شهدت المؤسسة الأمنية في الفترة الأخيرة العديد من التحولات، تجلت في إقالة مجموعة من الضباط والجنرالات بالجيش والاستخبارات خصوصًا، بل وصل الأمر إلى اعتقال بعضهم، وآخرين وضعهم تحت المراقبة الجبرية، مما يثير حيرة الكثير من المتابعين، إذ بين ليلة وضحاها أصبحت لمؤسسة الرئاسة اليد العليا على الأجهزة الأمنية، التي لطالما اعتبرها الكثير الحاكم الفعلي للدولة الجزائرية.

فما دلالات القرارات الرئاسية الجزائرية الأخيرة إذن؟ وهل انتهى فعلًا عهد العسكر بالجزائر؟

تقزيم دور المخابرات

وأخيرًا سقط الرجل الذي يلقبه الجزائريون بـ”رب الدزاير”، حيث أقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في نهاية الأسبوع المنصرم على إقالة مدير “جهاز الأمن والاستعلامات” محمد مدين الملقب بـ”الجنرال توفيق” وإحالته للتقاعد عن عمر 76 سنة، وهو يعتبر أقدم مدير مخابرات في العالم، حيث تولى منصبه قبل 25 سنة مع بداية الحرب الأهلية، لا يعرف أحد معلومات عنه أو شكله بما في ذلك الجزائريون، سوى صورة واحدة غير واضحة تنسب له تتداولها وسائل الإعلام عند الحديث عن هذا الرجل الغامض.

الجنرال توفيق


شكّل القرار الرئاسي ضربة قوية للجهاز الذي يصفه البعض بأنه يتحكم في أنفاس الجزائريين ويصنع قادتهم السياسيين وغيرهم، لكن لم يتم قطف رأس الجهاز إلا بعد حملة إقالات واعتقالات ألمت بمسؤوليه، حيث قامت الرئاسة بعزل مجموعة من الضباط الكبار في فروع تابعة لجهاز المخابرات العسكرية، من بينهم قائد أمن الرئاسة، ومدير الأمن الداخلي، ومدير التجسس.

وقد أعلن مدير ديوان رئاسة الجمهورية الجزائرية أحمد أويحيى قبل أيام إلقاء القبض على الجنرال عبد القادر آيت واعرابي المعروف بحسان، وهو المسؤول السابق لمركز مكافحة الإرهاب التابع أيضًا للمخابرات.

بالتأكيد كل البلدان تجري تغييرات في قياداتها الأمنية والعسكرية، إلا هذه التعديلات المكثفة في مدة قصيرة والتي تمس جهاز المخابرات بالخصوص، لا يعد أمرًا عاديًّا في ظل نظام يتسم بالغموض وتقل فيه الشفافية ويعاني حساسية من النقاش السياسي.

صراع أجنحة أم بداية عهد الديموقراطية بالجزائر

الحملة الشرسة التي شنتها مؤسسة الرئاسة على جهاز المخابرات وتفكيكها معظم فروعه وإلحاقهم بالجيش، يضع المتابعين للشأن الجزائري في حيرة حول الدافع الذي جعل الرئاسة تقوم بهذا الأمر، وما الغاية منه.

بالنسبة للبعض لا يعدو هذا الأمر أن يكون مجرد حلقة من حلقات الصراع بين أجنحة السلطة في الجزائر، حيث بدأ هذا الصدام منذ سنة 2013 عندما شجع جنرال المخابرات “توفيق” على تطبيق البند 88 من الدستور الجزائري الذي ينص على إقالة رئيس البلاد في حالة العجز، وخرج هذا الصراع إلى العلن، عندما رشح بوتفليقة نفسه للولاية الرابعة، بينما عارضت المخابرات ترشحه ورأت أن ذلك قد يدخل البلاد في متاهة الاضطراب في الوقت الذي فيه الجزائر تحتاج إلى رئيس قادر على مواجهة التحديات الحالية، إلا أن جبهة الرئاسة لم تنس الأمر بسهولة، إذ بعد فوز بوتفليقة في الانتخابات واستتباب وضعه على كرسي الرئاسة بادرت بإضعاف جهاز المخابرات وإقالة مسؤوله الكبير الجنرال “توفيق” وتعويضه بالجنرال عثمان طرطاق الذي كان يشغل منصب مستشار الرئيس قبل توليه جهاز المخابرات.

لكن بالنسبة لآخرين، وهم أكثر تفاؤلًا، يرون أن التعديلات الأخيرة التي أجراها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على جهاز المخابرات تدخل في سياسته في تحييد العسكر والمخابرات عن المجال السياسي، وسحب بساط السلطة من تحتهم، وهي سياسة بدأها منذ سنوات تجلت في إقالة العديد من الجنرالات والضباط في الجيش والمخابرات سواء، وبإقالة الرئيس جنرال المخابرات يكون قد أنهى المرحلة الأخيرة في عملية وقف تدخلات جهاز الأمن والاستعلامات في الشأن السياسي والمدني للجزائر.

وأيًّا يكن الأمر فقد أصبحت مؤسسة الرئاسة فعلًا تتحكم في جهاز المخابرات، ولم يعد للأخير تلك الهيبة التي كان يبدو فيها فوق كل المؤسسات، التشريعية والرئاسية والقضائية، غير أن البعض يذهب إلى أكثر من ذلك، حيث يطالبون بفتح تحقيق بخصوص الجهاز حول اتهامات له بمسؤوليته عن اقتراف بعض المجازر ضد الإنسانية بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة خلال العشرية السوداء.

ترتيبات مرحلة ما بعد بوتفليقة

يرتقب تعديل دستوري جديد لدى الجزائر في الأسابيع المقبلة، التعديل الذي سيمس مجموعة من الإصلاحات السياسية، كما سيحسم في تعيين نائب الرئيس، وبالتالي ستتوضح الخريطة السياسية لمرحلة ما بعد بوتفليقة بشكل جلي.

بشكل عام تنقسم رؤى المحللين حول مستقبل النظام السياسي بالجزائر، فهناك من يرى، وهو الاتجاه التشاؤمي، أن النخبة العسكرية سيستمر توغلها في السلطة السياسية للبلاد، وإن صنعت مشاهد توحي بأن هناك تحولًا نحو الديمقراطية، أما الاتجاه الأكثر تفاؤلًا فيرى أن مؤسسة الرئاسة قد نجحت إلى حد بعيد في تحييد الجيش والمخابرات عن الشأن السياسي والمدني، مما سيمهد للدخول في الديموقراطية المدنية الحقيقية دون أي خسائر جانبية.

سعيد بوتفليقة وبجانبه أخوه الرئيس المقعد عبد العزيز بوتفليقة


ومن أبرز الأسماء المرشحة لحكم الجزائر مستقبلًا، عبد الملك سلال الوزير الأول والطيب بلعيز وزير الداخلية السابق، وأحمد أويحيى مدير ديوان الجمهورية الجزائرية، وهي شخصيات تسير في خط بوتفليقة ومقربة إليه.

في سيناريو آخر يمكن ترتيب مرحلة انتقالية تقودها حكومة متوافق عليها من كل القوى الفاعلة في الساحة الجزائرية بما فيها الجيش والاستخبارات، تدير شؤون البلاد وتنظم انتخابات برلمانية ورئاسية وفق برنامج زمني، وفي حالة تم هذا الأمر فغالبًا سيكون علي بن فليس رئيس الحكومة السابق المرشح الأبرز؛ نظرًا لعلاقته التوافقية مع كل الأطراف الفاعلة.

أما احتمال ترشيح شخصيات تخرج من رحم المؤسسة العسكرية والأمنية، مثل عبد الغني الهامل مدير الشرطة، أو توريث الحكم لسعيد بوتفليقة، الأخ الأصغر للرئيس والذي يعد الآن النائب الخفي في حكم البلاد عن أخيه المريض، فهو اختيار يبدو بعيد المنال، ولا سيما أن ذلك كان سببًا من أسباب اندلاع الثورات العربية، وبالتالي ستحاول الدولة الجزائرية تجنب إعطاء انطباع واضح للرأي العام الوطني والدولي بترسيخ الحكم العسكري أو الوراثي بالجزائر.

تنتظر إذن الجزائر خلال مرحلة ما بعد بوتفليقة ثلاثة تحديات أساسية عليها أن تواجهها، وهي: الحفاظ على الأمن، وترسيخ العدالة في توزيع الثروة، وتعزيز المسار الديمقراطي، مستقبل الجزائر يتحدد بمدى نجاح تعامل الدولة مع هذه القضايا الثلاث.

اقرأ لدينا: تونس.. خطوة نحو الأمام وخطوة إلى الخلف

المصادر

تحميل المزيد