بحيث صارت تُسمى «قارة العلوم والسلام».
ولا يوجد في القارة سكان محليون، ولا تخضع لسيطرة أي دولة، وتنتشر فيها أنواع كثيرة من الحيوانات، مثل: البطاريق والحيتان، بجانب أنواع مختلفة من الطيور، ومع تطور قدرة البشر على الوصول إلى هناك، صارت مواردها وحيواناتها عُرضة للسلب.
كما صارت بعض أجزاء القارة مزارًا سياحيًّا، ويأتي 90% من السياح تقريبًا عن طريق القوارب، وذلك في رحلات باهظة الثمن، لا تتعدى بضع ساعات، وتُعد الولايات المتحدة المصدر الأكبر حاليًا للسياحة في القارة القطبية، تليها الصين في المرتبة الثانية، والتي من المتوقع أن تصل إلى المركز الأول خلال أعوام.
كما تستفيد بعض الوجهات السياحية القريبة من القارة من النشاط السياحي بها، مثل منتجع «أوشوايا» الأرجنتيني ومدينة «هوبارت» الأسترالية، ومن ثمَّ تحمل قارة «أنتاركتيكا» الكثير من الوعد والوعيد للبشرية، لكن ذلك رهن بكيفية تعامل البشر معها، فمنْ يملك «أنتاركتيكا»؟ وكيف يُنظِّم البشر أنفسهم هناك؟
التوظيف السياسي لقارة «العلوم والسلام»
منذ أوائل القرن العشرين وحتى خمسينيات القرن الماضي، ادَّعت سبع دول السيادة على القارة القطبية الجنوبية، وهم: الأرجنتين وأستراليا وتشيلي وفرنسا ونيوزيلندا والنرويج والمملكة المتحدة، ولم تُحسَم هذه الادعاءات إلا بإقرار «معاهدة أنتاركتيكا».
وجرى التوقيع على «معاهدة أنتاركتيكا» في واشنطن في الأول من ديسمبر (كانون الثاني) عام 1959، وذلك من قِبل 12 دولة كانت نشطة حينئذ في القارة الجنوبية، وهي: الأرجنتين، وأستراليا، وبلجيكا، وتشيلي، وفرنسا، واليابان، ونيوزيلندا، والنرويج، وجنوب أفريقيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا).
النشاط البحثي في أنتاركتيكا
واتفقت هذه الدول من خلال 14 مادة (تضمهم هذه المعاهدة) على التشاور بشأن أي نشاط يُمارس داخل القارة، مع الالتزام بألا تصبح مسرحًا أو موضوعًا للخلاف الدولي، وأن يجري استخدامها للأغراض السلمية فقط، وحظر كافة الأنشطة العسكرية (مثل إنشاء القواعد العسكرية أو اختبار الأسلحة)، مع ضمان حرية إجراء البحوث العلمية هناك.
وتضم المعاهدة حاليًا 54 دولة مُوقِعة، منهم 29 دولة تحمل صفة «مستشار»، لتصبح – منذ دخولها حيز التنفيذ في 23 يونيو (حزيران) 1961 – واحدة من أنجح الاتفاقات الدولية حتى الآن، وفق العديد من المحللين؛ إذ أصبحت «أنتاركتيكا» معملًا كبيرًا للعلماء من كافة أنحاء العالم، ولكن هل ستستمر المعاهدة في إبعاد الصراعات السياسية عن القارة الجنوبية؟
فوفق تأكيدات العلماء، تحتوي القارة على معادن وفحم وموارد نفطية، ولكن المتطلبات التكنولوجية للبحث عن هذه الموارد واستخراجها من الضخامة بحيث إنها تُبدد القيمة الاقتصادية للموارد المتوقع استخراجها، ولكن ماذا عن المستقبل؟ حينما تتقدم التكنولوجيا وتسد هذه الفجوة الاقتصادية، أو عندما يؤدي الاحتباس الحراري إلى ذوبان الثلج هناك، مما يُسهِّل عملية استخراج هذه الموارد؟ منْ سيكون له الحق في التنقيب عن هذه الموارد؟ وهل ستكون «معاهدة أنتاركتيكا» كافية للسيطرة على الوضع؟ وهل ستحترم الدول المعاهدة من الأساس؟ أم ستحاول تقويضها لتعظيم مكاسبها الذاتية؟
وتظهر ملامح مستقبل «أنتاركتيكا» حاليًا في ظل التنافس الناشئ بين القوى الكبرى على المناطق القطبية في العالم؛ إذ تشير دراسة حديثة منشورة في «MCU Journal»، إلى أن كلًّا من الصين وروسيا تسعيان إلى تعزيز نفوذهما في المناطق القطبية.
وتشير الدراسة إلى أنه بحلول عام 2030، سيكون المحيط القطبي الشمالي خاليًا من الجليد في أشهر الصيف، الأمر الذي سيسهل نقل الغاز الطبيعي المسال الروسي إلى الصين، وفي هذا السياق بنت بكين أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية في القطب الشمالي، ونشرت سربًا من الطائرات في القطب الجنوبي، وكذلك أعلنت عن تطلعها إلى تأسيس طريق «الحرير القطبي».
صحيحٌ أن أغلب الجهود الصينية والروسية، والجهود الأمريكية المضادة، التي لا يُسلَّط عليها الأضواء، تتركز في المنقطة القطبية الشمالية، لكن هناك مؤشرًا قويًّا على أن التنافس الدولي حول المناطق القطبية، ومنها قارة «أنتاركتيكا» قد بدأ، وربما لن تنجح معاهدات الماضي في إيقافه.
الطريق إلى «المستشار».. ماذا تريد أنقرة من «أنتاركتيكا»؟
في عام 1967، وصل بعض العلماء من أصل تركي إلى قارة أنتاركتيكا لأول مرة، وذلك بصفتهم الشخصية ضمن بعثات عملية استكشافية، وكان لهم إسهامات مهمة بالفعل، لدرجة إطلاق أسمائهم على بعض الأماكن الجغرافية في القارة.
أمَّا على المستوى الرسمي، فلم تكن القارة ضمن اهتمامات الدولة التركية حتى قررت الحكومة عام 1995، التوقيع على معاهدة «أنتاركتيكا»، رغم أنها لم تكن تملك حينئذ برنامجًا وطنيًّا لبحوث القطب الجنوبي، وبعد عقدين من الزمان، صدَّقت تركيا على بروتوكول حماية البيئة لمعاهدة «أنتاركتيكا» (بروتوكول مدريد) بوصفها خطوة تكميلية، وقدَّمت برنامجًا وطنيًّا للعلوم القطبية في عام 2017، وتعلق جزء من هذا البرنامج بتأسيس فريق البعثة العلمية التركية إلى القارة القطبية الجنوبية، وقام بتنظيم رحلات استكشافية إلى هناك، لتمهيد الطريق لتأسيس قاعدة بحثية دائمة لأنقرة في «أنتاركتيكا».
استشكاف الثروات في أنتاركتيكا
وفي 2019، أعلنت تركيا اتجاهها رسميًّا لتأسيس قاعدتها العلمية الدائمة في القطب الجنوبي؛ وذلك حتى تتمكن من تحويل عضويتها في معاهدة «أنتاركتيكا» من صفة «مراقب» إلى صفة «مستشار»، لتكون الدولة رقم 30 في هذا الإطار؛ حتى تتمكَّن من تثبيت أقدامها في القارة البيضاء.
وتعثرت الجهود التركية بسبب جائحة كورونا، ولكنها عادت نشطة مرة أخرى في عام 2021؛ إذ أشار وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، مصطفى ورانك، إلى أن بلاده أحرزت تقدمًا كبيرًا في الدراسات الخاصة بالقارة الجنوبية، وأن أنقرة نظَّمت بالفعل خمس رحلات علمية إلى هناك، وفي طريقها لتنظيم الرحلة السادسة في عام 2022، عن طريق فريق علمي يضم نحو 100 عالم تركي.
ووفقًا للمعهد القطبي التركي «TUBITAK MAM PRI»، المسئول عن وتشغيل «محطة أبحاث أنتاركتيكا التركية» وتشغيلها، فإن المحطة ستخضع للتشغيل التجريبي لمدة عامين خلال فصول الصيف، وبعد ذلك ستعمل على مدار العام، وستشمل مجالات بحوثها: علم المناخ والجليد، وعلوم الغلاف الجوي والفضاء، وعلوم الأحياء وعلوم الأرض، وتأثير الأنشطة البشرية في القارة القطبية الجنوبية.
أهداف الولوج التركي إلى القطب الجنوبي
تعرَّض البرنامج الوطني التركي في «أنتاركتيكا» لانتقادات داخلية شديدة؛ إذ كان يُنظر إليه على أنه مشاركة غير ضرورية ومُكلِّفة وتستهدف مكانًا بعيدًا جغرافيًّا عن الحدود التركية، وهو ما ردَّت عليه الحكومة برواية تُركِّز على مسئولية تركيا الحضارية التي تتحملها تجاه البشرية، بجانب وجود مصالح وطنية مباشرة من الوجود التركي في القارة القطبية الجنوبية.
كما يُظهر اهتمام تركيا بقارة «أنتاركتيكا» للعالم أن أنقرة عضو مسئول ولديه مخاوف حقيقية على مصير البشرية، ويجعلها جزءًا من المجتمع الدولي القادر على تقرير مصير ومستقبل القارة، وهو ما يُضيف بعدًا مهمًّا للمكانة الدولية التركية، وربما تتزايد أهمية هذا البعد مستقبلًا مع بروز أهمية القارة الجنوبية واشتداد الصراع الدولي حولها.
وفي النقاشات الإعلامية حول هذا الموضوع، كان يجري الرد على أي مُعارِض للجهود التركية في «أنتاركتيكا»، بأن هناك دول صغيرة (مثل التشيك وبيلاروسيا وأوكرانيا وبلغاريا) تمتلك قواعد بحثية بالفعل في القارة، وعدم وجود تركيا بين مصاف هذه الدول هو أمر لا يتناسب مع مكانتها الدولية «المُفترَضة»، وقد استخدمت الدولة صور العلم التركي المرفوع في القارة القطبية الجنوبية مصدرًا للفخر بهذا المشروع «الوطني».
وإلى جانب الدعاية الوطنية، التي يحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الاستفادة بها في معاركه السياسية المحلية، يبدو أن أردوغان يُدرِك الأهمية الآنية للقارة الجنوبية في الصراع الدولي، كما أن القارة ظهرت بوصفها ساحةً ضخمةً للموارد، ومسرحًا لصراع القوى الكبرى.
لذلك، يرى أردوغان أن تركيا يجب أن تكون واحدة من أعضاء نادي «أنتاركتيكا»؛ بما يسمح لها بحجز مكان متقدم في النخبة التي تضع قواعد إدارة صراعات المستقبل حول القارة، الأمر الذي يمنح السياسة الخارجية التركية مزيدًا من الوجاهة، ويمنحها مستقبلًا مزيدًا من النفوذ.