في سبتمبر (أيلول) 2020، وبعدما وقّعت مصر مع اليونان اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية، أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أنّ أنقرة نقلت إلى القاهرة عبر القائم بالأعمال المصري في تركيا، عمرو الحمامي رغبتها في توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، على غرار الاتفاقية التركية مع ليبيا.
جدير بالذكر أنّ «الحمامي» قد جاء اسمه في التسريبات التي نشرتها قناة الجزيرة عام 2017، بصفته المستشار القانوني في وزارة الخارجية المصرية الذي قدّم تقريرًا يحذر فيه الحكومة من تقديم الجانب اليوناني مغالطات لمصر بشأن خرائط ترسيم الحدود البحرية.
تجاهلت القاهرة حينها مطلب أنقرة، تزامنًا مع انخراطها في الإطلاق الرسمي لمنتدى «غاز شرق المتوسط» الذي يضم سبع دول، أبرزها بالإضافة إلى مصر: اليونان، وقبرص اليونانية. وتعتبره تركيا تحالفًا عدائيًا لها يستهدف حقوقها البحرية، لكنّ جاويش أوغلو علّق بعدها قائلًا: «علينا أن نكون واقعيين، من أجل التوصل إلى اتفاق مع مصر، يجب أن نحافظ على علاقاتٍ جيدة معها».
لم تمر سوى خمسة أشهرٍ بعد تلك التصريحات شهدت فيهما العلاقات المصرية التركية هدوءًا بعد التوترات والصراعات الإقليمية بينهما في عددٍ من القضايا، حتى عاد وزير الخارجية التركي قبل أيام بتصريحٍ جديد قال فيه: «يمكن لتركيا توقيع اتفاقية مع مصر من خلال التفاوض على المساحات البحرية، وفقًا لمسار علاقة البلدين الحالي»، كما أعلن وزير الخارجية التركي في يوم 12 مارس (آذار) 2021 أن تركيا بدأت اتصالاتها مع مصر بالفعل على الصعيد الدبلوماسي بحسب وكالة الأناضول التركية.
خلف الستار.. هكذا وصلت علاقة مصر وتركيا لما هي عليه
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وأثناء زيارة لافتة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أثينا، تعهّد خلالها أمام زعيمي قبرص الرومية واليونان بمواجهة ما أسماه السياسات الاستفزازية والتصعيدية في منطقة شرق البحر المتوسط، في إشارة واضحة إلى تركيا التي اتهمها بشكل غير مباشر بزعزعة استقرار المنطقة، ونقل المقاتلين الأجانب والسلاح إلى دول الجوار.
التصريحات المصرية لم تمر حينها دون رد تركي رفيع المستوى على لسان وزير الدفاع الذي قال في اليوم نفسه: «لا يمكننا أن نظل غير مبالين بالعلاقات بين اليونان ومصر فيما يخص شرق المتوسط، واتخذنا الإجراءات اللازمة لحماية حقوقنا».
بعدها بشهرٍ كانت الأمور على السطح أكثر حدة بعد بدء اليونان مباحثات مع الولايات المتحدة لشراء طائرات «إف-35»، وتمديدها الخدمة العسكرية الإلزامية من تسعة أشهرٍ إلى 12 شهرًا، ثم نشرت فرنسا في الوقت نفسه فرقاطتين وطائرتين رافال في شرق المتوسط لـ«فرض الأمن»، ثم أوفدت بعدها أثينا وزير دفاعها إلى القاهرة، للاتفاق على تشكيل جبهة ثلاثية تضم مصر، وقبرص اليونانية، واليونان، للقيام بتدريبات عسكرية مشتركة في شرق المتوسط، فيما نُظِر إليه أنه تحشيد من كل طرف ضمن التصعيد المتبادل القائم على الخطاب العدائي.
فيما وراء الستار، لم يكن العداء بين القاهرة وأنقرة مستحكمًا إلى هذا الحد في ظل التوترات والصراعات الإقليمية بينهما في عددٍ من القضايا؛ فبينما كان السيسي يستقبل علنًا وزير الدفاع اليوناني، كان في الشهر نفسه يُعيد تقييم اتفاقية التجارة الحرة الموقَّعة مع تركيا منذ عام 2005، إذ يلتزم الطرفان طبقًا للاتفاق بتخفيض الرسوم الجمركية جزئيًا وبشكلٍ سنويّ، وصولًا للإعفاء الكلي الذي بدأ في يناير (كانون الثاني) العام الماضي، ثم إخضاع الاتفاقية كلها للتقييم حتى نهاية العام، وصولًا إلى اتخاذ إجراءت بتعديلها أو إلغائها.
وطبقًا للمادة 38 من الاتفاقية المنشورة على موقع وزارة التجارة والصناعة المصرية، يحق لأي طرف إلغاء الاتفاقية بإخطار الطرف الآخر، وذلك قبل ستة أشهر كاملة من موعد انهائها، ورغم أنّ الاتفاقية تصبُّ كُليًا لصالح أنقرة في الميزان التجاري على حساب القاهرة، إلا أنّ مصر تجاهلت مطالب برلمانية بإلغائها أو تعديلها – على غرار المغرب – كون الميزان التجاري يميل لصالح أنقرة، بحسب إحصاءات رسمية مصرية، أكّدها القائم بالأعمال التركي في القاهرة.
الاستثمارات التركية التي ظلت بمنأىً عن الصراع السياسي، تبعها اتجاه الدولتين على ما يبدو إلى تفاوض «سري» نحو التهدئة ظل قائمًا في ظل استمرار التصعيد والمواجهة السياسية العلنية بين النظامين، وبحسب ما نشره موقع «الخليج الجديد» – وفقًا لمصادر خاصة مطلعة – وموقع «حرييت» التركي، فإنّ تركيا أوفدت إلى مصر 17 دبلوماسيًا ومسؤولًا أمنيًا وعسكريًا، بينهم قيادات في جهاز الاستخبارات التركية، التقوا بنظرائهم المصريين بمقرّ وزارة الخارجية، في قلب القاهرة، وحملوا عرضًا سخيًا مفاده حصول مصر على مساحة بحرية في شرق المتوسط تعادل ثلاثة أضعاف جزيرة قبرص، في حال وقعت اتفاقًا بحريًا مع تركيا، وهي التسريبات التي سُرعان ما أكدتها تركيا علانية.
وبينما سارعت مصر لنفي أي تواصل استخباراتي بين البلدين، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية وعلى لسان وزير الخارجية نفسه نقلت صحيفة يونانية. في 25 فبراير (شباط) أنّ حكومة أثينا تلقّت معلومات حول توصُّل مصر إلى اتفاق مع تركيا بشأن ترسيم حدودهما البحرية، وهو ما سيُلحق الضرر بمصالح اليونان مستقبلًا بحسب الصحيفة، وفي ظل تناثر المعلومات حول وجود قنوات اتصال بين القاهرة وأنقرة، حافظت مصر على موقفها الثابت من الإنكار، والذي كان على الأرجح رسالة تطمين لحلفائها أكثر من مجرد محاولة إيضاح حقائق الأمور.
لم تكن هذه المعلومات هي الإشارة الوحيدة التي تلقّتها اليونان، فصحيفة يونانية أخرى كشفت أنّ القاهرة أعلنت عن مناقصة للبحث عن الطاقة الهيدروكربونية ضمن حدودها البحرية في شرق المتوسط، لكنّ الخريطة التي نشرتها القاهرة، أخذت بعين الاعتبار الحدود البحرية الجنوبية لتركيا المُشار إليها في الاتفاق التركي الليبي على خلاف الخط المرسوم طبقًا للاتفاقية البحرية الموقعة بين البلدين.
التصرُّف المصري سُرعان ما سبَّب ذعرًا يونانيًا على ما يبدو، كانت أكبر دلائله، الإتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الوزراء اليوناني مع السيسي، في نفس توقيت نشر الصحف اليونانية للمعلومة. سيناريو التقارب نفسه كانت له شواهد راسخة تهدم رواية القاهرة التي حرصت على نفي تقاربها مع أنقرة، لكنّ معطيات الساحة الليبية الأبرز وضوحًا كانت تشي بحدوث تفاهمات برعاية السفير الأمريكي في ليبيا الذي نجح في إحداث مقاربة في ليبيا، وانتزاع موافقة طرفي النزاع لوقف إطلاق النار، وهو ما لم يكن ينجح ربما لولا وجود أفق سيناريو لاتفاق مصري تركي.
الفرضية السابقة عززها ما نشره تليفزيون «أنا العربي» نقلًا عن مصادر مقربة من الاستخبارات المصرية أدلت بمعلومات عن فتح قنوات اتصال بين البلدين، بدأ برسائل أرسلها الملحق العسكري للسفارة التركية في الجزائر عبر نظيره المصري، لفتح محادثات سيادية قادت في النهاية إلى التهدئة، وصولًا لفتح أبواب أخرى في العلاقات، أهمها الوضع في شرق المتوسط.
من وجهة نظر القانون الدولي.. هل ينتهي صراع شرق المتوسط حال اتفاق مصر وتركيا؟
تبدأ أزمة تركيا مع الحدود البحرية باعتبارها صاحبة أطول شاطئ يمتد بطول 1200 كم في شرق البحر المتوسط، وتتناثر أمامها عشرات الجزر التي كانت تابعة في السابق للدولة العثمانية، لكن ملكيتها آلت إلى اليونان بعد الحرب العالمية الثانية مثل جزيرة كاستيلوريزو. وبذلك تضرّرت تركيا لأنّ أغلب سواحلها تحيط بها الجزر التي تتبع السيادة اليونانية.
الخريطة الحالية تظهر تركيا بلا مطلات بحرية، وحبيسة في شواطئها. مصدر الخريطة: الإيكونومست
واحدة من تلك الجزر التي أبرزت أزمة شرق المتوسط هي جزيرة «كاستيلوريزو» التي تبعد 500 كم عن اليونان، ونحو كيلو مترين فقط عن الشواطئ التركية. وطبقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الدولي لعام 1982، فإنه يعطي الحق لجميع الدول، سواء كانت ذات رصيف قاري، أو صاحبة جُزر، في امتلاك 12 ميل بحري (نحو 22 كم) ضمن سيادتها الآمنة، إضافة إلى منطقة اقتصادية خالصة عمقها 200 ميل بحري (30.4 كم).
اتفاقية قانون البحار تواجه أزمة في البحر المتوسط، كون مساحته الضيّقة لا تصل إلى 200 ميل بحري بين الدول وبعضها، لذا تم اعتماد خط المنتصف كمقياس لحساب الجرف القاري، وهو الشرط الذي تدور حوله أزمة الصراع الحالي.
تدور السردية التركية على أنّ «البر الرئيس هو مقياس الحساب الرئيس للجرف القاري وليس الجُزُر، وبالتالي فحدود تركيا الاقتصادية الخالصة تشمل الجزر اليونانية»، بينما تدور السردية اليونانية على أنّ الجرف القاري يُحسب من الجُزُر وليس من البرّ الرئيس، وبالتالي فأنقرة لا تمتلك في شرق المتوسط سوى مساحة بحرية ضيقة جدًا، وأن تحركاتها تعتبر تعديًا على السيادة اليونانية، ويدعم الاتحاد الأوروبي وجهة النظر اليونانية عبر فرض عقوبات ضد أنشطة التنقيب التركية التي يعتبرها غير مصرح بها.
الرفض التركي يستند إلى حقيقة قانونية تشرحها الدكتورة «ماتس لوك» مدير معهد «فالتر شوكنغ» للقانون الدولي في جامعة كيل الألمانية في حديثٍ لموقع دويتشه فيله الألماني، بأنّ بنود اتفاقية قانون البحار «غير واضحة»، كما أنها قابلة لتعدُّد التفسيرات، لذلك فـ«ادّعاء» تركيا له ما يبرره في الوقت الحالي، كما تقول لوك في تصريح لموقع دويتشه فيله الألماني.
تواصل «ساسة بوست» مع مدير معهد «فالتر شوكنغ» للقانون الدولي، لسؤالها عن كيف يمكن حل أزمة شرق المتوسط عبر القانون الدولي؟ وأجابت «لوك» عبر رسالة بالبريد الالكتروني بأنّ «الاتفاق الرئيسي سيكون فقط بين اليونان وتركيا، لذا لن تحل مجرد اتفاقية ثنائية بين تركيا ومصر الخلافات بشكل نهائي، لأن الحل الذي يأخذ جميع الاعتراضات في الاعتبار، فقط هو الذي سيؤدي إلى ترسيم حدود منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بشكل نهائي. لكن هذا سيكون من الصعب جدًا تحقيقه».
تصريحات «لوك» تتوافق مع حقيقة أنّ الأمم المتحدة لا يمكنها حقيقةً التدخُّل وإجبار تركيا أو اليونان على تغيير تفسيرهما بشأن توزيع المنطقة الاقتصادية الخالصة.
وتوجد حاليًا أربع اتفاقيات ترسيم حدود موقعة في شرق المتوسط ضمن خريطة الصراع؛ الاتفاقية التي وقّعتها مصر وقبرص اليونانية عام 2003، ثم الاتفاق الثنائي بين قبرص وإسرائيل عام 2010، وبعدها الاتفاق البحري التركي الليبي عام 2019، وأخيرًا الاتفاق الذي وقعته مصر واليونان عام 2020، وتوجد في الوضع الحالي خريطتان في شرق المتوسط؛ واحدة تركية – ليبية. والأخرى يونانية، قبرصية، إسرائيلية، مصرية.
والسبب في رفض تلك الدول لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، هو أنّ الخط البحري الذي رسمته أنقرة يُشاطئ جزيرة «كاستيلوريزو» التي تعتبرها اليونان الجرف القاري التابع لها، وهو الذي تستند عليه في اعتبار خطوات أنقرة «تعدِّي» على سيادتها البحرية.
وبموجب القانون الدولي القائم على تفسير أنّ البر الرئيسي هو مقياس حساب الجرف القاري، فإن لمصر وتركيا أحقية في ترسيم الحدود البحرية، كون المساحة بينهما البالغة 274 ميلًا بحريًّا، دون احتساب جزيرة «كاستيلوريزو» التي تسيطر عليها اليونان. وهذة المسافة أقل من المسافة البحرية بين قبرص اليونانية واليونان، التي تبلغ المسافة بينهما 297 ميلًا بحريًّا.
وجود اتفاقات بحرية متضاربة، ومُسجلة لدى الأمم المتحدة، لا يمكنّ أن تنتهي بتوقيع تركيا اتفاقًا بحريًا مع مصر أيضًا، لأنّه واقعيًا لن يكون له أي تأثير قانوني على الدول الأخرى التي سترفض بالضرورة ذلك الاتفاق الجديد لو حدث، كونها تمتلك بالفعل اتفاقاتها الخاصة التي دخلت حيّز التنفيذ، وبالحديث عن شرق المتوسط الذي يزخر بنحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل من احتياطات النفط، فإن سيناريو التفاوض أو الحرب سيكونان هما الخيارين الوحيدين لحل للأزمة.
الطرح السابق ربما يعززه ما نشره موقع «العربية» نقلًا عن مصادر مصرية بأنّ القاهرة اشترطت على تركيا دخول قبرص واليونان أي مفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية، ووفقًا لذلك الطرح، فمصر على ما يبدو تريد حلًا نهائيًا للأزمة، دون الدخول في صراعٍ ممتدٍ مع تلك الدول التي تجمعها بها علاقات ومصالح، كون الاتفاق التركي المصري بالوضع الحالي سيعني حصول كلتا الدولتين على مساحات بحرية جديدة من تلك الدول المتضررة.
على جانبٍ آخر تقود كلٌّ من قبرص اليونانية واليونان – اللتين تجمعهما توتراتٍ تاريخية وسياسية مع تركيا – مباحثاتٍ مع كل من لبنان وإسرائيل ومصر، بهدف تقسيم المناطق الخالصة، ووضع الجانب التركي أمام رأي عامٍ إقليمي، وفي المقابل أعلنت تركيا أنها على استعداد لتقديم عروضٍ أفضل من تلك التي اشترطتها قبرص واليونان مع تلك البلدان، وخاصةً مصر.
لذا فكما يبدو، لن ينتهي صراع شرق المتوسط باتفاق مصر وتركيا، لأنّ اليونان لن ترضخ بطبيعة الحال لفكرة التجاهل لادعائاتها في المناطق البحرية، وحتى وإن استندت القاهرة وأنقرة إلى أنه لهما أحقية في ترسيم الحدود المائية المشتركة على اعتبار أنّ (الجرف القاري يُحسب من البر الرئيس)، لأن هذا التفسير يقابله تفسير آخر من اليونان وقبرص اليونانية على أساس أنّ: الجرف القاري يُحسب من الجُزُر وليس البر الرئيس.
وفي حالة وقعت مصر وتركيا اتفاقًا بحريًا، فمن المتوقع أن يواجه برفضٍ يوناني قبرصي إسرائيلي مشترك بدعوى أن الاتفاق يخالف القانون الدولي – وفق تفسيرات هذا الطرف. لكنّ الاعتراض الحقيقي سيتمثّل في مخاوف تلك الدول من تقويض قدرتها على نقل الغاز الطبيعي من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا دون عبور المياه التركية، إضافةً إلى أنّ أيّ اتفاق لا يضع في اعتباره مصالح تلك الدول سيمثل انقلابًا في «جيوسياسات الطاقة» في شرق المتوسط.
لكنّ في النهاية الاتفاق نفسه سيكون له وفق كل السيناريوهات ثقل سياسي مختلف لصالح تركيا، وهو ما قد يدفع الجميع اضطراريًا للجلوس إلى طاولة المفاوضات، لإجبار تلك الدول إلى الوصول إلى واقعية تضمن حلًا جذريًا لتقسيم مناطق الثروات البحرية، والإفلات من سيناريو الحرب، الذي بدا في لحظةٍ ما أنه ليس مستبعدًا.
الفائز الأكبر من حدوث اتفاق.. ما الذي ستحصده تركيا؟
يقول رجل الأعمال التركي والمحلل السياسي، يوسف أوغلو، لـ«ساسة بوست»: «من السابق لأوانه كثيرًا أن يكون هناك «تحالف» بين تركيا ومصر، وأن يصدر في يوم وليلة، هناك الكثير من العوامل المفقودة، من أهمها عامل الثقة السياسية المتبادلة، وتركيا ترى بأن النظام المصري الموجود الآن ليس شرعيًا، وأنه غير ثابت، وما تزال هذه النقطة حساسة لدى تركيا».
يضيف «أوغلو»: «من المؤكد أنه سيكون هناك تعاون أمني اقتصادي سياسي، وحتى استخباراتي، ولكن قضية التحالف أمر آخر، لأن التحالف بمعناه السياسي هو تطابق الرؤى في كثير من الأمور، وهي الحلقة المفقودة حاليًا بين النظامين التركي والمصري».
يتفق مع وجهة النظر السابقة، الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، طه أوغلو الذي قال لـ«ساسة بوست»: «مسار التقارب الأخير بين العلاقات التركية المصرية هو مجرد تصالح حذر، والتقارب لن يكون واقعيًا إلا وفقًا لما يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر بما يخدم المصالح التركية والمصرية كاملة، طبقًا لمعادلة: الكل رابح، وتركيا لديها الكثير من المطالب التي تتوقع أن تقدمها لها مصر».
تبدأ حسابات القوة التركية التي تدفعها للتقارب مع مصر في سعيها لتحقيق مكاسب إستراتيجية في عدة ملفات حساسة تمثل معًا مجموعة من أهداف إقليمية تسعى تركيا للوصول إليها قبل 2023، وهو عام الذكرى المئوية للجمهورية، الذي يمثل أيضًا رؤية 2023، ويمكننا هنا أن نلخص مكاسب تركيا المتوقعة – أو التي تسعى إليها – في عدّة نقاط.
1- تتمثل الأهداف القريبة المُلحّة في توسيع المنطقة الاقتصادية الخالصة للشواطئ التركية التي تمتد على طول البحر المتوسط بطول 1200 كم، والتي أصبحت حبيسة بسبب الجزر المقابلة لشواطئها، وبعد إقرار الأمم المتحدة لقانون البحار الدولي لعام 1982 – رفضت أنقرة التوقيع عليه – ولم تستطع سفن التنقيب التركية التواجد في شرق المتوسط دون أزمة أو تحذير من الاتحاد الأوروبي.
2- احتياج تركيا لتوسيع المنطقة الاقتصادية الخالصها لها مدفوع من حاجتها الداخلية لمصدر طاقة، إذ تعتمد أنقرة رسميًا على استيراد نحو 75% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، ويتحمَّل ميزان مدفوعاتها نحو 40 مليار دولار سنويًا.
3- توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع مصر يضمن لتركيا عرقلة المشروع الإسرائيلي «إيست ميد» لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، وهو المشروع الذي يهدد الطموح التركي بالتحول لمركز طاقة بعد تدشينها مشروع «ممر الغاز الجنوبي» الذي يهدف لنقل 31 مليار متر مكعب من غاز أذربيجان إلى أوروبا عبر الاراضي التركية، وفي حالة وقعت مصر اتفاقا مع تركيا، فربما سيصبح المشروع الإسرائيلي مهددٌ بالزوال – أو مربوط بشروط تركية – كونه سيمرُّ في منطقةٍ بحرية تعتبرها تركيا ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة.
4- عدم حبس تركيا في مطلات بحرية ضيقة لتتمكّن من الوصول إلى ليبيا، التي يبدو أن أنقرة تخطط لتحويلها إلى مركز لوجستي للصادرات التركية نحو أفريقيا، واستطاعتها بسهولة نقل منتجاتها إلى 53 دولة أفريقية يبلغ مجموع عدد سكانها نحو مليار نسمة.
5- يتوقَّع الباحث التركي طه أوغلو في حديثه لـ «ساسة بوست» أنّ تطلب تركيا من مصر انضمامها لمنتدى غاز المتوسط -مقره القاهرة- في حالة تم التوصل إلى اتفاق بحري أم لا، وسبق أن وصفت تركيا منتدى غاز شرق المتوسط بأنه تكتل معادٍ لأنقرة، يستهدف تحركاتها في التنقيب عن الغاز، وخلال الفترة الأخيرة أبدت الدول الأعضاء إشارات إيجابية لتركيا عبر فتح باب العضوية للجميع في حال استوفت الشروط، في إشارة للتخلي عن خطاب التصعيد.
6- ستستفيد تركيا من الاتفاق مع مصر في خلق وضع جديد لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقَّع بين القاهرة وأثينا، خاصة أنّ الاتفاق نفسه بحسب ما نشرته الجريدة الرسمية لمصر يعد اتفاقًا جزئيًا وليس نهائيًا، والأهم أنّه يأتي في إحدى بنوده التي اشترطت القاهرة وجودها أنه يمكن تعديل الإحداثيات الخاصة بترسيم الحدود في حالة التعيين المستقبلي للمنطقة الاقتصادية الخالصة مع الدول المجاورة المعنية الأخرى، وهو ما عدَّته تركيا على لسان وزير خارجيتها إشارة إيجابية مصرية تجاه تركيا.
7- الاتفاق المصري التركي لن يخلق واقعًا جديدًا للاتفاق اليوناني المصري فقط، فالأمر نفسه سيتجه لاتفاق ترسيم الحدود الذي وقعته قبرص اليونانية ومصر عام 2003، والذي يشترط في إحدى بنوده أنه «إذا دخل أحد الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد منطقته الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصُّل إلى اتفاقٍ نهائي مع الدولة الأخرى»، وهو نفسه البند الذي وضعته تركيا في اتفاقها مع ليبيا، ما يعني أنّ الأمور قد تتجه إلى مزيدٍ من التعقيد، خاصة أنّ تركيا لا تعترف بحكومة قبرص اليونانية التي تعتبر جزءًا من الاتحاد الأوروبي.
الاتفاق المصري التركي يعني عرقلة مشروع «إيست ميد» الإسرائيلي
يقول الصحافي المصري، محمد حسنين هيكل في كتابه «حرب الثلاثين سنة.. ملفات السويس»: «الصراع في العالم العربي، هو صراع الأطراف الخارجية على المنطقة، وهو في الوقت نفسه صراع قواه الداخلية مع نفسها، وصراعها في ذات الوقت مع المتصارعين من الخارج مع المنطقة».
رؤية عرّاب العهد الناصري، تجعله يعتبر أن صياغة الدور الإقليمي للقاهرة يحتاج لإعادة صياغة علاقتها مع إيران وتركيا، باعتبارهما من الدول الضاربة التي يمكن للقاهرة أن تغلب بهما في أية معادلة، بالنظر لطبيعة الصراع في الشرق الأوسط.
حتى الآن، أبدت مصر على ما يبدو «تطمينات» لوزير الخارجية اليوناني الذي زار القاهرة أوائل الشهر الجاري في أعقاب التصريحات التركية حول التقارب مع النظام المصري، ونقل موقع «العربي الجديد» نقلًا عن مصدر دبلوماسي أوروبي في القاهرة أنّ دولًا أوروبية منخرطة أو مهتمة بالأوضاع في شرق المتوسط استفسرت بصورة غير رسمية من مصر عن موقفها من التصريحات التركية.
وبعيدًا عن التنظير السياسي لما يمكن أن تكون عليه شكل العلاقة بين مصر وتركيا، فالقاهرة قد يكون لها مصالح اقتصادية مشتركة مع أنقرة بتوقيعهما اتفاقًا بحريًا، فمشروع «إيست ميد» الإسرائيلي لمد الغاز إلى أوروبا، تقف له أنقرة منعًا لإتمامه، كونه المنافس لمشروع «ممر الغاز الجنوبي» التركي الذي يهدف لنقل غاز أذربيجان إلى أوروبا.
المشروع الإسرائيلي المُنتظر دخوله الخدمة عام 2025 يعني فعليًا خسارة مصر دورها المستقبلي باعتبارة منصةً إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، ومنذ عام 2019، أعلنت مصر اكتفاءها الذاتي من الغاز الطبيعي مع دخول حقل «ظهر» المصري حيِّز الإنتاج، الذي يبلغ إنتاجه اليومي 2.7 مليار قدم مكعب، لتتجه بعدها إلى سوق المنافسة على تصدير الطاقة.
الاتفاق بين أنقرة والقاهرة أمام المشروع الإسرائيلي من شأنه أن يمنح مصر نفوذًا ودورًا مهمًا في منطقة شرق المتوسط مستقبلًا، خاصة أنّ إسرائيل تعتمد حاليًا على مصر التي تمتلك محطتين لتسييل الغاز الطبيعي، قبل تصديره إلى أوروبا، وفي حال تمكّنت أنقرة من عرقلة المشروع الإسرائيلي، فستكون القاهرة قد تمكنت من إزاحة المنافس الإسرائيلي لصالح منافس آخر محتمل متمثل في تركيا التي تشاركها الطموح نفسه، وهو ما يُمكن أن يُنظر لها من قبل القاهرة بأنها معادلة أفضل بكثير من معادلة الخروج التام من المنافسة في سوق الطاقة، وهو التهديد الذي تعيشه مصر حاليًا.
الخبير المائي، والمحاضر بمعهد «ماساشوستس» الدكتور نائل الشافعي، نشر على صفحته الشخصية على «فيسبوك» طرحًا اعتبر فيه أنَّ توقيع مصر اتفاقية ترسيم حدود مع تركيا يضيف لها أكثر من 11 ألف كم (تنازلت عنهم على خلفية الاتفاق المصري القبرصي الموقع عام 2003)، كما يُعيد لها 7 آلاف كم من حدودها البحرية التي تنازلت عنها لحساب اليونان، إلى جانب استعادتها مثلثًا بعمق 100 كم بمحاذاة السلوم – شمال غرب مصر – بين ليبيا ومصر ليس ملكًا لأحد وفق الترسيم الحالي.
التطورات الأخيرة حول الحديث عن تقارب مصري تركي محتمل، دفع وزير الطاقة الإسرائيلي للإعلان عن استعداد الحكومة الإسرائيلية للتعاون مع تركيا في مجال الغاز الطبيعي في شرقي المتوسط.
وبحسب الطرح الذي نشرته وكالة «الأناضول» التركية، فإن مدّ أنابيب المشروع الإسرائيلي إلى مدينة مرسين التركية يبلغ 120 كم، هو أقل بكثير من المسافة التي يقطعها الأنبوب 1900 كم في ظل مروره في مياه عميقة وصولًا إلى السواحل اليونانية نهايةً بإيطاليا، وهو ما يتطلَّب اشتراطاتٍ فنيةٍ أكبر، ويضع تكلفة تقترب من العائد، وبالعودة إلى مصر، فإن أية تقارب محتمل بين أنقرة وتل أبيب، يعني فعليًا تهديد حلمها الإقليمي لدخول سوق الطاقة.
والخلاصة التي يمكن أن نصل إليها في هذا التقرير، هو أنّ توقيع مصر وتركيا لن يحل أزمة شرق المتوسط من وجهة نظر القانون الدولي، بسبب تعدد التفسيرات لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار فيما يخص البحر المتوسط، لكنّه سيكون بالطبع نقطة قوّة في السرديّة التركية. بينما سيكون الحل الأقرب واقعيًا هو جلوس اليونان وتركيا إلى طاولة المفاوضات في ظل إلحاح تركي على الجلوس مع اليونان، كما هو الحال مع مصر، لكن يبدو أنّ أثينا حاليًا ترفض الحوار وخفض التصعيد، وهو ما قد يفتح الباب أمام تركيا لسيناريوهات أخرى.
علامات
أردوغان, أنقرة, إسرائيل, إيست ميد, اتفاقية, السيسي, القاهرة, اليونان, ترسيم, ترسيم الحدود, تركيا, شرق المتوسط, قانون البحار, قبرص, مشروع ممر الغاز الجنوبي, مصر