خلال العقود الماضية عرفت الصين بأنها «مصنع العالم»؛ فهي الدولة الأكثر إنتاجًا للمواد المصنَّعة في جميع أنحاء المعمورة، وبحصة مقاربة لـ30% من إجمالي الإنتاج العالمي، وما يقارب ضعف ما تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية التي تقع في المركز الثاني عالميًّا، كما تنتج ما يساوي مجموع إنتاج أمريكا واليابان وألمانيا مجتمعين، علما بأن الدولتين الأخيرتين في المرتبة الثالثة والرابعة على العالم.
لكنَّ الصين لم تَحُز هذه المرتبة بسهولة؛ فحتى عام 1990 لم تكن بكين تنتج سوى 3% من إجمالي إنتاج العالم، لكنها اعتمدت نموذجًا اقتصاديًّا خاصًّا جعلها في قمة الدول المصنعة في العالم، ودفع ناتجها المحلي الإجمالي للنمو 41 مرة بين عامي 1990-2020، بينما لم ينمُ ناتج الولايات المتحدة إلا 3.5 مرات في الفترة نفسها، وكذلك لم تشهد بكين عامًا واحدًا من الانكماش خلال هذه الفترة؛ بينما شهدت الولايات المتحدة عامي انكماش اقتصادي.
إذ استطاعت بكين استغلال قطاعها الصناعي لتنمية البلاد، واستغلال ذلك لتحسين معيشة سكانها بشكل جذري؛ فأنهت الفقر المدقع بشكل كامل ضمن خطة استمرت خمس سنوات، وأخرجت 800 مليون صيني من الفقر بشكل عام بين عامي 1990-2016، لتكون أكبر مساهم في تخفيض الفقر؛ كما أنها ضاعفت حصة الفرد من الناتج القومي أكثر من 30 مرة خلال الثلاثين عامًا الماضية.
ولكن بكين اليوم تحاول الاتجاه نحو نموذج اقتصادي مختلف، الأمر الذي يفتح الباب أمام دول أخرى لكي تخلفها في الإنتاج الصناعي رافعةً للتنمية؛ في مقابل محاولة الصين الوصول لنموذج يدخلها نادي الدول ذات الدخل المرتفع، ويخرجها من موقع الاقتصادات الناشئة؛ فما هو هذا النموذج؟
ادخار واستثمار دون استهلاك.. نموذج الصين الاقتصادي
خلال العقود الماضية؛ كانت تدخر وتستثمر بمعدلات مرتفعة جدًّا ولا يمكن مقارنتها بدول كثيرة في العالم، لكنها تستهلك نسبة قليلة جدًّا من ناتجها المحلي الإجمالي في المقابل.
ويعد هذا واقع الدول التي تعتمد نموذج النمو المدفوع بالصادرات؛ مثل اليابان وألمانيا، ولكن بيانات البنك الدولي تظهر أن النسب في الصين متدنية جدًّا من ناحية الاستهلاك (مجموع الإنفاق الاستهلاكي من جانب القطاع المنزلي والقطاع الحكومي معًا)، والمتبقي من ذلك الاستهلاك يجري توجيهه للاستثمار بالإضافة إلى الفارق بين الصادرات والواردات الذي ينفق في الاستثمار أيضًا.
الصناعة في بكين
ويُحسب الناتج المحلي عن طريق جمع الاستهلاك المنزلي وكل من الإنفاق الحكومي والفارق بين الصادرات والواردات؛ وعليه فإن نسبة الإنفاق الاستثماري في بكين مرتفعة جدًّا لكون نسبة الاستهلاك المنزلي والحكومي منخفضة جدًّا، وينعكس ذلك أيضًا على جانب الادخار المرتفع جدًّا في بكين مقارنة بغيرها، والذي قارب على نصف الناتج المحلي الإجمالي عام 2020.
وتشترك كل من اليابان وألمانيا مع الصين في نسب الاستهلاك المنخفضة ونسب الادخار المرتفعة، إلا أن كلتا الدولتين لا تقاربان النسب نفسها في الصين فيما الانخفاض الكبير في الاستهلاك أو الارتفاع الكبير في الادخار، وتعد هذه النسب مطلوبة جدًّا في الدول التي تعتمد نموذج النمو المدفوع بالصادرات؛ لأن الاستهلاك الأقل يعني أن العمالة تأخذ دخلًا أقل مقارنة بإنتاجيتها؛ ما يحافظ على تنافسية صادرات البلاد في الخارج.
إذ إن الفارق بين الثلاثي الذي يتبنى نموذج النمو المدفوع بالصادرات (الصين واليابان وألمانيا) وبقية الدول الغربية المتقدمة أن دول الغرب أنجزت مهام التنمية والتقدم منذ قرون، لذا لا يعد النموذج التصنيعي المعتمد على الادخار ضروريًّا بشكل حاسم بالنسبة إليها، إذ استطاعت مراكمة رؤوس الأموال والتكنولوجيا عبر قرون (مع استنزاف ثروات الدول التي استعمرتها) وأنجزت شوطًا كبيرًا من مهام التنمية، وذلك على عكس الدول الثلاث التي تستعيض عن مراكمة رؤوس الأموال في القرون الماضية عبر الادخار، ومع أنظمة بنكية تستطيع نقل الفائض (الادخار) ممن لا يحتاجه إلى من يحتاج رأس المال للاستثمار.
لذلك نرى معدلات مرتفعة من الادخار والاستثمار في دول مثل ألمانيا واليابان والصين، وهي دول لم تمتلك مستعمرات سابقًا (الصين)، أو جرى تدميرها في الحرب العالمية الثانية (اليابان وألمانيا)، ولم تستطع اللحاق تكنولوجيًّا بغيرها في العقود السابقة، وإن كانت اليوم أقوى اقتصاديًّا من دول أخرى كثيرة؛ بفضل نموذج التصنيع المعتمد على الادخار.
لكن نموذج النمو المدفوع بالصادرات في بكين لا يعتمد على ذلك فحسب؛ بل يتعداه إلى جعل الاستثمار في بكين أكثر جاذبية من غيرها من البلدان بالنسبة للمستثمرين الأجانب؛ خصوصًا من ناحية السعر، فالصين صاحبة أكبر عدد سكان في العالم وتستطيع تقديم ملايين العمال بأجور منخفضة جدًّا، كما أنها تمكنت من بناء بيئة أعمال كفؤة وأقل كلفة من غيرها؛ مع تقديم تفضيلات ضريبية وجمركية لمن يرغب بالاستثمار فيها، كل هذا بالإضافة إلى إبقاء عملتها المنخفضة بشكل متعمد؛ لتظل صادراتها أقل سعرًا؛ ومن ثم أكثر جاذبية لتستورد من الخارج.
كما تستثمر بكين كثيرًا في البنية التحتية، وفي تدريب عمالتها وتجهيزهم للعمل في مختلف القطاعات، وهذا يزيد من جاذبية التوجه نحو بكين، كما أنها تقدم بيئة عمل أقل رقابة وتشددًا من الغرب، ما يعني تقليلًا أكبر للتكاليف؛ ومن ثم زيادة الأرباح.
ومن ثم أصبحت الصين أكثر تكاملًا مع العالم، والحاجة بين الطرفين متبادلة ولا يمكن الاستغناء عنها في أي وقت قريب، فقد نجحت بكين في جعل نفسها في قلب الاقتصاد العالمي، وخصوصًا الجانب الحقيقي والملموس منه؛ والذي يتمثل بتصنيع منتجات مادية؛ وإن كانت أرخص ثمنًا من كثير من المنتجات المعقدة التي يصنعها الغرب، والتي تحتاج تكنولوجيا أكثر كثافة وتعقيدًا مما هو عليه في الصين.
لكن بكين أيضًا سعت باستمرار لكسر هذه العلاقة؛ كي تتمكن من صناعة كل شيء؛ وكذلك لكسر الاحتكارات التكنولوجية الغربية في كل الصناعات والقطاعات، ليصبح العالم معتمدًا على الصين؛ بينما تستطيع بكين إنتاج كل شيء.
لكن نموذج النمو المدفوع بالصادرات رغم كل فوائده يصل حاليًا إلى نقطة استنزاف كاملة لفوائده، ليصبح من الضروري أن تنتقل بكين إلى نموذج أو إستراتيجية أخرى، خصوصًا وأن معدلات الاستهلاك المنخفضة؛ والاعتماد على التصدير؛ يعني اعتمادًا كبيرًا في التنمية الصينية على الخارج، وعدم استغلال السوق الداخلية الضخمة لدفع عجلة النمو والتنمية في الصين.
لذلك تحاول القيادة الصينية اليوم تبني إستراتيجية أو نموذجًا مختلفًا؛ قد يترك وراءها فراغًا كبيرًا في العالم، وتسمي القيادة الصينية هذه الإستراتيجية بـ«التداول المزدوج»، وترغب من خلالها بالخروج من «فخ الطبقة الوسطى»، واللحاق بالدول المتقدمة وربما تجاوزها مستقبلًا، وخصوصًا منافسيها وخصومها في الغرب.
الإستراتيجية الجديدة في الصين
وترغب بكين من خلال إستراتيجية «التداول المزدوج» بتغيير نموذج النمو المدفوع بالصادرات إلى نموذج جديد يرتفع فيه الاستهلاك المنزلي، مع الإبقاء على التصدير؛ لكن مع جعل الاقتصاد المنزلي (التداول الداخلي) محرك الاقتصاد الرئيسي، مع دعمه بالتصدير (التداول الخارجي) الذي سيبقى له دور محوري في الاقتصاد الصيني.
وتحتاج بكين للتحول لهذا النموذج بسبب ما طرأ في الأعوام الماضية منذ 2008 وحتى الآن؛ من الأزمة المالية العالمية التي أضرت كثيرًا بالتجارة في العالم، ومن ثم بقدرة الصين على الاعتماد على الخارج على شكل التصدير محركًا لاقتصادها، مرورًا بالحرب التجارية مع أمريكا التي تهدد بتقويض قدرة الصين على الاستمرار في نموذجها؛ ووصولًا لجائحة كورونا التي خنقت التجارة العالمية وما تزال.
لذا تحتاج بكين إلى البدء على الاعتماد على ذاتها؛ حتى في التصدير نفسه، فهي تحتاج إلى خلق سلاسلها الخاصة بها التي تربطها بالعالم؛ والمتمثلة بمبادرة «الحزام والطريق»، مع زيادة حصة الاستهلاك الداخلي في الاقتصاد.
ففي الاقتصادات الغربية التي تمتلك معدلًا مرتفعًا جدًّا من مراكمة رأس المال عبر قرون؛ يصبح الاستهلاك بمعدلات ضخمة جدًّا أساسيًّا للاقتصاد؛ إذ يعني الاستهلاك أرباحًا أكبر، والتي تعني بدورها إمكانية توظيفها أكثر وقدرة شرائية أعلى، ما يعني توظيفًا أكثر ونموًّا وهكذا دواليك، وفي المقابل؛ كانت بكين تحتاج سابقًا إلى الاعتماد على دورة خارجية؛ بحيث تستبدل استهلاكها الداخلي باستهلاك خارجي، ومعدلات ادخار مرتفعة جدًّا لتُحوِّل إلى استثمار، ينتج صادرات أكثر ونموًّا ووظائف وهكذا.
الاستهلاك في بكين
لكن الظروف التي أسلفنا ذكرها تحول دون استمرار ذلك النموذج؛ كما أن بكين كانت تمتلك فجوة بين الاستثمارات الموجودة فيها وحاجتها من الاستثمار، وظل نموذج النمو المدفوع بالصادرات قادرًا على توليد النمو والتنمية طوال فترة سدِّ هذه الفجوة؛ لكنها سُدَّت الآن، وأصبح جزء كبير من النمو الصيني مضخمًا وبحاجة لإعادة توظيفه بشكل أفضل مع تغيير النموذج.
لكن بشروع بكين في إستراتيجية «التداول المزدوج» سواء نجحت أو أخفقت، في كلتا الحالتين ستترك الصين فراغًا في مجال التصنيع على العالم سده للوفاء باحتياجاته من الصناعات؛ فكيف يمكن أن يتضرر العالم إن لم يوفر البديل؟ ومن هؤلاء البدلاء المحتملون؟
العرب ليسوا مرشحين.. الوارثون المحتملون لـ«مصنع العالم»
إذا كانت الصين «مصنع العالم»؛ ومنتجة ما يقارب 30% من احتياجه، وما يماثل إنتاج كل من الولايات المتحدة وألمانيا واليابان؛ فهذا يعني أن أي تراجع لدى بكين عن نموذجها الحالي؛ ولو كان قليلًا سينتج اختلالًا كبيرًا في العالم، وفراغًا يحتاج العالم ملأه في أسرع وقت ممكن.
إذ تمثل الصين اليوم 15% من تجارة العالم، ويتوقع أن تساهم بربع النمو العالمي خلال الأعوام القادمة حتى 2026، وأي انخفاض في صادراتها يعني انخفاضًا في العرض العالمي؛ وهو يعني من ثم ارتفاعًا للأسعار، ما لم يعوض من مصدر آخر، ولكنه قد يعني أيضًا انخفاضًا في طلب الصين ومن ثم الطلب العالمي.
فلكون عالمنا اليوم مرتبطًا بعضه ببعض ارتباطًا كبيرًا؛ ولأن الصين تمثل هذه النسبة الضخمة من الاقتصاد العالمي؛ فأي اختلال في الاقتصاد الصيني يعني اختلالًا في الاقتصاد العالمي بأسره، خصوصًا في ظل الوضع الهش الذي يشهده العالم، والذي يشهد مخاوف الوقوع في أزمة ركود تضخمي، ترتفع فيه الأسعار نتيجة لارتفاع المواد الأولية مثل النفط الذي يبلغ سعره حاليًّا 120 دولارًا تقريبًا.
ولكن مهمة استبدال الاقتصاد الصيني ليست بهذه السهولة؛ فبكين لم تتبوأ مقعدها الحالي في العالم في عام أو عامين، بل اضطرت لإنفاق استثماري ضخم، وشبكات سلاسل تجارية معقدة يعتمد عليها العالم اليوم، ومجرد نقلها أو استبدالها يعني ارتفاعًا في التكاليف، كما أن الدول الأخرى قد لا تنجح في تبني نموذج الصين.
فعلى سبيل المثال؛ يجري اقتراح الهند بديلًا للصين؛ فعدد سكانها مقارب جدًّا لها، وهي أيضًا تمتلك عمالة رخيصة جدًّا، لكن الهند نفسها تعتمد في إنتاج قيمة صادراتها على الصين بشكل كبير؛ فربع القيمة المضافة للصادرات الهندية يأتي من الصين وحدها، والهند تستورد 14% من حاجاتها منها، وهذا يعني أن الهند غير مستعدة لاستبدال الصين.
عدا عن ذلك؛ فالصين تحتاج لاستيراد مواد أقل لإنتاج صادراتها مقارنة بالهند، وهذه حالة كثير من الدول الأخرى المرشحة لاستبدال الصين، كما أن كثيرًا من الدول المقترحة لاستبدال الصين لا تمثل اليوم إلا نسبة يسيرة من الصناعة في العالم؛ ففيتنام لا تظهر ضمن قائمة أول 10 دول، والمكسيك لا تمثل إلا 1.5% من إجمالي الإنتاج الصناعي الحالي، والهند تمثل 3% فقط، وكل من سنغافورة وماليزيا لا تظهران على القائمة أيضًا.
ومن بين هذه الدول لا يمكن القول إن النموذج المتبع في بكين اليوم يمكن تطبيقه في المستقبل المنظور إلا في سنغافورة، والتي تمتلك معدلات ادخار أعلى من الصين، وكذلك معدلات استهلاك أقل منها، ولكن عدد سكانها لا يتجاوز 6 ملايين نسمة، وهو أقل من هونج كونج حتى، وهي تعاني من ميزان تجاري سالب (المستوردات أكبر من الصادرات)، وصادراتها لا تمثل إلا 10% تقريبًا من صادرات بكين.
أما باقي الدول فلا تمتلك معدلات استهلاك منخفضة مثل الصين؛ ولا معدلات ادخار عالية، وهو ما يعني أنها بالغالب تعاني من فجوة استثمارية يجب سدُّها، وأغلب هذه الدول تقع ضمن منطقة تعاني من فجوة استثمارية مقدرة بـ460 مليار دولار سنويًّا، وبطبيعة الحال لا تقع الدول العربية ضمن قوائم الدول التي يمكن لها أن تملأ جزءًا من فراغ الصين؛ فرغم التحديات التي تواجه الدول الأخرى، تبقى الدول العربية بتحديات أكبر وأصعب.
فأكبر الدول العربية من حيث السكان، والتي تمتلك أيضًا عمالة رخيصة تعاني من معدلات ادخار منخفضة جدًّا، ونسبة استهلاك قطاعها المنزلي إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة جدًّا، ودون دور كبير للإنفاق الاستثماري، كما أن الإنفاق الحكومي على الاستثمار لا يعول عليه ولا يمثل إلا نسبة ضئيلة جدًّا من الناتج المحلي الإجمالي، والبلاد متجهة أكثر وأكثر للاقتراض من الخارج لتأمين احتياجاتها، وتدفع ما يقارب ثلث نفقاتها سدادًا لفوائد الديون فقط.
وبينما ينتج العالم قيمة مضافة من الصناعة بنحو 13.5 ترليونات دولار وفقًا لبيانات عام 2020، تساهم الدول العربية بما لا يتجاوز 2% من هذا الإنتاج إلا بقليل، رغم أن العالم العربي يمثل 5.6% من سكان العالم، وحتى وفق الناتج المحلي الإجمالي فإن الوطن العربي لا ينتج إلا أقل من 3% من إجمالي إنتاج العالم، رغم أنه يحتوي على بعضٍ من أغنى دول العالم من حيث حصة الفرد للناتج القومي؛ في الدول المصدرة للنفط طبعًا، لا المصدرة للصناعات والتكنولوجيا وغيرها.
علامات
اقتصاد, التداول المزدوج, الصين, الناتج المحلي الإجمالي, حرب تجارية, صادرات, عمالة رخيصة, مستوردات