في مشهد شبيه لمشهد جون سنو بمسلسل «صراع العروش»؛ حينما طلبت منه دينيريس تارجيريان في بداية تفاوضهم أن يركع لها، ورفض أكثر من مرة متتالية، وقف الملاكم المسلم محمد علي كلاي أمام الجهات المسئولة بالجيش الأمريكي رافضًا إلقاء القسم الذي يؤهله للانضمام للجيش الأمريكي، والذي كان وقتها في خضم واحدة من أهم الحروب التي مرت على تاريخ الولايات المتحدة.

 ولكن على عكس جون سنو لم يغير محمد علي كلاي رأيه في نهاية المفاوضة؛ الأمر الذي فتح عليه بابًا من الجحيم؛ تصدى لها بكل جلد، ولكنه أيضًا كان عليه تحمل العقبات التالية لهذا الموقف القوي، والذي دفعه فيما بعد للمشاركة في مباراة من أشهر مباريات الملاكمة في أمريكا وتاريخ محمد علي الرياضي، والتي أطلق عليها «المباراة السوبر».

في هذا التقرير نحكي لك تفاصيل تلك القصة كاملة.

مالكوم إكس المصري.. حارب الاستعمار في القارة السمراء وألهم العالم

محمد علي كلاي يتحدى الجيش الأمريكي

«لقد حكّمت ضميري، في ضوء إدراكي ووعيي كمسلم، بالإضافة إلى قناعاتي الشخصية. اتخذت موقفي من رفض الدعوة إلى التجنيد، وأنا على وعي كامل بالتداعيات التي تليه». كان هذا هو تصريح الملاكم المسلم محمد علي كلاي بعد رفضه الانضمام إلى صفوف الجيش الأمريكي في العام 1967.

كان توقيت الرفض حرجًا؛ لأنه جاء في خضم حرب فيتام، ولذلك جردته الإدارة الأمريكية من لقب بطولة العالم للوزن الثقيل، وأوقفوه عن ممارسة الملاكمة، وكان على محمد علي كلاي خوض قتال آخر، ولكن ليس في حلبة الملاكمة، بل حرب إعلامية، حينما انقسم متابعوه إلى فريقين: مؤيدين للحرب أصبحوا ضده، ورافضي حرب فيتنام ممن يرون فيها حربًا غير أخلاقية؛ وهؤلاء وقفوا في صف كلاي ودعموا موقفه.

محمد علي وروكي في لقطة من  المباراة السوبر.

ولكن رأي محمد علي كلاي في تجريده من لقبه كان واضحًا حينما صرح أنه إذا شارك في تلك الحرب فهو لا يستحق هذا اللقب، مؤكدً أن لقبه ليس منحة صادرة من البيت الأبيض حتى يجردوه منه بهذه البساطة؛ بل هو نتاج مجهود وفوز داخل حلبة الملاكمة؛ وهو أمر شاهده الجماهير بأعينهم؛ ويصعب تجريدهم من هذا.

وأكد محمد علي كلاي في الإعلام أن الحكومة الأمريكية خيرته بين السجن والحرب فوجد أن خيار الحرب مستحيل، فهو لم ير جدوى من إطلاق النار على الجنود في فيتنام؛ فهم – وفقًا لتصريحه – لم ينعتوه يومًا بـ«الزنجي»، ولم يسحلوه ويضطهدوه، ولا «أطلقوا كلابهم عليه»؛ فلماذا يطلق النار على هؤلاء المساكين! واختار السجن في المقابل. ذلك الموقف الذي علق عليه الإعلام الأمريكي قائلًا: ««لو اتبع المزيد من الأمريكان خطا كلاي لانتهت حرب فيتنام للأبد».

موقف نبيل.. ولكن ما الثمن؟

صدر الحكم ضد محمد علي كلاي بالسجن خمس سنوات، وغرامة 10 آلاف دولار، ولكنه استأنف الحكم؛ فاكتفوا بإيقافه عن ممارسة الملاكمة لثلاث سنوات متواصلة، ولكن هذا لم يثنه عن موقفه، ولذلك نظم وشارك في العديد من المظاهرات الرافضة لحرب فيتنام.

وكان يستأجر من أمواله الخاصة ساعات من البث التليفزيوني بغرض حشد الرأي العام ضد الحرب، ولكن أيضًا هذا الموقف كان له أثاره السلبية على حياة كلاي المادية؛ الأمر الذي يأخذنا إلى مباراة السوبر التي اضطر كلاي للمشاركة فيها بغرض تحسين وضعه المالي.

الجزء السادس من سلسلة أفلام «روكي» الشهيرة، والتي لعب بطولتها سلفستر ستالون، تدور أحداثه حول بطل الملاكمة روكي بالبوا، والذي يشاهد مباراة مصنوعة إلكترونيًا وبالجرافيك بينه وبين لاعب ملاكمة آخر؛ والتي صنعها أحد الأجهزة القادرة على التنبؤ بحركات كل لاعب إذا زودت بالمعلومات الكافية عنه من مباريات سابقة، تلك المباراة الرقمية تثير اهتمام روكي وتدفعه لتنفيذها على أرض الواقع، قد تظن أن حبكة هذا الفيلم خيال معقد، ولكن فكرة هذا الفيلم حدثت بالفعل مع محمد علي كلاي.

في نهاية الستينات ابتكر المنتج الإذاعي مواري ورونر برنامج كمبيوتر قادرًا على تنفيذ تلك الخدعة الرقمية، والتي من شأنها التنبؤ بمسار مباريات ملاكمة كاملة بين لاعبين مشهورين ببرنامج محاكاة يدعى «NCR 315»؛ على أن يزود هذا الكمبيوتر بجمبع الإحصاءات المعلومات التي قد تساعده على التنبؤ بخطوات كل لاعب، ونفذ نمواري تلك الخدعة بمجموعة من لاعبي الملاكمة المشاهير.

وما ساعد على نجاح تلك الخدعة عرضها إذاعيًا من خلال صوت معلق يذيع المباراة الرقمية؛ فكانت الخدعة أكثر تصديقًا؛ وحققت نجاحًا جماهيريًا مبهرًا؛ وتابعوا المباريات وكأنها دوري رياضي واقعي، وليس افتراضيًا.

المعركة السوبر.. من الواقع الافتراضي إلى الواقع

حينما عُرضت تلك المباريات كان كلاي في خضم قتاله الإعلامي والمادي بشأن رفضه الانضمام لحرب فيتنام؛ فلم يعلق في البداية على المباريات الافتراضية التي أذيعت تحت اسمه، ولكنه حين علم بتوقع جهاز الكمبيوتر خسارته في نصف النهائي أمام الملاكم جيم جيفريز؛ هدد كلاي بمقاضاة المنتج صاحب البرنامج، ولكن مواري كان رجل أعمال قبل أن يكون إعلاميًا محترفًا، ولذلك ذهب إلى محمد علي كلاي، والذي يعلم جيدًا إفلاسه، حاملًا بين يديه عرضًا لا يستطيع رفضه.

كانت إحدى المباريات الرقمية الخيالية التي لاقت إقبالا جماهيريًا؛ بين كلاي والملاكم المشهور روكي مارسيانو، والذي كان متقاعدًا في ذاك الوقت، فعرض المنتج على محمد علي كلاي تحويل تلك النسخة الرقمية الصوتية إلى مباراة بصرية على أرض الواقع بينه وبين روكي داخل الحلبة وبين الجمهور مقابل مبلغ 10 آلاف دولار، هذا المبلغ الذي كان محمد علي كلاي في أشد الحاجة إليه؛ فوافق على هذا العرض الغريب، وبدأت تحضيرات واحدة من أغرب المباريات في تاريخ الملاكمة الأمريكية، فكان على محمد علي كلاي أن يشارك في تلك المباراة الرقمية، مجسدًا خسارته على أرض الواقع، مقابل هذا المبلغ.

ولكن تلك القصة التي تبدو في بدايتها مجرد تجربة من أجل المال تحولت إلى تجربة مميزة لكلاي حينما قابل روكي مارسيانو للمرة الأولى في موقع التصوير، وهي الصداقة الرائعة التي نشأت بين علي وروكي، والتي لم يدرك أحدهما أثناء التصوير من سيكون الفائز في النهاية؛ وتلك الروح الرياضية التي نشأت بينهما ساعدت في إخراج المباراة إخراجًا مميزًا.

وبعد الانتهاء من تصوير المباراة عُرضت في أكثر من 1500 دور عرض سينمائي تحت عنوان «The Super fight»، وحققت أرباحًا زادت عن 5 ملايين دولار، ولا زالت تحصد الأرباح حتى الآن من خلال بيعها على أقراص «دي في دي» طوال مدة الثلاث عقود الماضية، ولكن البطل الإيطالي لم تسنح له الفرصة ليشهد هذا النجاح الذي حلم به مع محمد علي كلاي أثناء التصوير، وهذا بسبب وفاته في حادث طائرة بعد انتهائه من التصوير مباشرة.

تلك المباراة كان لها نهايتان، حينما عُرضت في أمريكا وكندا؛ كانت المباراة تنتهي بفوز روكي، ولكن النسخة التي عُرضت في أوروبا كانت نهايتها فوز محمد علي كلاي؛ وربما تلك النسخة (التي عرضت في أمريكا وكندا)، رغم الصداقة الناشئة بين البطلين قد يكون لها تأثير نفسي سلبي على كلاي حينما شاهدها؛ خاصة وأنه ملاكم لم يتعود الخسارة؛ وفرضت عليه تلك الخسارة من أجل احتياجه للمال.

وفي الكتاب الذي حكى قصة حياته باعتباره الملاكم المُسلم الأسمر «The Greatest: My Own Story»؛ قال كلاي عن هذه المباراة: «لقد خيبت آمال الملايين في أنحاء العالم؛ ما جعلني أخجل مما كنت أفعله، فقد ذهبت إلى هذا العمل على كونه حقيقيًا وعادلًا ودقيقًا، لكنه لم يكن كذلك».

 

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد