إذا ثبت ضلوع السعودية في اختفاء أو مقتل خاشقجي سيكون ذلك فظيعًا.
كان هذا تصريحًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» مؤخرًا، حول اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والذي قتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول تحت التعذيب، وهو الأمر الذي قد تكون له تداعيات وعواقب وخيمة هائلة بالنسبة للسعوديّة، سواء على المستوى الإنساني والسياسي أو حتى الاقتصادي، فقد تشكّل هذه الحادثة نقطة تحوّل سلبية كبيرة في اقتصاد المملكة العربية السعودية.
وحتى الآن تصرّ السعودية على نفي أيّ دور لها في مقتل خاشقجي، بالرغم من التصريحات من الجانب التركيّ التي تؤكّد تورّطها، وقد يكون من الصعب على المملكة إنكار ضلوعها في الأمر حال كشفت تركيا عن أدلة قوية تثبت عكس ما تنفيه السعودية. والسؤال الأهم الآن: كيف يمكن أن يتأثر الاقتصاد والاستثمارات العالميّة في السعودية من هذه الحادثة؟
قتلوه بدمٍ بارد.. ملف «ساسة بوست» عن مقتل جمال خاشقجي الذي هزّ العالم
اقتصاديًا يمكن القول إن الأمان والخوف، هما أهم المشاعر المتحكمة في تحرّكات الأسواق المالية العالمية، فكثيرًا ما يتسبب الخوف في كوارث اقتصادية كبيرة ويقود اقتصادات دول لأزمات مالية قد تستمر لسنوات، وعلى الجانب الآخر فإن الأمن والاستقرار وحده قد يكون أهم عنصر لجذب الاستثمارات والاستقرار الاقتصادي.
بالنسبة للسعودية، وخاصة في حال ثبوت الواقعة، فإن الخوف والقلق على المستوى الاقتصاديّ، سيكونان المحرّك الرئيسي لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب في تعاملهم مع المملكة، بالإضافة إلى الجانب الإنساني الذي قد يجبر كثيرًا من المؤسسات المالية على تجنب التعامل مع المملكة من أجل حفظ صورتها، إذ إنه سيؤثر على ربح هذه المؤسسات التي تبحث عن الربح في الأساس، ولكن ما هي الآثار الاقتصادية المتوقعة تحديدًا؟
النظام السعودي لا يمكن أن يكون شريكًا جديرًا بالثقة.
كانت هذه الكلمات التي نقلتها «واشنطن بوست» عن السيناتور تيم كين، إذ يحذّر العضو الديمقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي من أن العلاقات العسكرية والاقتصادية يمكن أن تتهدّد إذا ثبت أن السعودية قد قتلت خاشقجي، مشيرًا إلى أن هذا الأمر لا يقوم به إلا نظام متهوّر، ويجب فرض عقوبات من قبل الكونجرس بعيدًا عن موقف ترامب نفسه.
هل سيتأثر مصير «رؤية 2030»؟
في 25 أبريل (نيسان) 2016، أعلن الأمير محمد بن سلمان عن رؤية السعودية 2030، وهي خطّة تضمّ إصلاحات اقتصادية واسعة، بهدف جعل المملكة قوة استثمارية عالمية، دون الاعتماد على النفط محركًا رئيسيًّا للاقتصاد، ولكن هل يمكن أن تتأثر الرؤية بواقعة مقتل خاشقجي؟
في الواقع تمرّ رؤية ابن سلمان بفترة عصيبة، خاصة بعد فشل طرح 5% من عملاق النفط السعودي «أرامكو» للتداول، إذ إن هذا الطرح يعد هو الممول الرئيسي لرؤية 2030، لكن على الجانب الآخر فإن عدم الاستقرار السياسي في المملكة -وهو الأمر الذي قد يحدث بسبب حادثة خاشقجي- سيؤثر بشكل مباشر على مصير الرؤية التي يعتمد جزء كبير منها على العلاقات الخارجية سواء السياسية أو الاقتصادية.
ولعل أبرز أشكال التهديد المباشر هو ما كشفه رجل الأعمال البريطاني ريتشارد برانسون ورئيس مجموعة «فيرجن» لصحيفة «فايننشال تايمز» من وقف محادثات مع صندوق الاستثمارات العامّة السعودي باستثمار مزمع قيمته مليار دولار، بينما علّق مشاركته في مجلسيْن استشارييْن بعد اختفاء خاشقجي، وهو الأمر الذي يعد تهديدًا مباشرًا لرؤية 2030، إذ إن صندوق الاستثمارات هو الممول الحالي للإصلاحات الاقتصاديّة السعودية.
على الجانب الآخر وعلى مستوى أحد أكبر الاستثمارات لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو مشروع المنطقة الاقتصادية الضخمة بقيمة 500 مليار دولار المعروفة باسم «نيوم»، والتي تمتد إلى الأردن ومصر وتم الإعلان عنها في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، نال المشروع هو الآخر جانبًا من التهديد، وذلك بعد أن قرر وزير الطاقة الأمريكي السابق إرنست مونيز، تعليق دوره الاستشاري في المشروع لحين معرفة مزيد من المعلومات عن خاشقجي.
ويعد مونيز واحدًا من 18 شخصًا يشرفون على مدينة أحلام ابن سلمان، ومن المتوقع حال ثبوت تورط المملكة في مقتل خاشقجي، فإن المزيد من الأشخاص قد ينسحبون من العمل مع المملكة على المشروع، خاصة أن الأمر يثير ضجة إعلامية كبيرة دفع مجموعة «هاربور» التي كانت تحصل على 80 ألف دولار شهريًا مقابل تقديم خدمات استشارية للسعودية، لإنهاء عقدها مع المملكة، بحسب ما أعلن ريتشارد مينتز المدير الإداري للشركة الأمريكية.
ومن جانبه أعلن رئيس شركة «واي كومبيناتور» الأمريكية، سام ألتمان، تعليق مشاركة الشركة في المجلس الاستشاري لمشروع «نيوم»، إذ تعد الشركة واحدة من أبرز شركات تمويل وتسريع نمو الأعمال الناشئة، إذ أكد ألتمان أن مشاركة الشركة معلقة حتى معرفة الحقائق المتعلقة باختفاء خاشقجي.
بينما تشير مصادر صحفية أن عددًا آخر من المستثمرين الأمريكيين المشاركين في مشاريع مع السعودية، يقيّمون ما إذا كانوا سيستمرون في العمل لمصلحة الحكومة أم لا خلال الفترة القادمة، لكن الجميع في انتظار نتائج التحقيقات، وفي حال خرجت إدانة رسمية فإن رؤية ابن سلمان ستواجه صعوابات قد تصل إلى الفشل الكامل.
مترجم: الأمر ليس أموالًا فقط.. ما الذي يجب أن تغيره السعودية لإنجاح «نيوم»؟
الاستثمارات الأجنبية قد تتلقى الضربة الأكبر
كما ذكرنا فإن الخوف هو محرّك رئيسي للمال حول العالم، لكن عندما تجتمع المخاوف مع فقدان الثقة والسمعة السيئة –وهي العوامل التي قد تتحقّق حال إدنة الرياض بالجريمة- فإن هذا المناخ سيكون طاردًا بشكل مباشر للاستثمارات، وبما أنّ المملكة تمرّ ربما بإحدى أسوأ فتراتها من حيث الاستثمارات الأجنبية، فإن احتمالية عزوف المستثمرين عن السعودية أمر وارد للغاية خلال الفترة القادمة.
وفي يونيو (حزيران) 2018 كشفت بيانات صادرة عن «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الجديدة في السعودية إلى أدنى مستوياتها في 14 عامًا، إذ انكمشت تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.4 مليار دولار في 2017 مقارنة بـ 7.5 مليار دولار في 2016. هذا الأمر جاء على عكس دول الخليج، فقد زاد الاستثمار الأجنبي المباشر في الإمارات، وقطر، وسلطنة عمان، التي لا يزيد حجم اقتصادها على عُشر حجم الاقتصاد السعودي.
وبسبب اختفاء خاشقجي، فقد أعلنت شركات إعلامية عالميّة، مؤخرًا أنها ستقاطع مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، إذ قالت لورين هاكيت المتحدثة باسم رئيسة تحرير صحيفة «إيكونومست»، زاني مينتون بيدوس، إن بيدوس لن تشارك بالمؤتمر الذي سينعقد خلال الفترة 23-25 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري في مدينة الرياض، تحت رعاية الملك سلمان ورئاسة الأمير محمد بن سلمان.
ومن جانبه أعلن أندرو روس سوركين الصحفي الاقتصادي بـ«نيويورك تايمز»، عن عدم حضوره المؤتمر قائلًا إنه «يشعر باستياء شديد من اختفاء خاشقجي»، وذلك في الوقت ذاته الذي قررت الصحيفة الانسحاب من رعاية المؤتمر، بحسب إيلين ميرفي، المتحدثة باسم «نيويورك تايمز»، بينما سحبت صحيفة «فايننشال تايمز» مشاركتها في الحدث بوصفها شريكًا إعلاميًّا.
وفي السياق ذاته، وبسبب خاشقجي، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «أوبر تيكنولوجيز»، والرئيس التنفيذي لشركة «فياكوم» عدم حضور المؤتمر، بالإضافة إلى الملياردير ستيف كيس. وفي حال ظهور المزيد من الحقائق حول الحادثة قد ينسحب المزيد من نُخب الأعمال في العالم المقرر حضورهم، ومنهم كبار مستثمري وول ستريت ورؤساء شركات متعددة الجنسيات في مجالات الإعلام والتكنولوجيا والخدمات المالية.
أشعر بالفزع.
هكذا قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد اليوم عن حادثة اغتيال خاشقجي، إلا أنها لم تُلغ خططها لحضور المؤتمر السعودي، مضيفة أنها ستترقب بشدة أي معلومات جديدة عن اختفاء خاشقجي، وهو نفس موقف وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين، لكن رئيس البنك الدولي اتخذ موقفًا مختلفًا إذ قرر أنه لن يشارك بالمؤتمر، وهو نفس قرار شبكة «سي إن إن» التلفزيونية، وكذلك «بلومبيرج» التي أكدت أنها لم تعد شريكًا إعلاميًا بالمؤتمر.
هذه المؤشرات قد تعني أن السعودية لن تنجح على الأرجح في إنعاش قطاع الاستثمارات الأجنبية، والذي سيكون أحد أكبر القطاعات التي ستتضرر من أزمة خاشقجي، بينما من الصعب أن تصل السعودية التي تستهدف خططها زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 18.7 مليار دولار بحلول 2020 للمساهمة في تنويع موارد الاقتصاد إلى هذا الرقم في ظل هذه الأوضاع، خاصة بالنظر إلى التدنّي الكبير في الاستثمارات العام الماضي.
وقد تعصف الأزمة بمحاولات الإصلاح الهادفة لجذب الاستثمار، مثل قوانين الشركات والإفلاس الجديدة، ومساعي تبسيط الإجراءات الإدارية المعقدة والتي قلصت الوقت اللازم لتسجيل الشركات الجديدة، كما أنّه لا تزال هناك شكوك بشأن النظام التشريعي، سُلط الضوء عليها بعد احتجاز رجال أعمال ومسؤولين سعوديين كبار فيما سُمّي «حملة على الفساد» العام الماضي، وهو الأمر الذي قد يجعل المملكة مكانًا مُرعبًا بالنسبة للمستثمرين.
على خلاف ما قد يعتقد ابن سلمان.. هذا ما ستخسره السعودية جراء اختفاء خاشقجي
العلاقات الاقتصادية مع تركيا.. انتعاش قد لا يدوم
على مدار السنوات القليلة الماضية، شهدت العلاقات الاقتصادية السعودية التركية انتعاشًا ملحوظًا، إلّا أن هذا الانتعاش قد لا يستمر في حال ثبت تورط المملكة رسميًا في مقتل أو اختفاء خاشقجي، وتتنوّع العلاقات ما بين تبادل تجاري بينهما يقترب من 9 مليارات دولار، بالإضافة إلى تدفق الاستثمارات البَينية، بجانب قطاع السياحة والعقارات، والعمالة التركية التي تدخل السوق السعودية.
هذه العلاقات كانت في انتعاش كبير خلال الفترة ما قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو (تموز) 2016، والأزمة الخليجية التي نشبت في يونيو (حزيران) 2017، إذ تباينت المواقف السياسية من الجانبين بشأن هذه الأحداث، فالرياض لم تظهر موقفًا قويًا وقت محاولة الانقلاب، بينما تدعم أنقرة قطر في الأزمة الخليجية بشكل مباشر، وهو الأمر الذي صنع شيئًا من الفتور في العلاقات السياسية.
إلا أن الأمر حاليًا مختلف كثيرًا، إذ يتوقع محللون أن تتأثر العلاقات بين البلدين بسبب خاشقجي بشدّة، وذلك في ظل مساعي البلدين إلى رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 10 مليارات دولار خلال السنوات المقبلة.
ووصل عدد الشركات السعودية في تركيا إلى نحو ألف شركة، بينما تقدر الاستثمارات بأكثر من 11 مليار دولار، وتتركّز في قطاع العقارات بشكل خاص، إذ يملك المستثمرون السعوديون في تركيا نصيب الأسد من حصص الأجانب في القطاع العقاري التركي، وعلى الجانب الآخر بلغ عدد الشركات التركية في السعودية نحو 200 شركة حتى العام 2016 بحجم استثمار قدره 642 مليون دولار، ويعمل حوالي 100 ألف تركي في السعودية في مجالات الطب والديكور والمطاعم.
وعلى الجانب السياحي تعدّ أنقرة إحدى أكثر الوجهات المفضلة للسعوديين، إذ زاد عدد السياح السعوديين الوافدين إلى تركيا 35% في أول ستّة أشهر من 2018، وذلك بعد أن وصل عددهم إلى 620 ألف سائح العام الماضي، لكنّ نمو هذه النسب وتطور العلاقات بين البلدين بات يواجه حاليًا تحديًا كبيرًا في ظل أزمة خاشقجي، وهذه الأمر متوقف على التعامل الرسمي مع الأزمة والذي لم يظهر حتى الآن.
هل ستتأثر خطط السعودية للاقتراض؟
بالنظر إلى التعامل الإعلامي العالمي مع أزمة خاشقجي، من الصعب أن تعلن البنوك العالمية الكبرى عن تعاونها مع الحكومة السعودية في الوقت الحالي، وهو الأمر الذي سيكون فيه حرص أكبر في حال ثبت تورط السعودية رسميًا في مقتل خاشقجي، وذلك يأتي في وقت تسعى فيه المملكة لتوسيع تعاملها مع أسواق السندات العالمية، وهي استراتيجية تسعى المملكة للاعتماد عليها في طريقها لتنويع الاقتصاد.
وفي سبتمبر (أيلول) أعلن صندوق الاستثمارات العامة السعودي أنه حصل على قرض دولي مجمع بقيمة 11 مليار دولار، وهو أول قرض تجاري لصندوق الثروة السيادي الرئيسي في المملكة، كما أنه الخطوة الأولى لدمج القروض وأدوات الدين في تمويل الصندوق. هذه القروض حصل عليها الصندوق بأسعار فائدة منخفضة وذلك بسبب سمعة المملكة المميزة حينها، لكن من الصعب أن تسير الأمور بنفس السلاسة في المستقبل القريب.
وكانت مصادر قد كشفت في يوليو (تموز) الماضي عن أن الشركة السعودية للكهرباء (حكومية) تجري مباحثات مع مجموعة من البنوك العالمية بشأن خطتها لإصدار سندات مقوّمة بالدولار، بقيمة تصل إلى 2.6 مليار دولار، فهل ستعرقل الأزمة الحالية هذه إصدار هذه السندات؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.