كان الشاب الهندي المسلم تبريز أنصاري؛ يسير في طرقات ولاية جاركاند الهندية، لا يلوي على شيء، ولا ينوي شرًا لأحد، حتى شعر بالضربة الأولى تصل إلى جسده، ثم تردد صوت في أذنه آمرًا إياه بترديد هتاف: «يحيا الإله رام». وإن لم يقتنع تبريز من الضربة الأولى، سيقتنع بعد الضربة العاشرة ويردد الهتاف والدماء الممزوجة بالدموع تسيل على شفتيه. 

تلك هي وسيلة الهندوسيين المتشددين في الهند، الذين يجوبون الشوارع؛ ممارسين العنف ضد المسلمين، رافعين اسم الإله رام فوق رؤوسهم تبريرًا لأعمال العنف المتبعة والتي تتضمن المئات من المسلمين في الهند. فمن هو الإله رام؟ ولماذا زُج اسمه في كواليس الدين والسياسة في الهند؟

دولي

منذ 4 سنوات
ماذا يعني أن تكون مسلمًا في الهند التي يحكمها مودي؟

«اهدموا هذا الجامع لنمجد اسم رام»

إقحام اسم الإله الهندوسي رام في الشعارات والهتافات السياسية، جاء في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مع تصاعد أزمة أرض مسجد باربري، والتي تعتبر منطقة نزاع ديني تسببت في العديد من الانقسامات والخلافات بين المسلمين والهندوس في الهند. وهذا المسجد الذي يقع في مدينة أيوديا، والذي بُني في عام 1528؛ يزعم الهندوس أنه شيد فوق معبد للإله رام، ولذلك تقدمت مسيرة غاضبه في ذاك الوقت، مرددة لاسم الإله رام وهدمت أجزاءً كبيرة من المسجد تحت قيادة زعيم «الحزب الهندوسي» لا كريشنا أدفاني.

ولم يكن هذا الهدم الذي وقع في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حلًا للأزمة القائمة حول هذه الأرض، بل كان بداية نزاع مستمر حتى يومنا هذا أمام القضاء، وبداية أيضًا لرفع شعار «يحيا الإله رام» على ألسنة المتطرفين الهندوسيين في شوارع الهند وهم يحطمون معنويات المسلمين كما حطموا مسجد بابري.

تلك المظاهرة الغاضبة التي هدمت المسجد، جاءت بعد التماس قُدم إلى القضاء في الهند يطالب بالسماح للهندوس بدخول المسجد لأداء الصلاة للإله رام، الأمر الذي رفضته المحكمة وعلق عليه  رئيس المحكمة الجزئية قائلًا: «من المؤسف أن يُبنى مسجد فوق معبد هندوسي، ولكن هذا أمر وقع منذ 356 عامًا وفات أوان التظلم بشأنه»، هذا التصريح لم يكن كافيًا لمقدمي الالتماس من الهندوس فقرروا هدم المسجد بأيديهم متجاهلين قرار القضاء والقانون.

ظل النزاع قائمًا، والالتماسات من المسلمين والهندوس تتراكم أمام القضاء، ما دفع القضاة في العام 2010 بالحكم بتقسيم الأرض المتنازع عليها بين المسلمين والهندوس، هذا الحكم الذي لم يلق رضاء أي من الأطراف؛ ليستمر النزاع  حتى الآن، وتستمر المظاهرات الرافعة لاسم الإله رام.

وكان لحزب «بهاراتيا جاناتا» دور كبير في إقحام اسم الإله رام على لافتات الشعارات السياسية لحملته الانتخابية، والتي استغلها لكسب أصوات الناخبين من الهندوس ونجح في ذلك ليس في الماضي فقط، ولكن في انتخابات هذا العام 2019 بعد أن  فاز الحزب -المضطهد للمسلمين- في الهند باكتساح؛ ليهدد أمان واستقرار حوالي 172 مليون مسلم يعيشون في الهند، بعد أن استخدم اسم الإله رام رمزًا سياسيًّا للتعبئة الهندوسية.

«النمل الابيض» تدهسه أقدام «حراس الأبقار»

شعار «يحيا الإله رام» تعدى حدود مدينة أيوديا حيث أرض المسجد محل النزاع، وانتشر في أنحاء الهند على أيد أفراد الهندوس المتشددين الذين صاروا يستهدفون المسلمين في الطرقات، معتدين عليهم واصفين أنفسهم باسم «حراس الأبقار» المنتقمين من المسلمين الذين يذبحون الأبقار ويأكلونها، في حين أن الهندوس يقدسون البقر ويعبدونه.

الأمر لم يتوقف عند ترهيب المسلمين أو  تعذيبهم، بل قتل «حراس الأبقار» مؤخرًا ما يقرب من 40 مسلمًا معظمهم من تجار الماشية والمزارعين، في 12 ولاية هندية، بالإضافة إلى عدد الإصابات الذي وصل للمئات.

إفلات تلك المجموعات المتطرفة من العقاب، يعود إلى غض بصر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عنها، والذي وصف المسلمين في الهند بالـ«النمل الابيض» في دلالة واضحة على تحقيرهم والتقليل شأنهم حتى وإن كانت أعدادهم كبيرة، بالإضافة إلى وصف أعضاء حزب «بهاراتيا جاناتا» تلك الحوادث ضد المسلمين بكونها «تافهة» ولا تستحق الاهتمام مطالبين الصحافة بعدم تشويه صورة الحكومة الهندية أمام العالم.

ولكن هذا النفي يتناقض مع ما أظهرته مقاطع مصورة مؤخرًا للشباب المسلمين الذين عذبوا على يد «حراس البقر»، مما صدر صورة واضحة عن عدم رفض حكومة مودي لما يجري من عنف ضد المسلمين؛ حيث إن قلة قليلة من «حراس الأبقار» هي من تتعرض للعقاب، أما البقية فيخرجون من المحاكمات أبرياء «لعدم كفاية الأدلة». وتلك الحوادث التي وصفها الحزب بكونها «تافهة» تضمنت حادثة الشاب البالغ من العمر 24 عامًا تبريز أنصاري.

لقطات من المقطع المصور لتعذيب الشاب المسلم تبريز

«كان على الشرطة نقله إلى المستشفى بدلاً من اعتقاله وتركه متأثرًا بجراحه في السجن»؛ كان هذا هو تعليق زوجة تبريز، وفي دفاعها بررت الشرطة الهندية أن مجموعة من القرويين أحضروا تبريز إلى القسم وعلى جسده معالم الضرب والتعذيب، واتهموه بسرقة دراجة نارية.

 ولكن بعد أن حققت الشرطة في الأمر، أدركت أن تبريز لم يشرع في سرقة هؤلاء الرجال، بل هم من هجموا عليه هو وأصدقاءه الذي تمكنوا من الفرار، في حين فشل تبريز في ذلك، ليصبح فريسة لهؤلاء الرجال الهندوس، الذين ربطوه في عمود خشبي طويل واستمروا في تعذيبه ليلة كاملة وأجبروه على الهتاف باسم الإله رام، الأمر الذي لا يفسر تهمة السرقة التي حاول المعتدين إلصاقها بتبريز.

وبعد ثبوت براءة تبريز؛ رفعت زوجته دعوى قضائية على ضباط الشرطة الذين أدخلوه الزنزانة وحبسوه أربعة أيام حتى توفى، بدلًا من نقله إلى المستشفى وإنقاذ حياته،حيث توفي في زنزانته متأثرًا بجراح جسده، وكرامته النازفة. وتبريز ليس المسلم الوحيد الذي تعرض للضرب والتعذيب حتى الموت على أيدي حراس البقر، أو الهندوس المتشددين، فمن جانبه علق أسد الدين العويسي عضو البرلمان، ورئيس مجلس عموم الهند، موضحًا أن تلك حادثة ليست حادثة عرضية، بل هو نمط مألوف يتبعه الهندوس المتشددون تجاه المسلمين.

ففي بداية العام الماضي 2018، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور مشابه لعجوز مسلم من ولاية راجستان، يصفعه شاب مراهق ما يزيد عن 25 صفعة أمام عدسات الكاميرا. هذا المقطع الذي استمر نحو ثلاث دقائق، نشره المراهق فيناي متباهيًا بتعذيبه للمسلم محمد سالم البالغ من العمر 50 عامًا، مطالبًا إياه بترديد: «يحيا الإله رام»، فلم يرد عليه الرجل سوى بكلمة واحدة: «الله سبحانه وتعالى».

وفي منتصف العام 2017، وقعت حادثة أخرى، حين هجمت مجموعة من «حراس البقر» على تاجر الألبان بهلو خان، وضربوه ضربًا مبرحًا ونقل إلى المستشفى وهو في حالة حرجة، وتوفي نتيجة لجراحه بعد ثلاثة أيام. وكان تبرير الرجال الذين قُبض عليهم بتهمة الاعتداء والقتل بأنهم «يدافعون عن الإله رام والهندوسية»، متهمين بهلو بتهريب الأبقار بما يخالف قوانين الهند، وبعد الإفراج عن المتهمين، وجه الاتهام للمسلم المتوفى بلهو خان وأبنائه، وخلال هذا العام ظهرت براءة بهلو، ولكن ما زالت التهمة موجهه لأبنائه حتى الآن.

«أرجوكم لا تقتلوا المسلمين باسمي»

في اللغة السنسكريتية، إذا رأيت أحد الأصدقاء المقربين إلى قلبك، وودت الترحيب به بحفاوة عليك أن تقول: «رام! رام!»؛ فهذا الإله رام أو راما كما ينطقها البعض هو رمز لإحكام العقل، والعمل الطيب، والكثير من الفضائل المرغوبة في البشر، وهو الإله الذي يعرف عنه في الديانة الهندوسية كثرة التشفع للموتى من الهنود واستقبالهم باستحسان ورفق.

«أرجوكم لا تقتلوا المسلمين باسمي» هي جملة استخدمها رسام الكاريكاتير ساتيش أشاريا في عمل فني انتقد من خلاله أعمال العنف والقتل المرتكبة في حق المسلمين بالهند باسم الإله رام، والذي جسد فيه مجموعة من «حراس الأبقار» يضربون رجلًا مسلمًا مطالبين إياه بترديد شعار «يحيا الإله رام»، بينما يقف -في الرسمة- الإله رام باكيًا مرددًا تلك الجملة، لتعبر تلك الصورة عن مدى تناقض التعاليم المرتبطة بالإله رام في الديانة الهندوسية، بما يفعله هؤلاء الهندوس من عنف وتدمير.

ما رسمه رسام الكاريكاتير ساتيش أشاريا اعتراضًا على موجات العنف ضد المسلمين. مصدر الصورة موقع «بي بي سي»

يعتبر الإله الهندوسي رام من أكثر الآلهة ذات الشعبية في الهند، وهذا يعود لكونه بطلًا لواحدة من أهم الملاحم الهندية وهي ملحمة الرامايانا، والتي تدور أحداثها في أيوديا حيث الأرض المتنازع عليها الآن. وتدور الملحمة حول نجاح رام بالفوز بقلب الأميرة سيتا والزواج منها بعد منافسة قوية مع العديد من الرجال الأشداء، ولكن زواجه من الأميرة لم يكن على هوى زوجة أبيه التي دبرت ضده مؤامرة أدت إلى نفيه هو زوجته إلى منطقة موحشة ومعزولة.

لم يتسبب هذا في قتل الحب بين رام وسيتا، ولكن أحد منافسيه من الملوك خطف حبيبته وزوجته، و لم يهدأ لرام بال حتى استعادها من الملك وقتله جزاء فعلته، وتلك الملحمة أظهرت الإله رام شجاعًا، ووفيًا، ومُحبًا. وعلى الرغم من أن الرامايانا بما تضمنه من أبطال وأحداث تعتبر مثالًا يقتدي به الهندوس في حياتهم، إلا أن الصفات التي أظهرتها الملحمة عن الإله راما لا تمت بصلة بما يُفعل من أعمال قتل وتعذيب للمسلمين تحت اسمه.

 كان رام -كما ذُكر في الملحمة- متسامحًا، ورغم وقوع أبيه الملك في الفخ الذي نصبته له زوجته الصغيرة الجميلة، والذي جعله يطرد ابنه من مملكته ويولي ابنها بهارت بدلًا منه؛ فقد اختار رام ألا يقف في حرب أمام والده، وترك بلاده هو وزوجته وظل شريدًا في الغابات ما يزيد عن 14 عامًا؛ عانى فيهم جميع أنواع العذاب والتعب والإرهاق.

وحتى عندما أعلن رام الحرب على الملك الذي خطف زوجته، كانت تلك الحرب درسًا في كرم الأخلاق والعفو، لأنه رفض في محاولاته الأولى إراقة الدماء وتدمير البلد، واستمات -كما حكت الملحمة- في أن يصل إلى زوجته دون إيذاء أي إنسان، والملحمة عمومًا أظهرت رام معلمًا روحانيًا للهندوس، وحاولت من خلاله توصيل العديد من الرسائل الهادفة للسلام والحب.

وعندما عاد رام إلى وطنه، وجلس على عرش أبيه، لم يفكر في الانتقام ولم تسيطر عليه شهوة الحكم، بل كان حاكمًا عطوفًا على شعبه وعادلًا معهم «كأنه أب ممتلئ قلبه بالحنان والشفقة والرحمة على بنيه»، ولهذا فقط أحبه الشعب الهندي واتخذه بطلًا أسطوريًا وإلهًا في نهاية الملحمة.

دولي

منذ 4 سنوات
تصطاد في المياه العكرة.. هكذا تحرض إسرائيل الهند على باكستان!

المصادر

تحميل المزيد