يبدو أن موجات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عربية حكمت عقودًا من الزمن كشفت من جهة أخرى عن مزيد من الضعف والوهن في المنظمة الإقليمية العريقة “الجامعة العربية”، التي وقفت كالمتفرج شاهدة على ما يجري في هذه الرقعة الجغرافية المسماة بـ”العالم العربي”، وفي أحسن الأحوال قامت بإيفاد مندوبين عنها كما حدث في الساحة السورية بالخصوص.
توجّس..

اجتماع قمة عربي سابق
موقف الجامعة العربية المتوجس من “الثورات” العربية التي جاء بها “الربيع العربي” بقدر ما أكد من جديد أن الجامعة العربية هي منتدى أو نادي للحكام العرب يجمعهم مرة في كل سنة، في إطار ما يسمى “اجتماع القمة العربية”، لم يستطع التحول إلى منظمة إقليمية تخدم سكان هذه الرقعة الجغرافية ذات القواسم المشتركة العديدة، كالثقافة واللغة والدين وغيرها، بقدر ما باتت أكثر من ذلك عائقًا أمام تطور الشعوب العربية نحو دول تسودها الديمقراطية ويحظى فيها الشعب بكامل حقوقه.
ولعل ذلك ما جعل واحدًا من الكتاب الغربيين كـ”كريس دويل”، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني (كابو)، يتحدث عن جامعة الدول العربية بقوله “إن هناك الكثيرين ممن يرون أنها لا علاقة لها (الجامعة) بالواقع؛ حيث إنها تعكس فقط أهواء الحكام وليس آراء الشعوب، وأنها لا تستهدف سوى الحفاظ على أوضاع ما بعد الاستعمار؛ فحتى القادة العرب لا يعبأون بها في الغالب”.
صحوة !

أمين عام الجامعة العربية يتحدث إلى وزير الخارجية القطري السابق
وحتى الذين يتحدثون عن أن الجامعة العربية ربما مثّلت بالنسبة إليها موجاتُ الربيع العربي مناسبة لـ”صحوة” وإن جاءت متأخرة، خاصة عندما أعطت الضوء الأخضر للحلف الأطلسي (ناتو) لفرض حظر جوي على الأجواء الليبية كتمهيد للثوار للانقضاض على القذافي ونظامه، وكذا على إثر الدور الذي قامت به فيما يتعلق بالوضع في سوريا وإلى حد ما في الساحة اليمنية، فإن هذه المواقف سرعان ما تراجعت إلى الوراء، خاصة بعد الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب ديمقراطيًّا، محمد مرسي، وبعد بروز قوى إقليمية خليجية بالتحديد، باتت مؤثرة بشكل كبير في “توجيه” هذه الجامعة العربية.
هذا عدا عن أن الوضع في ليبيا الذي جعل جامعة الدول العربية – وهي التي يرفض ميثاق تأسيسها أي تدخل أجنبي في الشأن الداخلي للدول الأعضاء – تعطي الإشارة لحلف الناتو بفرض حظر جوي على ليبيا وضرب قواعد النظام الليبي السابق، يختلف تماما عن الوضع في باقي الدول العرب التي تعرف “ثورات” وإن تعلق الأمر بالنظام السوري الذي تمادى في قتل شعبه، بحيث لا يخفى على أحد أن العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، كان “عدائيًّا” إزاء جل الحكام العرب الذين وإن كان غالبيتهم يظهر له الود فإنه كان يمثل لجُل هؤلاء الحكام كابوسًا مزعجًا ينبغي التخلص منه.
أية مبادئ؟

متظاهرون في ثورة 25 يناير المصرية
جامعة الدول العربية التي تأسست سنة 1945 – قبل تأسيس الأمم المتحدة بأشهر – رسمت منذ نشأتها مجموعة من الأهداف، منها التعزيز والتنسيق في البرامج السياسية والبرامج الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لأعضائها، والتوسط في حل النزاعات التي تنشأ بين دولها، أو النزاعات بين دولها وأطرافٍ ثالثة، وعلاوة على ذلك فإن دولها التي وقعت على “اتفاقِ الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي” في 13 أبريل 1950 ملزمة بتنسيق تدابير الدفاع العسكري، وهي الاتفاقية التي وقعت عليها كل الدول لاحقًا لكنها بقيت حبرًا على ورق ولم يتم تفعيلها.

زعماء عرب أطاحت بهم الثورات العربية الأخيرة
من بين أبرز المبادئ التي قامت عليها جامعة الدول العربية هناك عدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء، والمتتبع على الأقل لما جرى ما بعد انطلاق الربيع العربي، يرى بدون عناء كبير، أن التدخل والتحريض على العنف لأجل الإطاحة ببعض الأنظمة العربية بات هو المحرك الأساسي لسياسات عدد من الدول الأعضاء، بل إن تأثير بعض هذه الدول، ولاسيما منها تلك التي تعتبر من الداعمين الأساسيين لها، بدا واضحًا من خلال حض باقي الدول الأعضاء على سحب عضوية هذا البلد أو ذاك، تمامًا كما جرى مع النظامين الليبي والسوري.
تعامل بمعيارين !
في هذا السياق يرى بعض المتتبعين أنه وإن كانت هناك مبررات موضوعية سواء بالنسبة لتجميد عضوية النظام الليبي السابق، أو تعليق عضوية النظام السوري لاحقًا، تتعلق بارتكاب جرائم ضد المدنيين فإنه كان الأنسب للجامعة العربية أن تفعل الشيء نفسه مع السلطات المصرية الحالية، التي جاءت على أنقاض “مجازر” مهما اختلفت الأرقام بشأن عدد ضحاياها، إلا أن كل ذلك كان موضوع تقارير تنديدية لمنظمات إقليمية وحقوقية؛ وكمثال لتلك المنظمات هناك “الاتحاد الإفريقي” الذي كان واضحًا في توصيفه لما حدث بمصر بأنه “انقلاب” بل ذهب إلى حد تعليق عضوية جمهورية مصر في الاتحاد بالرغم من أنها تعتبر أحد المؤسسين لهذه المنظمة.
أمين الجامعة مع وزير الخارجية السعودي
موقف جامعة الدول العربية “الصّامِت” مما جرى ويجري في مصر جعل كثيرين يقارنون بين زماننا الحالي، وبين الأمس القريب، حين اتفق العرب جميعهم داخل هذا “التكتل” الإقليمي على قرار تجميد عضوية مصر مباشرة بعد توقيع الأخيرة لمعاهدة سلام مع إسرائيل، بل وتم نقل المقر الدائم للجامعة من القاهرة إلى تونس (1979 إلى 1990)، عقابًا لهذه الدولة التي رأى نظامُها السياسي حينئذ مصلحة بلاده وشعبه في توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، مع أن توقيع الاتفاقيات الدولية يبقى أحد الرموز السيادية للدول كما ينص على ذلك ميثاق الجامعة نفسه وكل المواثيق الدولية، ولكن هذه الجامعة رأت أنه لا ضير اليوم من أن لا تعترض على ما جرى في مصر، بل تركت دولا أعضاء نافذة في المنظمة الإقليمية – كالسعودية والإمارات العربية وإلى حد ما قطر ودول أخرى – تتحكم في مصير هذه الدولة أو تلك، تحت غطاءات وشعارات مختلفة من مثل رفض “الإرهاب” وتجريمه !
الأمين العام نبيل العربي
إذا كان المتشائمون اليوم يرددون أن جامعة الدول العربية التي لم تستطع تغيير جلدها وثوبها ليصبح ملائمًا مع مستجدات عصرنا الحالي، تعتبر في عداد الموتى وإكرامها دفنها والبحث عن إطارات وتكتلات أخرى بديلة ولتبقى عربية لكن بصيغة أكثر فاعلية ونجاعة، إلا أن هناك من يرى أنه لا بد من أخذ المبادرة وتدارك ما فات من وقت لإعطاء جرعة أخرى أكثر قوة وحيوية لهذا التكتل الإقليمي، وربما الفرصة اليوم مناسبة أكثر من أي وقت مضى لانطلاقة جديدة للدول العربية، مستفيدة من إمكاناتها الطبيعية الغنية، ومن كتلة سكانية تتجاوز 350 مليون نسمة (الرابعة عالميًّا بعد كل من الصين والهند والاتحاد الأوروبي)، ورقعة جغرافية هي الثانية عالميًّا بعد روسيا.