منذ أن انتصرت الولايات المتحدة الأمريكية مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، لم تربح أي حرب أخرى.
ساخرًا، يقرر مخرج الأفلام الوثائقية «مايكل مور» تعيين نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلحة الأمريكية، ويعفي جنرالاته من أي مغامرات جديدة لغزو دول أخرى، إذ تكفي مغامرات كوبا وفيتنام وكمبوديا والعراق وأفغانستان.
ويبدأ مور حملة مكونة من رجل واحد لغزو عدة دول أوروبية وإفريقية من أجل هدف مختلف، وهو العثور على أكثر الأمور الرائعة في تلك الدول، ليغتنمها ويعود بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
يعود مخرج الأفلام الوثائقية الحائز على جائزة الأوسكار مايكل مور، بفيلم جديد بعد انقطاع ست سنوات كاملة. قدم مور المشهور بجرأته وثقافته الواسعة وسخريته اللاذعة، العديد من الأفلام الوثائقية التي جعلت هذا النوع من الفن أكثر شعبية، بل واستطاعت أفلامه منافسة الأفلام الروائية والتجارية على شباك التذاكر.
على سبيل المثال، فيلمه «Fahrenheit 9/11» الذي يعرض للكيفية التي استغلت بها إدارة جورج بوش الابن لتفجيرات 11 سبتمبر (أيلول)، لتبرير حروب «جشعة وغير عادلة». وحقق الفيلم إيرادات وصلت إلى 119 مليون دولار في الولايات المتحدة فقط، متجاوزًا بذلك فيلم«The Aviator» للنجم «ليوناردو دي كابريو» والمخرج الكبير «مارتن سكورسيزي»، والذي حقق 102 مليون دولار داخليًا في نفس سنة العرض 2004.
غزو بلا حرب
في فيلمه الجديد «أين سنغزو في المرة القادمة؟ – Where to Invade Next؟»، يسافر مور في رحلات مكوكية لثمانية دول تشمل النرويج وتونس وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وأيسلندا والبرتغال وسلوفانيا لاكتشاف أفضل الممارسات التي تقوم بها مجتمعات هذه الدول من أجل تحسين نمط حياة مواطنيها.
في إيطاليا، زار مور إحدى المصانع الكبيرة لإنتاج الدراجات البخارية الرياضية، ليكتشف أن جميع الموظفين يحظون بساعتي راحة للغداء يوميًا، لا يأكلون فيها في المقصف، وإنما يذهبون لمنازلهم لقضاء هذا الوقت مع أسرهم، وليستمتعوا بوجبة منزلية ساخنة في صحبة أزواجهم أو زوجاتهم، وأبنائهم، ويأخذون كل الوقت اللازم لذلك، ثم يعودون لأعمالهم وقد شحنوا طاقتهم.
المثير للاهتمام أن الإيطاليين يعملون ست ساعات يوميًا فقط. يسألهم مور: «وماذا تفعلون في باقي الوقت»، ليجيبوه بأنهم يفعلون كل شيء ممكن للاستمتاع بالوقت، كالاستماع للموسيقى، وممارسة الهوايات، أو تعلم أمور جديدة، أو ربما يكتفون فقط بالجلوس على المقاهي مع أصدقائهم.
إلى جانب هذا، فمن حق الموظف الإيطالي أجازة سنوية مدفوعة لـ40 يومًا. يصدم مور عائلة إيطالية، عندما يُخبرها بأن عدد أيام الأجازة المدفوعة المتاحة للموظف الأمريكي «صفر».
في المقابل، تصدم العائلة الإيطالية، مور، عندما يُخبرونه أن القانون الإيطالي يفرض على أي شركة، منح الموظفة التي تلد، أجازة أمومة لخمسة أشهر. «إنها أهم فترة في حياة الرضيع»، هكذا تقول السيدة الإيطالية، ليرد عليهم مور بحسرة: «كل بلاد العالم تمنح أجازة أمومة، ما عدا بلدين: الولايات المتحدة وغينيا الجديدة».
يستأذن مايكل مور العائلة الصغيرة في غرس العلم الأمريكي في بيتهما الإيطالي الجميل، ويعلن لهما غزو أمريكا لإيطاليا رسميًا، وأنه غنم منها أفكار سينقلها معه للولايات المتحدة: ساعتي الغداء في البيت، وساعات العمل الأقل مع بيئة عمل أفضل، وأجازة أمومة طويلة كافية.

(المصدر: The Intercept)
أفخم مطاعم فرنسا
وفي فرنسا يأخذنا مور إلى مدينة صغيرة، حيث يقوم بزيارة أفخر المطاعم الموجودة في هذه المدينة «كافيتريا المدرسة». تقدم المدارس في الفرنسا وجبات صحية ولذيذة، يشرف عليها مجلس كامل يضم أعضاء من بلدية المدينة، وأخصائيي تغذية، وأعضاء من جهات تعليمية، لوضع برنامج غذائي صحي لطلاب المدارس يُراجع ويُقرّ أسبوعيًا.
يجلس مور على طاولة طعام ليأكل مع أطفال في المرحلة الإبتدائية، حيث يُقدّم الطعام إليهم بنظام «Full Courses Menu»، شاملًا عدة أطباق متتالية تبدأ بفاتح الشهية، ثم أطباق رئيسية، ثم طبق للتحلية.
يصطحب مور عبوة كوكاكولا معه، ليكتشف أن الأطفال لم يتذوقوها في حياتهم. يسأل الشيف إذا ما كانوا يقدمون للأطفال شطائر «الهامبرجر»، فيجيبه الشيف: «نعم، مرة واحدة في السنة».
يُصدَم مور عندما يعلم أن الشيف لم يأكل شطيرة برجر واحدة في حياته. فجأة تبدو ثقافة الطعام الأمريكية في الفيلم غريبة ومنبوذة.

(المصدر: Spirituality & Practice)
تمكين المجتمع يعني سعادته
وفي ألمانيا يصحبنا مور إلى مصنع «Faber Castle» الشهير لصناعة الأقلام الرصاص. يجلس مور مع مدير المصنع في مكان جميل وسط المدينة ليتحدث إليه عن أحوال العمال، ثم يسأله: «أين يقع المصنع؟»، يشير الرجل إلى مبنى قريب أنيق، ويقول: «ها هو أمامك»، يصرخ مور: «ما هذا؟ لا يمكن، هذا مبنى به نوافذ كبيرة، ويدخل إليه الشمس؟»، يضحك الرجل ويخبره أن عليه إبقاء العمال أصحاء وسعداء، كلما فعل ذلك زادت إنتاجيتهم وقلت مشاكلهم ولم يعان من أي ضغوط من نقاباتهم القوية.
يفهم مور أن ألمانيا تهتم بتمكين الطبقة المتوسطة عبر ضمان تمثيلهم في النقابات ومجالس إدارات الشركات، حيث يحتوى أي مجلس إدارة لأي شركة – من بين ذلك مرسيدس بنز – على عمال يمثلون 50% من أفراد المجلس. ويفهم أن الإبقاء على طبقة متوسطة قوية وواسعة هو الضمان الحقيقي لاستقرار المجتمع، ولمنع استقطاب حاد بين طبقة فاحشة الثراء وطبقة مدقعة الفقر كما هو منتشر في دول عديدة، منها الولايات المتحدة نفسها، التي يعيش فيها 43 مليون مواطن مصنف تحت خط الفقر.
المثير في ألمانيا أيضًا كم الأحداث الثقافية والتعليمية التي خصصتها الحكومة لدراسة الحقبة النازية من تاريخها، حيث قادت ألمانيا النازية دول المحور لتقتل ملايين البشر خلال الحرب العالمية الثانية، هذا إلى جانب جرائم التطهير العرقي التي قام بها نظام هتلر.
يرى الألمان أن الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه وتعويض الضحايا وأهلهم هو سبيل عدم تكراره، وسبيل التصالح مع الذات من أجل التقدم الحقيقي. ويتساءل مور: «هل يمكن لأمريكا أن تفعل المثل، وتصارح شعبها بجرائمها في حق السكان الأصليين لأمريكا، أو جرائمها في حق السود؟».
المزيد من الغزو والغنائم
يمضي بنا مور في فيلمه إلى عدة دول أخرى، تونس التي توفر عيادات مجانية تمامًا للسيدات، وتقر لهم الحق في الإجهاض ما دام اختيارًا شخصيًا، ورغم مجيئ حكومة بخلفية إسلامية لسدة الحكم بعد ثورة 2011، إلا أن السيدات ضغطن لينلن حقوقًا متساوية مع الرجال وأن ينص الدستور الجديد على ذلك.
وكذلك أيسلندا التي تعمل على تمكين السيدات أيضًا وإدراجهن في الوظائف الحكومية المختلفة، وفي مجالس إدارات الشركات والبنوك، ولاحظ أن البنك الوحيد الذي لم ينهر في أيسلندا إثر الأزمة الاقتصادية في 2008 هو بنك يدار بالكامل عن طريق سيدات.
أيضًا سلوفينيا، حيث يُقدّم التعليم الجامعي مجانا للجميع، سواء لمواطنين أو قادمين من الخارج، ولا يثقل كاهل الطالب بديون يدفعها في المصروفات ويسددها على مدار حياته من مرتبه.
وفي النرويج زار السجون التي تعتبر منتجعات متكاملة لا تعاقب المسجون إلا بسلب حريته، أما باقي حقوقه من أمان وغذاء وراحة ورياضة وتعليم وترفيه فإنها تُمنح له كاملة، كذلك ألغوا عقوبة الإعدام تمامًا لأنها من وجهة نظرهم عقوبة تسلب الكرامة الإنسانية من وجهة نظرهم.
يسأل والد شاب قتل في المذبحة التي نفذها نرويجي متطرف في 2011، عندما أطلق النار على معسكر دراسي قتل فيها 100 شاب: «إذا سنحت لك الفرصة، هل ستقتل هذا الشخص؟»، يجيب الرجل: «لا بالطبع، لا يمكنني النزول لمستواه، واعتبار قتل نفس حقًا لي، إنه ليس من حقي في الأساس».

(المصدر: CinemaMontreal.com)
يزور مور فنلندا، التي تتصدر دائمًا قائمة أفضل نظم تعليمية في العالم، رغم أن عدد ساعات العمل في اليوم أربع ساعات فقط، بما فيها وقت الغداء. ولا يُعطى الطلاب أية فروض دراسية للمنزل.
تقول له مديرة إحدى المدارس أنه «على الأطفال أن يعيشوا طفولتهم، ولا نكدسها لهم بمواد وواجبات لا تنتهي. بعد الدراسة سيذهبون ويمارسون هواياتهم ويتعرفون على أصدقاء جدد ويتواصلون مع أسرهم، هذه خبرات تعليمية في حد ذاتها، وفي اليوم التالي سيحضرون إلى المدرسة ويناقشون مع معلميهم وزملائهم تلك الأشياء. هذا هو التعليم الحقيقي».
يسلم مور بأن إحدى أسباب قدرة هذه الدول على تقديم كل تلك الخدمات لمواطنيها، هو فرض ضرائب على الدخول أعلى مما يفرض في الولايات المتحدة، ما يُمكّن تلك الدول من تقديم خدمات تعليمية وصحية وتوظيفية على أعلى مستوى.
لكنه يكتشف أن كل شيء من تلك الأشياء، يُقدم في الولايات المتحدة بتكلفة باهظة، تتجاوز أضعاف الفارق بين ضريبتي الدخل في أوروبا وأمريكا.
في فيلم مور «Where to Invade Next?»، نجده وقد خفّضَ بشدة من أسلوبه لاذع السخرية، فيما يبدو احترامًا للتجارب الإنسانية المذهلة التي نقلها، والتي تشكل معًا وصفة غنية لمجتمع ناجح وسعيد.