حاول جاك أتالي، من خلال كتابه «قصة موجزة عن المستقبل»؛ التنبؤ بالمستقبل، وذلك بعد سرد قصة بدء الكون، وتشابكه وانعقاده، وتحلله لأكثر من مرة، وسرد كيف ستحل التعاقدات محل القوانين، والتحكيم محل القضاء، والمرتزقة محل البوليس، وشركات التأمين محل الدولة.
إذ يروي أتالي، قصة الخمسين عامًا القادمة، كما يمكن لنا أن نتخيلها، اعتمادًا على ما نعرفه اليوم من تاريخ ومن علوم، فهو يكشف الطريقة التي ستتطور بها الصلات بين الأمم، والتي ستخضع لتغيرات ديموغرافية وتحركات سكانية وتعديلات في العمل، وإمكانية القضاء على الفقر، واستمتاع الفرد بخيرات التكنولوجيا.
وجاك أتالي، كاتب وباحث وروائي فرنسي، حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد، عمل أستاذًا للاقتصاد قبل أن يصبح مستشارًا للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران لما يقرب من 20 عامًا، وألّف أكثر من 45 عملًا في الاقتصاد، والسياسة، والأدب والفن، وتُرجمت كتبه لأكثر من 20 لغة.
خطوط عريضة من تاريخ بالغ الطول
يحكم الإنسان ثلاث سلطات منذ بدء الخلق: السلطة الدينية، والسلطة العسكرية، والسلطة التجارية، وبالتناوب تحكمت كل واحدة من السلطات في الثروات. لذا يمكن فهم تاريخ الإنسانية كتسلسل للأنظمة السياسية الثلاثة الكبرى، أي النظام الشعائري حيث السلطة دينية في الأساس، والنظام الإمبريالي، حيث السلطة عسكرية قبل كل شيء، ثم السلطة التجارية، حيث المجموعة المهيمنة هي المتحكمة في الاقتصاد.
انبثقت الحياة في المحيطات منذ 3.8 مليار سنة، ومنذ 350 مليون سنة ظهرت على الأرض: ومنذ 7 ملايين سنة، وطبقًا لأحدث الاكتشافات نزل الإنسان البدائي من فوق الأشجار واستقام على ساقيه، وبقي من البدائيين فقط الأكثر تأقلمًا على الترحال والصيد. ومنذ 1.5 مليون سنة، وفي غرب أفريقيا، اكتسب البدائي أول مبادئ التعبير بالكلام.
ومنذ حوالي 160 ألف عام، في أفريقيا، ظهر الرجل الحديث الأول، كنتاج جسدي وعقلي لضرورات البداوة، ومعه كانت بداية تبادل الأشياء، والنساء، والسجناء، أي الأسواق الأولى وبداية العبودية، والحلم بفكرة غيبية مثالية يلتقي فيها بمن ماتوا من الأجداد، وحينئذ ظهرت فكرة قوة عليا حيوية لإله واحد في البدء، فشرع المحرمات، وتحكم في العنف، حتى ظهرت الإمبراطوريات الأولى منذ 6 آلاف سنة، ومحي المقدس أمام القوة، والديني أمام العسكري.
وصار زعيم كل إمبراطورية هو ذاته أميرًا ورجل دين، وقائد حرب، والمتحكم في المال والأرض والقوة، أي الرجل الإله، ومعه ظهرت فكرة الفردية، ومن ديكتاتوريته برز حلم الحرية، في هذه المرحلة في أنحاء الكوكب، حتى تجاورت أكثر من 50 إمبراطورية تتطاحن للسيطرة بعضها على بعض، وأصبح من الصعوبة إدارة مجموعات أكثر اتساعًا، وبدأ النظام الإمبراطوري نفسه في فقدان معناه، إذ إن القوة لم تعد تكفي، فقد عرفت القبائل الإله الواحد فاستقرت لتتودد له وتتقرب له بأجدادهم الموتى شفعاء لهم عند الرب، وكانت التجارة والمال أفضل سلاح لهم، فكانت أول مجتمعات تبلور فكرة الحرية، وهو ما ظهر بعد ذلك في ديمقراطية السوق، والنظام التجاري الحر.
نهاية الإمبراطورية الأمريكية
بحسب أتالي، فهنا تبدأ قصة المستقبل غير المتوقع بصفة مبدئية، فالعديد من المعايير قد تؤثر على مساره، والعديد من المصادفات يمكنها تحويل واقعة محلية إلى واقعة عالمية سعيدة أو سيئة؛ فانتخاب دونالد ترامب كان صدفة، ولكن هل ستخرج منها أمريكا كما دخلت؟ وهل سينضب البترول بعد 20 عامًا أم 50؟ وهل سيصل إلى العالم العربي يومًا ما نظام ديمقراطي على نمط الغرب؟ وهل ستؤدي عملية إرهابية إلى سقوط حكومة في الغرب؟ أم ستؤدي إلى وضع نظم بوليسية متسلطة؟وهل ستصبح الأديان متسامحة؟ وهل يسوء الطقس لدرجة عدم إمكانية الحياة على كوكب الأرض؟ وهل ستقوم حرب دينية بين الإسلام والمسيحية؟ وهل ستظهر أشكال جديدة لعلاقات الحب والجنس تؤدي إلى انقلاب أخلاقي؟
كان للكاتب رأي هو أن التاريخ الطويل رضخ حتى الآن لبعض القواعد البسيطة؛ فمنذ ظهور الديمقراطية والسوق، ذهب التطور في اتجاه واحد من قرن لآخر، آخذًا في تعميم الحرية السياسية، وتوجيه الرغبات نحو تعبيرها التجاري. وكل إجابة عن هذه الأسئلة السابقة – وعن كثير غيرها- ستقوم بتوجيه عقود قادمة في اتجاه الأسوأ أو الأفضل، إذ إن كل تحرك سيؤدي إلى إعادة تغيير وجه العالم.
فمن الواضح صعوبة وضع تاريخ أكثر دقة لنهاية الإمبراطورية الأمريكية، فلم تسيطر الولايات المتحدة أبدًا على العالم بالرغم من هذا الكم العسكري، والسياسي، والاقتصادي، ولا الثقافي، أو حتى السكاني، فما زالت ثالث أكبر دولة سكانيًّا في العالم.
إلا أن التاريخ يعلمنا أن عمر الإمبراطوريات يزداد قصرًا؛ فالإمبراطورية الرومانية الشرقية دامت 1058 عامًا، والإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة 1006 أعوام، وإمبراطوريات الشرق 400 عام لكل منها، والإمبراطوريات الصينية أقل من ثلاثة قرون، والإمبراطوريات الفارسية، والمغولية، والأوروبية بين اثنين وثلاثة قرون على الأكثر، والإمبراطورية الهولندية قرنين ونصف، والإمبراطورية البريطانية قرنًا واحدًا، والإمبراطورية السوفيتية 70 عامًا. والمحاولات اليابانية، والألمانية، والإيطالية، أقل من ذلك، لذا فإن الولايات المتحدة، الإمبراطورية التي تهيمن على العالم منذ 120 عامًا، أي مدة أطول من متوسط الإمبراطوريات الحديثة، سوف تكف قريبًا عن السيطرة على العالم.
قد يبدو هذا المنظور للكثيرين غير معقول، فما زال أغلبية الحكام الأمريكيين يظنون أن الإمبراطورية الأمريكية أبدية، وبالنسبة لهم أمريكا تعد ديمقراطية وليست إمبراطورية، تقع على عاتقها مهمة إنقاذ، على مستوى الإنسانية، ويتصرفون كما أن الوقت لا يستطيع إلا خدمة مصالحهم، وكما لو كانت أمريكا المعصومة ستظل متسيدة العالم لقرون قادمة.
المستقبل الجميل للصين
برأي الكاتب، سوف يستمر النمو العالمي على الإيقاع المتوسط الحالي 4% في العام، ما دام في الإمكان تأجيل كل مستقبل آخر، وفي عام 2025 إذا ما امتدت النزاعات الحالية نفسها، سيرتفع الدخل القومي العالمي إلى 80%، ويرتفع المتوسط لكل ساكن على الكوكب إلى النصف، وسيدخل جزء كبير من الفقراء في اقتصاد السوق كعمال ومستهلكين لمنتجات متوافقة مع قدراتهم، وسيمول المهاجرون بلادهم الأصلية، وستعمم القروض الصغيرة.
وحتى إذا كان نصف سكان العالم ما زالوا يعيشون بدولارين يوميًا عام 2025، فإن حصة سكان العالم المشتركة في اقتصاد السوق المفتوح سترتفع كثيرًا، وبالتوازي سيقوم هذا النمو الاقتصادي بمد حقل الديمقراطية، ولن يقاومه أي نظام استبدادي، مثل ما حدث مع الجنرال فرانكو، إلى الجنرال سوهارتو، وبينوشيه، حتى الجنرال ماركوس. فأغلب البلاد التي ليست ديمقراطيات سوق بعد «الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، باكستان، إيران» يمكن أن تصبح ديمقراطيات.
وبحسب الكاتب، ستكون الصين ثاني قوة اقتصادية في عام 2025، بعدد سكان يصل إلى 1.35 مليار فرد، وسيتخطى إجمالي الدخل القومي فيها الولايات المتحدة عام 2040، وسيدخل مئات الملايين من الصينيين إلى الطبقة الوسطى، وعشرات الملايين إلى الطبقة البرجوازية، وستحقق الصين فائضًا في ميزان رؤوس الأموال، وستستمر في تمويل عجز الولايات المتحدة، وكأن الدولتين قد تحالفا للأبد للحفاظ على النمو العالمي لصالحهما، في انتظار أن تشعرا بالقوة التي تمكنهما من التصارع.
وسيصبح الحزب الشيوعي الصيني أقل قدرة على تنظيم الحياة المدنية، لذا سيكون عليه أن يترك السلطة للمنتخبين في كل مدينة. وبدون إعادة تنظيم نفسه لن ينجح الحزب في حل المشاكل الضخمة الحالية، لأن 90% من الصينيين ليس لديهم اليوم معاش أو تأمين صحي، ونصف سكان المدن والريف لا يتمتعون برعاية صحية، ونصف 500 مدينة كبرى في الصين، ليس لديها مياه جارية أو نظام للتخلص من الفضلات، وعوائق اقتصادية، وكلها مهام شبه مستحيلة في ظل نظام الحزب الواحد.
ووفقًا للكاتب، ففي عام 2025 سينمحي -بشكل أو بآخر- الحزب الشيوعي الذي حكم منذ 76 عامًا «لم يبق حزب حاكم في العالم أكثر من 70 عامًا»، وستعم فوضى كبيرة لوقت ما، وقد تظهر ديمقراطية جديدة تشبه ديموقراطية 1912.
الوقت كالسيف.. حرفيًّا
يستطرد الكاتب فيذكر أنه سوف يزداد معدل سرعة الابتكار، إذ تنخفض الدورة بين الفكرة والإنتاج، وتسويق المنتجات الغذائية والملابس من شهر إلى أربعة أيام، أما دورة إنتاج السيارات والأجهزة المنزلية التي انخفضت بالفعل من خمس سنوات إلى سنتين، فسوف تتقلص قريبًا لتصبح ستة أشهر؛ كما ستتقلص دورة إنتاج الأدوية من سبع سنوات إلى أربع.
وستقل أيضًا دورة عمر الماركات المطروحة في الأسواق، وسيتركز اهتمام المساهمين في الشركات الكبرى على المزايا التي يحصلون عليها منها، وسيتطلب ذلك من الشركات أن تقدم الحسابات للبنوك على فترات أكثر قصرًا، وسيحاسب رؤساء الشركات على معايير قصيرة المدى للربح، وسيظلون في مواقعهم ما داموا يواجهون متطلبات السوق المتقلب.
وستصبح المنافسة بين العاملين سواء في الشركات أو في البحث عن عمل أكثر قسوة، وستصبح المعرفة -أكثر من اليوم- فاعلًا مهمًّا، وبدون توقف سيتدرب الفرد حتى يظل قابلًا للعمل. سيكون من الصعب أكثر فأكثر التفرقة بين العمل والاستهلاك، والمواصلات والترفيه والتدريب، وسيلعب المستهلكون دورًا متناميًا في الحصول على السلع التي ستصنع تحت الطلب في تدفق ممتد، وسيظل المستهلكون هم الأسياد وستتقدم مصالحهم على مصالح العاملين.
سيغير أكثر من نصف العاملين مسكنهم كل خمس سنوات، أما أصحاب عملهم فسيغيرون مساكنهم بأسرع من ذلك. وسيمول سكان المدن المتطورة مسكنهم الرئيسي عن طريق ديون ارتهانية سهلة التحويل. وسيعيش المدنيون بعيدًا عن المراكز أكثر فأكثر؛ والأسرة التي تسكن داخل المدينة اليوم ستكون على بعد 40 كيلومترًا بعد 20 عامًا.
سيخلق الوضع شروط حياة مدنية أكثر انعزالًا، في شقق أكثر ضيقًا مع شركاء مؤقتين جنسيًّا وعاطفيًّا، وسيتملكهم الخوف من الارتباط، والهرب أمام العاطفة القوية، وستتملكهم اللامبالاة الظاهرية، وسوف يصبحون «أو أصبحوا بالفعل» أشكالًا للإغواء.
إن تمجيد الفرد، والجسم، والاستقلال، والفردية ستجعل من الأنا والذات قيمًا مطلقة، وستصبح الإثارة الجنسية حاجة مطلوبة بوضوح، كما سوف يسمح بأكثر أشكال الجنس اختلافًا، ما عدا جنس المحارم والأطفال والحيوانات، وسوف يخلق انتشار الترحال والمجتمعات الافتراضية فرصًا جديدة للتلاقي.
هل هناك أشياء يجب عليك فعلها قبل أن تموت؟ ليس لديك وقت!
ظهرت بالفعل فكرة «أشياء يجب أن تفعلها قبل أن تموت»، وقوبلت الفكرة في البداية ببعض الاستغراب والوحشة، ولكن -برأي أتالي- في المستقبل سيدرك الكثيرون عدم وجود وقت كاف لقراءة كل شيء، وسماع كل شيء، ورؤية كل شيء، وزيارة كل شيء، وتعلم كل شيء، بما أن المعرفة المتاحة تتضاعف بالفعل كل سبع سنوات، وستتضاعف كل 72 يومًا عام 2030، لذا سيزداد بالمقدار نفسه، الوقت اللازم للوقوف على المعلومة، لنتعلم ونتغير، ونصبح صالحين للعمل، وسينطبق ذلك على الوقت اللازم للعلاج والوقاية، في حين لن يتغير الوقت اللازم للحب والنوم.
ولتذليل هذه العقبة التي تحد من الاستهلاك، بدأ النظام التجاري في الحث على تخزين البضائع الملتهمة للوقت -كتب، اسطوانات، أفلام- بطريقة مادية ثم اليوم بطريقة افتراضية، أي تراكم غير محدود ووهمي بدون أي إمكانية لاستعماله، وكأن هذا التخزين يستعمل في إيهام كل فرد أنه لا يجب أن يموت بدون قراءة كل هذه الكتب، وسماع كل تلك النغمات ومعايشة هذا الوقت المخزون هباء.
أما الأعمال الفنية المستقبلية فستدور مواضيعها من جهة أخرى حول موضوع الوقت الذي أصبح فكرة ملحة، وسنكون قد أدركنا أن الوقت، واقعيًّا، هو الحقيقة الوحيدة النادرة فعلًا، فلا أحد يستطيع إنتاجه، ولا أحد يستطيع بيع ما لديه منه، ولا أحد يستطيع إدخاره.
سنحاول بالتأكيد إنتاج بعض من الوقت بإطالة مدة الحياة البشرية، وسنراهن على مدة متوسطة هي 120 عامًا، وعلى وقت عمل 25 ساعة في الأسبوع، وللذهاب لأبعد من ذلك، يجب تخفيض الوقت المخصص لملء الوظائف المرتبطة بكل حياة، كالولادة، والنوم، والعلاج، والتعليم، والحب، والقرار، وسيكتشف الجميع حينئذ أن الحرية نفسها – الهدف الأسمى للإنسان منذ بداية النظام التجاري- ليست في الواقع سوى المظهر الوهمي لنزوة في داخل سجن الوقت، وستصبح الموسيقى أكثر فأكثر، المواساة الكبرى أمام الحزن، والوحدة، واليأس.
وداعًا للريف وجلباب أبي.. غدًا للمدن
سيصبح الإنسان المرتحل في المجتمعات الأولى مثل المواطن في ديمقراطيات السوق، لا يسري عليه أي عقد اجتماعي، وستحدث هجرات كثيفة من القرى إلى المدن، ومن البؤس الريفي إلى البؤس الحضري، ولن تستطيع أي سلطة سياسية، ولو كانت ديكتاتورية، أن تنجح في إبطاء هذه التحركات.
إذ إن هذه التحولات آتية من بعيد، ففي حين كان في العالم سنة 1950، 80 مدينة عدد سكانها مليون نسمة، وصل تعداد المدن إلى 550 مدينة سنة 2015، وفي سنة 2025 سيشمل الكوكب 30 مدينة بها أكثر من 10 ملايين نسمة، وسيعيش مليار ساكن في 50 مدينة آسيوية، لذا سيصبح من الضروري أن تزيد البنيات الأساسية إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف في 30 عامًا، الأمر الذي سيُكتشف عدم استحالته في أغلب الأحوال؛ فبعض المدن ستنجح في أن تجعل الحياة فيها ممكنة، وسوف تنجح المنتجات الرخيصة -مثل الأسمنت الرخيص- والتقنيات الجديدة في البناء والتمويل الصغير للمساكن بتحويل بعض من مدن الصفيح إلى سوق مربح جدًا للشركات التي تعرف كيف تستفيد منه.
ولن تكون المدن الكبيرة الجديدة سوى تكدس للمنازل المؤقتة، محرومة من الشرطة والمستشفيات، تحيط ببعض الأحياء الغنية التي تحولت إلى تحصينات يحميها المرتزقة، وستسيطر المافيا فيها على مساحات واسعة خارج القانون، كما هو الحال بالفعل في ريو وجلاس وكينشاسا ومانيلا وغيرها.
النفاد سُنة الاستخدام.. وسوء الاستخدام يُعجل به
في عام 2050 سيصل تعداد سكان الأرض، إذا لم تحدث كارثة هائلة، إلى 9.5 مليار نسمة، وفقًا لتقدير الكاتب، أي بزيادة 3 مليارات عن تعدادهم اليوم، كما سترتفع توقعات الأعمار بالنسبة للفرد في البلدان الغنية لما يقارب 100 عام للفرد، وسوف تركد معدلات الولادة في هذه البلدان إلى ما يقارب حدها الأدنى، وبالنتيجة سوف تشيخ الإنسانية.
ويمكن أن نُحصي زيادة 360 مليون نسمة إضافية بالصين، و600 مليون نسمة إضافية بالهند، وزيادة 100 مليون نسمة بنيجيريا وكذلك بنجلاديش، وزيادة 80 مليون نسمة بالولايات المتحدة، وزيادة 9 ملايين بفرنسا ونقص 10 ملايين عن الرقم الحالي بألمانيا، وربما نقص 30 مليونًا في روسيا.
وسوف يعيش ثُلثا سكان الكوكب بالمدن التي سيتضاعف عدد سكانها، وسيتوجب مضاعفة كمية الطاقة والمنتجات الزراعية الاستهلاكية، كما سيتضاعف عدد الأفراد في سن العمل، وسيولد ثُلثا الأطفال في هذا العام بالبلدان الأكثر فقرًا.
وحتى الآن؛ نجح النظام التجاري دائمًا في أن يُظهر في الوقت المناسب ما يحل محل المواد الأولية التي ندرت، وكان ثمن ذلك أحيانًا كثيرة عمليات عسكرية. هكذا تم على التوالي تخطي اختفاء الأراضي الزراعية في الفلاندر ببلجيكا، واختفاء فحم الخشب في بريطانيا، وزيت الحوت في الأطلنطي، وفحم الأرض في كل أوروبا. ولم يحدث غزو المدن بفضلات الأحصنة كما خاف الجميع في نهاية القرن الـ19.
أما الحديث عن نقص الطاقة، المعلن عنه منذ أكثر من قرن، فقد راح يخفت يومًا بعد يوم، ومع ذلك فمنذ بداية القرن 18 تضاعف استهلاك الموارد الطبيعية 30 مرة، كما تضاعف استهلاك الموارد المعدنية ثلاث مرات طوال الأربعين عامًا الأخيرة فقط.
وفيما يتعلق بالطاقة؛ فإن الأرقام أصبحت مقلقة، وطبقًا للإيقاع الحالي لنمو الاستهلاك، فلن يتعدى الاحتياطي استهلاك 230 سنة للفحم، و70 سنة للغاز، و50 سنة للبترول، وبالنسبة للبترول فإن نقص الاستثمارات قد يؤدي إلى قحط وارتفاع مهم في أسعاره، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا البترول الثقيل في فنزويلا، والرمال القارية، والطبقات القارية في كندا، وسوف تمثل الرمال القارية بمفردها كمية الطاقة نفسها التي يعطيها كل بترول السعودية، ولو أن استخراجها قد يسبب كارثة بيئية ويتطلب كميات كبيرة من الطاقة المساعدة في عمل الأنفاق على شاكلة مناجم الفحم، كما أنه يحتاج لكميات من الطاقة أكبر من التي تنفق فيما يستخرج على شكل بترول.
عالم نووي رغمًا عن الجميع
إذن فالوصول لطاقات أخرى سيصبح ضروريًّا تدريجيًّا. وحالما يكون تدوير المخلفات المشعة مقبولًا سياسيًّا، سوق يزداد استعمال الطاقة النووية، وسيحدث تقدم فيما يخص الأمن والقبول والمنافسة، حتى تمثل 15% من الطاقة الأولية في العالم، وسيصبح التحام النوى الذرية بمفرده موردًا شبه لا نهائي، لن يصبح بالتأكيد في متناول اليد قبل آخر القرن الحادي والعشرين على الأقل.
شيئًا فشيئًا -يقول الكاتب- ستندر الغابات وتلتهمها صناعة التسليح البحري ثم صناعة الورق ثم التوسع في الزراعة والمدن؛ فمنذ القرن 18 جردت قطعة أرض توازي مساحة أوروبا من غاباتها، وفي كل ساعة تقطع أشجار ما يوازي سبعة ملاعب كرة، بالإضافة إلى أن الغازات الصناعية كأوكسيد الكبريت والأزوت تقضي على الأشجار من طرف لآخر في الكرة الأرضية، وأخيرًا فإن تطور الاقتصاد اللامادي لن يخفف من الطلب على ورق الطباعة قبل زمن طويل.
وطبقًا للإيقاع الحالي لن تكون هناك غابات خلال 30 عامًا إلا في أوروبا وأمريكا الشمالية، اللتين لن تصمدا طويلًا أمام كربونات الفلور والكلور التي تخفف من سمك طبقة الأوزون المحيطة بالجو، وفيما عدا تخيل عمل جماعي من الآن وحتى 2030 سوف تتضاعف انبعاثات الغاز الكربوني للفرد، وهنا الخطر الأسوأ.
إذ تتنبأ التقديرات الأكثر جدية، أن درجة حرارة الأرض سترتفع درجتين قبل 2050، وخمس درجات قبل 2100، والنتائج ظاهرة الآن على القمم الثلجية في القطبين، فارتفعت سرعة ذوبان الجليد 250% بين 2004 و2006، ومن عام 1900 إلى 2006 اختفت 3 ملايين كيلومتر مكعب من الثلوج من 8 ملايين الموجودة في القطب الشمالي.
ولن تنخفض انبعاثات الغاز الكربوني وغازات ملوثة أخرى بسهولة، وستجد بلاد الشمال صعوبة في تعديل طريقة حياتها، وسترفض بلاد الجنوب أي قيود مستندة إلى أنها لن تفعل بذلك سوى الحفاظ على ثروة وترف الشمال، ولن تنجح الاتفاقات الدولية القادمة مثلما حدث مع الاتفاقية التي وقع عليها في كيوتو عام 1999.
أولى الموجات العاتية: الإمبراطورية المفرطة
بعدما ينتهي حاضرنا بين عامي 2025 و2035، سوف يترك المكان لعالم بدون سيد، وسينسق نفسه بإبهام القوى النسبية، وسوف يستقر مستقبل مختلف يسير في خط التاريخ المستقيم، وهو سوق بدون ديمقراطية. ففي عام 2050 وتحت ضغط متطلبات السوق، وبفضل وسائل تكنولوجية جديدة، سوف يتحد العالم حول سوق أصبح بحجم الكوكب وبدون دول، وسيبدأ ما سوف نسميه الإمبراطورية الفائقة التي ستُفكك الخدمات العامة، ثم الديمقراطية، ثم الدول، وحتى الأمم نفسها، وستبقى الإمبراطورية الفائقة جزئيًّا أمريكية، فستكون سلعها الاستهلاكية استمرارًا موسعًا للسلع الجوالة، كما ستكون ثقافتها هجينة، وأسلوب حياتها مؤقتًا، وقيمها فردية، ومثالها نرجسيًّا.
وكما الإمبراطورية الفائقة سوف يكون الصراع فائقًا، برأي الكاتب، مما سيؤدي إلى إعادة توازن بين الديمقراطية والسوق على مستوى العالم، وإلى ديمقراطية فائقة على مستوى الكوكب، وستخلق التنمية التجارية عام 2035 طبقة متوسطة في الصين والعالم الإسلامي، سوف تقضي على الديمقراطية وتضع ديمقراطية برلمانية. ومن ذلك الحين، سنستمر في مشاهدة تعميم السوق ثم الديمقراطية على كل العالم بتدرج وتوازٍ في فوضى أحادية الاتجاه، وستمس هذه الظاهرة مصر وإندونيسيا، ونيجيريا، والكونغو، والصين، وإيران، فكل هذه البلدان سوف يحملها، مقطعة أو سليمة، المنطق الذي قلب فيما سبق الديكتاتورية في تشيلي وإسبانيا وروسيا وتركيا، ولن تعود للإسلام والهندوسية والكونفوشية اعتراضات على الديمقراطية.
ولن تكفي انتخابات حرة لتشييد دائم لديمقراطيات السوق، إذا لم يصاحبها إقامة مؤسسات اقتصادية وسياسية مستقرة، وتجهيز دساتير علمانية، وبرلمانات وأحزاب سياسية، ونظم قانونية وبوليسية تحترم حقوق الإنسان والتعدد الحقيقي للإعلام، وسيأخذ هذا وقتًا من آسيا وأفريقيا، كما أخذ فيما مضى مع أوروبا.
بعد عنف المال سوف يأتي – أو أتى بالفعل- عنف الأسلحة
ومادام الديمقراطية والسوق متعادلين في القوة، سيتقاسمان فيما بينهما مجالات اختصاصهما، وسيحترمان حدودهما، وسينتظم النظام التجاري كتجمع لديمقراطيات السوق، وسيصبح العالم متعدد المراكز مع قوة مهمة أو اثنتين في كل قارة. وتشكل هذه المراكز حكومة غير رسمية للعالم، وما تلبث تستقر حتى يفشل في الاستمرار، لأن السوق بطبيعته غازِ ولا يقبل الحدود، ولن يترك للدول اختصاصات، وسينتشر في كل الخدمات العامة، ويفرغ الحكومات «حتى حكومات أسياد النظام المتعدد المراكز» من آخر مزاياها بما فيها السيادة.
وسيصل دور الدولة إلى العدم، وستحل سلع المراقبة محل العديد من وظائف الدولة، وهكذا ستحل تدريجيًّا الأجهزة المتطورة محل التعليم، والصحة، والسيادة، كما حدث في المواصلات والاتصالات، وسيفتح ذلك أسواقًا جديدة، وسيرفع إنتاجية الاقتصاد، وبما أن الأمر يتعلق بالمساس بخدمات أساسية للنظام الاجتماعي، ومكونات الدول نفسها والشعوب، فسيعدل ذلك جذريًا من العلاقة بالخيال الفردي والجماعي، وبالهوية، والحياة، والسيادة، والمعرفة، والسلطة، والثقافة، والجغرافيا السياسية، وهنا ستكمن أعمق ثورة تنتظرنا في النصف القرن القادم.
وبفضل التقدم الهائل المنتظر لعلوم النانوتكنولوجي، سيأمل كل شخص في نقل ضميره الذاتي إلى جسم آخر، وأن يحصل على نسخة ثانية من نفسه، وعلى نسخة ممن يحبهم، وعلى رجال ونساء كما في الأحلام، وعلى هجين مُصنّع حسب ملامح خاصة منتقاة للوصول لأهداف محددة.
ستظهر طموحات إقليمية للسيطرة على العالم الجديد، وسوف تتصادم فيما بينها، صدامات بين الطموحات على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي في البداية، قد تصل إلى صدامات عسكرية بين الدول، وسيختلط بها قوى قديمة من قراصنة ومرتزقة، وسيعيش العالم إذن في خوف متسلط من الفناء النووي، ومن الحرب المصغرة، والحرب على الشبكات. وواقعيًّا سوف تنفجر أربعة أنواع من الصراعات قبل الصراع الفائق: حرب الندرة، وحروب الحدود، وحروب السلطة، والحروب بين قراصنة ومدنيين.
وسيؤدي اختلال المناخ إلى حروب لاستعمار الأراضي الباقية، أو التي أصبحت قابلة للتنفس والزراعة، وستكون الحرب بدون قانون أو تحكيم، ومع ذلك وقبل أن تضع الإنسانية هكذا حدًّا لتاريخها، سيؤدي فشل الإمبراطورية الفائقة، وتهديد الصراع الفائق بالديمقراطيات إلى إيجاد دافع كاف لهزيمة القراصنة، ولرفض غريزة العنف والموت، وحتى ذلك الوقت سيقع الكثير من الأحداث بشكل أفضل أو أسوأ مما تخيلناه هنا.