يتمتعُ السودان بالموارد الطبيعية، مثل البترول والغاز الطبيعي، ويمتلكُ أراض زراعية ضخمة، وتمثلُ الزراعة 80% من نشاط سكانه، حتى أطلق عليه «سلة غذاء» العالم، إلى جانب ثروة حيوانية وسمكية ومعدنية، ويُعد البلد الأول في إنتاج الصمغ العربي.
بيْد أن الاقتصاد السوداني غرق في أزمة عميقة، منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، في 11 أبريل (نيسان) 2019، ما يضع البلاد بين مطرقة الاضطرابات الاجتماعية وسندان الانهيار الاقتصادي.
صورة قاتمة داخليًا وخارجيًا.. كيف وصل السودان إلى الوضع الحالي؟
على الصعيد الداخلي، يرى ريتشارد كوكيت الكاتب المتخصص في الشأن الأفريقي في مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، في كتابه «السودان: فشل وانقسام دولة أفريقية»، الصادر في طبعته الأولى عام 2010، أن تقسيم السودان وانفصاله إلى شمال وجنوب، يُكبد الخرطوم خسائر كبيرةً في موارده الاقتصادية، بجانب ما ستجلبه العمليات العسكرية في إقليم دارفور، من عرقلة التنقيب عن آبار النفط والذهب، وفقدان أراض صالحة للزراعة.
وعلى الصعيد الدُولي، ولسنوات عديدة، ساهمت العقوبات الأمريكية «الأكثر إيلامًا»، على السودان، منذ فرضها عام 1997 – بذريعة رعايتها للإرهاب – في تعميق أزمة الاقتصاد، فعُزلت السودان عن النظام الاقتصادي العالمي، ومؤسساته المالية؛ بعدما تجنبت الشركات متعددة الجنسيات الاستثمار هناك، خوفًا من إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية. ونتيجة لذلك؛ توقفت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولم تتمكن البنوك السودانية من التعامل بالدولار الأمريكي.
في خضم ذلك كله، تعرض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقترحًا يُوصي بدفع السودان – المنكوب بالفقر – تعويضات تُقدر بـ330 مليون دولار للضحايا الأمريكيين لتنظيم القاعدة؛ مقابل شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ومن المفارقات، أن إدراج السودان ضمن قوائم الإرهاب، يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من التصويت لصالح الإعفاء من الديون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والقروض والتمويلات المتعددة الأطراف، لكنه لا يمنع أي دولة أو مجموعة دول أخرى من تقديم مساعدة أو الإعفاء من الديون.
وافتراضًا؛ إذا رُفع تصنيف الإرهاب، فإن سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن المتأخرات ستظل تحول دون إقراض السودان. وإن كان الإدراج على قوائم الإرهاب يفرض قيودًا محددة على المساعدات الخارجية من الحكومة الأمريكية للسودان ويمنع تصدير بعض السلع الغذائية، فإن وزارة الخزانة الأمريكية أزالت تلك القيود – الأوسع نطاقًا – على الأعمال المصرفية والاستثمار، عندما رفعت الولايات المتحدة الأمريكية عقوباتها الشاملة ضد السودان في عام 2017.

رسم بياني يكشف معدل التضخم (أزرق) والناتج المحلي الإجمالي للسودان (أحمر)، منذ 1980 حتى 2020. المصدر: صندوق النقد الدولي.
ماذا تخبرنا الأرقام عن الاقتصاد السوداني؟
في 11 مارس (آذار) 2020، توقع صندوق النقد الدولي، في تقريره، انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للسودان بنسبة 2.5% في 2019، و1.2% في 2020، و0.6% في 2021، قبل أن ينمو بنسبة 0.4% في 2022.
وتوقع التقرير وصول معدلات التضخم في السنوات نفسها إلى 51.3%، و66.4%، و74.8%، و80.2% على التوالي، وأن تبلغ الاحتياطيات الأجنبية للسودان 1.7 مليار دولار في 2019، وأن تنخفض قليلًا إلى 1.5 مليار دولار في 2020.
ويُقدر الدين الخارجي للسودان بنحو 57.5 مليار دولار في عام 2020، بعدما كان 56.3 مليار دولار في 2019. وقدر البنك احتياطي العملات الأجنبية بـ1.1 مليار دولار في 2020، و1.2 مليار دولار في 2019، و900 مليون دولار في 2018، و700 مليون دولار في 2017.
وعلى الرغم من مساعدات دول الخليج – تحديدًا السعودية والإمارات – للسودان، بما قيمته 3.5 مليار دولار (2.65 مليار جنيه إسترليني)، من النقد والسلع، في أبريل 2019، لم يكن ذلك كافيًا أبدًا، نظرًا إلى حجم الأزمة، كما أن تلك المساعدات آخذة في النفاد.
تهيئة الأرض قبل زرع البذور.. خطوات تمهيدية لإصلاح الاقتصاد السوداني
في ظل ما يعانيه الاقتصاد السوداني من تدهور، لا زال البلد، رغم نكباته، يمتلك إمكانات تؤهله للمضي قدمًا تجاه الإصلاح الاقتصادي. وقد خلص المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس» إلى توصيات عدة، أفردها في دراسة بحثية، خلال انعقاد مؤتمر «نحو نمو اقتصادي شامل في السودان»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2019؛ لانتشال السودان من كبوته الاقتصادية.
بحسب الدراسة البحثية الصادرة عن المؤتمر، يحتاج السودان كي يحقق نموًا اقتصاديًا ناجحًا إلى: تهيئة بيئة مواتية للإصلاح، وصياغة عقد اجتماعي جديد، وسلام شامل وعادل، والبدء في إصلاحات الحوكمة التي تُعطي أولوية للمشاركة السياسية، واحترام حقوق الإنسان، وزيادة المساءلة والشفافية العامة، وتعزيز جهود مكافحة الفساد.
ويجب أن تتمتع المؤسسات العامة، مثل البنك المركزي والقضاء، باستقلالها المنصوص عليه في القانون. ولضمان قدر أكبر من الشفافية والمساءلة العامة، ينبغي تكليف وزارة المالية السودانية بتنسيق ميزانيات جميع الوزارات الأخرى، وأن يكون لها الإشراف الأكبر على المجموعة الاقتصادية للوزارات.
لقطات من اللقاء الذي عقدته «تشاتام هاوس».
وتوصي الدراسة البحثية، بوضع استراتيجية شاملة لتطوير القطاعات الإنتاجية للسودان؛ لتغدو عوامل دفع للنمو، لا سيما من خلال الصناعات الزراعية، والبدء في حساب عائدات إنتاج النفط والذهب وإضفاء الطابع الرسمي عليها، وكذلك التخطيط الدقيق قبل إنشاء صندوق للثروة السيادية؛ بما يضمن إعادة استثمار الإيرادات الكافية، من الموارد الوطنية، في البنية التحتية، والخدمات، وتوفير الرعاية الاجتماعية.
وعن النظام المصرفي للسودان، يقترح مساعد محافظ بنك السودان المركزي الأسبق محمد أحمد بشري، وضع حزمة متكاملة من السياسات والإجراءات التي تضمن استعادة ثقة الجمهور للمصارف، وبذل الجهود لعودة العلاقات المصرفية الدولية، والبدء في دعم مؤسسات التمويل الأصغر لتوفير رأس المال للمجتمعات الريفية وتوفير فروع متحركة.
روشتة علاج.. كيف يمكن انتشال الاقتصاد السوداني من كبوته؟
ثمة نزيف يُغرق الاقتصاد السوداني، كان التهريب أحد عوامله، طوال الحقبة الماضية، وخلف أضرارًا جمة، خلال 30 عامًا مضت، كما تسبب في عجز بميزان المدفوعات المترهل، وكان سببًا رئيسيًا في اندلاع الصراعات المتأججة بالسودان، نتيجة شح السلع الاستراتيجية، وارتفاع أسعار سلع الصادر، وعلى رأسها الذهب، الذي تنتج منه السودان سنويًا 200 طن تُقدر قيمته بـ8 مليار دولار، (يمكن بذلك المبلغ إنقاذ البلاد من شح السيولة النقدية) – بحسب الخبير الاقتصادي السوداني ومستشار المعادن السابق عبد الله الرمادي – الذي دعا إلى ضرورة إقفال منافذ التهريب للذهب والنفط، ضمن أولى خطوات الإصلاح الاقتصادي.
ويقترح عبد العظيم الأموي، الخبير المالي والاقتصادي، إنشاء بورصة للمعادن في السودان تنتج 50 طنًا من الذهب، بما سيوفر عائدات تصل إلى 1.6 مليار دولار سنويًا، وتتيح تداول شهادات وصكوك مالية، من 10 جرام إلى 1000 جرام؛ ولضمان عدم التلاعب فيها تنُقل ملكيتها عبر العقود الذكية «سمارت كونتراكتس».
ونتيجة لذلك؛ سيقل الطلب على الدولار الأمريكي في السوق السوداني، وستتوفر أدوات استشارية مضمونة للجمهور، تحتفظ بقيمة المعدن موردًا حيويًا داخل السودان، وتتمكن من السيطرة على تهريبه، وبالتالي تضمن للحكومة تدفقات مباشرة للنقد الأجنبي.
وتعد تحويلات المغتربين، أحد مصادر القوة في الاقتصاد السوداني، إذ بلغت بحسب تقديرات البنك الدولي 9.6 مليار دولار في 2003، من 6 ملايين مواطن سوداني مغترب (يمثلون 15% من عدد السكان)، بيْد أنها انخفضت إلى 2.17 مليار دولار في 2007، ثم إلى 2.9 مليار دولار في 2008، ثم 2.6 مليار في 2009، وإلى 2.2 مليار في 2010، بينما كانت تحويلات المغتربين السودانيين 1.2 مليار دولار في 2011، واستمر التراجع وبلغت 874 مليون دولار في 2012.
وعلى ذلك؛ يجب على الحكومة السودانية توفير نوافذ لاستثمار هذه التحويلات، ووضع سياسات تحفيزية لاستقطاب تحويلات المغتربين السودانيين، التي يمكن أن تغطي 40% من فاتورة الواردات السنوية للسودان.
وعلى المصارف السودانية أن تسعى إلى إعادة تأسيس علاقات مع جميع مصارف العالم؛ تمهيدًا لبدء أعمال في مجال التجارة الخارجية، وتلقي التحويلات إلى السودان، وتطبيق كل القوانين الدولية ذات الصلة، وتسهيل فتح فروع لمصارف عربية وأجنبية في السودان.

رسم بياني لتحويلات المغتربين السودانيين منذ 1977 حتى 2019. المصدر: البنك الدولي.
وبحسب البنك المركزي السوداني، يبلغ السعر الرسمي للدولار الأمريكي 55 جنيهًا، وفي السوق السوداء (الموازية للسوق الرسمية) يتجاوز 100 جنيهًا لكل دولار، وبذلك يعد التشوه الذي طال سعر الصرف، سببًا في تدفق تحويلات العاملين السودانيين في الخارج عبر السوق السوداء.
ولهذا تحتاج الحكومة السودانية، إلى تحرير سعر الصرف لتحويلات المغتربين، حتى يصبح السعر الذي تشتري به المصارف تحويلات الخارج، منافسًا للسعر الذي تعرضه شبكة السوق الموازية؛ لتتلاشى الفجوة بين السعرين، ويستقر سعر الصرف.

رسم بياني لأسعار الصرف في البنوك السودانية والسوق السوداء، المصدر: صندوق النقد الدولي.
وبالنظر إلى الصمغ العربي، فإنه من أهم الوسائل الناجعة لإصلاح الاقتصاد السوداني.
كان السودان يُستحوذ على 80% من إنتاج الصمغ العربي عالميًا، غير أن التدهور في صادرات الصمغ السوداني، وآثار الجفاف (منتصف السبعينيات والثمانينيات)، وعدم الاستقرار السياسي، وإجراءات التسويق الضعيفة؛ كانت عوامل تسببت في ظهور دول أخرى منتجة للصمغ العربي مثل تشاد ونيجيريا، وتدنت حصة السودان في السوق العالمية، إلى أقل من 50% وكان معدل الانخفاض السنوي حوالي 2.2%.
وبحسب دراسة بحثية لتسويق الصمغ، أصدرها البنك الدولي، في ديسمبر (كانون الأول) 2009، يتوجب على الحكومة السودانية تغيير نظم التسويق، لتحسين معيشة صغار منتجي الصمغ، وتحسين الميزان التجاري للسودان؛ بما سيحقق أسعارًا عالية للمنتجين، تسهم في زيادة الإنتاج، ومن ثم زيادة العائد من القيمة المضافة من عمليات التصنيع الداخلي، ويُمكن إنشاء كيان لتسويق الصمغ – مستقلًا عن الحكومة – يُشرف على عطاءات تصدير الصمغ ويرعى أبحاث السوق، ويعمل جهة تصفية مسؤولة عن مزادات أسهم شركة الصمغ العربي في حالة حلها أو سحب امتيازها.
ويحتاج نظام الضرائب الحالي في السودان، إلى مراجعة شاملة لسد ثغراته، والسماح للحكومة بفرض الضرائب الصحيحة.
حاليًا، يلتزم صغار التجار فقط بدفع الضرائب كاملة، بينما تدفع الشركات الكبرى – عادةً – أقل من 25% من الضرائب المستحقة عليها، كما تضرر القطاع الزراعي من مختلف أنواع الضرائب، وخاصة الضرائب المحلية على أنظمة الري. وحتى يحدث ذلك، يجب تحصين العاملين في مجال الضرائب بالمزايا، من رواتب مجزية وحوافز؛ لتشجيعهم حتى لا يكونوا عرضة للإغراءات، مع إحكام التدقيق والمراجعة والمتابعة لكشف حالات التجاوز في الضرائب.
السودان بحاجة ماسة إلى إعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي. وبدون تدفقات النقد الأجنبي الوافدة على شكل استثمارات، ومساعدات تنموية، وتحويلات العمالة المغتربة، وبدون الوصول إلى علاقات ثنائية وأسواق دولية أوثق، يصعب توقع نهضة اقتصادية للاقتصاد السوداني المحاصر المنغلق.