بات الأمر في قصر المرادية بالجزائر أشبه بما نسمع عنه ويحدث في مثلث برمودا، فلا أحد يفهم ما يجري هناك بما في ذلك الجزائريون أنفسهم بعد التطورات الأخيرة المتلاحقة، التي لا تخلو من التناقض والغرابة.
لطالما كان الكل يعتقد أن الجيش والمخابرات هما من لهما اليد الطولى في الجزائر، وهما من يحركان سياستها من وراء ستار، حتى أن البعض يستدعي نموذج الجزائر في حديثه عن النظام العسكري بالعالم العربي، بيد أن ما وقع في الفترة الأخيرة يضرب كل تلك الاعتقادات عرض الحائط، مما ينبئ بأن الوضع يتغير.
فماذا يحدث في الجزائر؟!
استفاق الجزائريون قبل أسابيع على خبر إقالة محمد مدين الملقب بالجنرال توفيق من قبل مؤسسة الرئاسة، وهو قائد جهاز الاستخبارات الجزائرية، الذي شغل منصبه قبل 25 سنة، أي منذ بداية حرب “العشرية السوداء”، يصفه الكثير بأنه “رب الدزاير” لسلطته النافذة، ولا أحد رآه من غير مقربيه سواء على شاشات وسائل الإعلام أو على أرض الواقع، ما عدا بعض الصور التي تنسب له.
تبع ذلك تنحية أكثر من 13 جنرالًا في الجيش والمخابرات، وضعوا تحت الإقامة الجبرية على الأراضي الجزائرية، وبعضهم طالهم طوق الاعتقال، بالإضافة إلى إقالة العشرات من الضباط والألوية بالجهازين من مهامهم، وزحزحة عشرات آخرين من مواقعهم لمهام أخرى.
كل ذلك أضفى على المشهد السياسي الجزائري الغامض أصلًا مزيدًا من الغموض، إذ كانت قرارات الإقالات هذه لتبدو طبيعية لو كانت بإحدى الديموقراطيات المتقدمة التي تسائل جيوشها وأجهزة مخابراتها داخل قبة البرلمان، لكن مع النظام الجزائري الذي يعرف عنه توغل مؤسسته العسكرية بمراكز القرار، يصعب تصديق أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد أقال العديد من الجنرالات بين عشية وضحاها وهو مقعد!
هل من المعقول أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة كان يستجمع نفوذه في مراكز السلطة بالدولة طوال الولايات الثلاث الماضية، حتى شعر في ولايته الرابعة أنه يستطيع اتخاذ قرارات جريئة مثل تحييد الجيش عن السياسة واستعادة مؤسسة الرئاسة سلطاتها الدستورية المسلوبة؟
بالنسبة للبعض لا يعدو ذلك أن يكون سوى تصفية حسابات بين أجنحة قصر المرادية، أو بالتحديد تصفية جناح الجنرال توفيق الذي كان قد عارض ترشح عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة، أما بالنسبة لآخرين فيمثل ذلك حلقة من حلقات تحضير وافد جديد إلى الحكم، قد يكون من مقربي الرئيس، وبالأخص مستشاره وشقيقه عبد العزيز بوتفليقة.
عقبت المعارضة السياسية الجزائرية التي لم تستسغ الطريقة التي تمت بها إقالة عدد من الجنرالات بأن ذلك “يهدد أمن البلاد”، ليرد عليها أمين ديوان الرئاسة أحمد أويحيى: “هناك أطراف سياسية تريد إرباك المشهد، لقد نزلت عليهم محبة مفاجئة تجاه “دي آر آس” (المخابرات الجزائرية)، هؤلاء كانوا يسمون هذا الجهاز بالبوليس السياسي والجزارة”.
هل يتغير الوضع في الجزائر حقًّا؟!
في خطوة هي الأولى من نوعها، طالبت في الأسبوع الماضي مجموعة من الشخصيات الجزائرية العامة والمعروفة علانية في ندوة صحافية في العاصمة بلقاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، للتأكد من أن أحواله الصحية تتيح له إدارة شؤون البلاد، كان عدد هذه الشخصيات 19 فردًا، بينهم شخصيات سياسية وثقافية لها وزنها كالمرشحة الرئاسية السابقة ورئيسة حزب العمال لويزة حنون، ووزيرة الثقافة سابقًا خليدة تومي والكاتب رشيد بوجدرة.
طلب لقاء عبد العزيز بوتفليقة للتأكد من صحته، لا يمكن أن يفسر سوى أن هؤلاء غير واثقين بأن رئيسهم المقعد هو من اتخذ مثل تلك القرارات “الجريئة”، والتي نفذت بسلاسة دون أدنى معارضة في صفوف المؤسسة العسكرية، وبالتالي هناك فاعل أقوى وهو من يشغل الدور الرئاسي وراء كرسي بوتفليقة، أو أنهم يريدون التأكد من أهلية الرئيس للحكم.
و أيا كان فقد مثلت تلك الرسالة بمثابة إلقاء حجر كبير في بركة مياه السياسة الجزائرية الراكدة، وصفتها صحيفة لوفيجارو الفرنسية بأنها “أيقظت الحياة السياسية الجزائرية من حالة الموت السريري”.
وكما كان متوقعًا فلم يستجب لطلبهم حتى الساعة، واتهم محيط بوتفليقة الجنرال توفيق المقال بالوقوف وراء “المجموعة 19” المطالبة بلقاء الرئيس، إلا أن رفض اللقاء يزيد الرأي العام المحلي والدولي توجسًا وارتيابًا في حقيقة الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة، وهل هو بالفعل من يدير الجزائر الآن، وبالتالي فإن هذه الرسالة من “المجموعة 19” تضع السلطات الجزائرية أمام الأمر الواقع.
يذكر أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، المعاد انتخابه للولاية الرابعة على التوالي، لم يخاطب الشعب الجزائري مباشرة منذ عام ونصف، ولم يظهر في شاشات الإعلام الجزائري إلا بضع مرات، حيث أقعده المرض على كرسي متحرك منذ أن أصيب بجلطة دماغية سنة 2013، وهو ما يثير شكوكَا حول حقيقة الوضع الصحي وقدرته على إدارة شؤون البلد.
إلى أين يتغير الوضع في الجزائر إذن؟
يصعب التكهن بمستقبل الانتقال السياسي أمام الوضع الغامض والأفق المسدود الذي تتجه نحوه الجزائر، فأمام إصرار قصر المرادية على أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المريض سيستكمل ولايته حتى 2019، يزداد الشك والارتياب في أوساط المعارضة السياسية والشعبية من قدرة الرئيس على التسيير بسبب وضعه الصحي المتدهور.
يبدو أن رصيد التعاطف والشفقة الذي كان يشفع للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالاستمرار في الحكم بالرغم من حالته الصحية المشلولة قد بدأ يتآكل، ومن شأن ذلك أن يقوي جبهة المعارضة، في حال إذا ما زادت الضغوط السياسية والشعبية ورضخت السلطة في قصر المرداية، فإن الجزائر قد تتجه لانتخابات رئاسية مبكرة باستثمار المادة 88 من الدستور الجزائري التي تخول إعفاء الرئيس حالة عجزه عن أداء مهامه الدستورية.
في كل الأحوال حتى لو تم ذلك بسلاسة فإنه من المستبعد حلول رئيس جزائري جديد خارج دائرة المقربين من قصر المرادية.
أما إذا زادت الانقسامات بين أجنحة الحكم، فإنه يخشى السقوط في مستنقع العنف مرة ثانية كما تحذر تقارير أمريكية (مركز كارينيغي الأمريكي)، وإذا ما وقعت الجزائر في هذا الخيار السيء، فإنها بالتأكيد لن تتضرر وحدها، بل سيسقط السقف على رؤوس المنطقة المحيطة بأكملها، بحيث تصل التداعيات إلى المغرب وتونس وليبيا ومالي.
للجزائر الكثير من الأسباب لتحافظ على استقرارها، فهي تواجه أزمة انخفاض أسعار البترول من جهة، وتفشي الفساد والنهب من جهة ثانية، وثالثة تندلع بين الفينة والأخرى التوترات الطائفية العرقية لديها، ومن جهة ثالثة تتهددها أخطار الجماعات الأصولية المتطرفة على الحدود.
وينتظر كما جاء في رسالة وجهها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة الذكرى الـ 61 لاندلاع ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، في 1 نوفمبر 1954 نشرتها وكالة الأنباء الرسمية، تعديلات دستورية قادمة، من شأنها تعزيز طريق هادئ للانتقال الديموقراطي، يعد من خلالها بتعميق الفصل بين السلط وتقوية المعارضة البرلمانية ووضع آلية مستقلة لمراقبة الانتخابات مع تعزيز الحقوق والحريات.
الانتقال الديموقراطي التام ليس مطلبًا سهلًا، فهو لا يتحقق إلا بعد وقت طويل وديناميكية شاقة من الإصلاح والتغيير تسري داخل جميع مستويات الدولة والمجتمع معًا، لكن ما قد يأمله الجزائريون هو وضع السكة على الطريق الصحيح لتحقيق انتقال سياسي سلس يقي البلاد السوء.
بإمكانك قراءة سيناريوهات ما بعد بوتفليقة لتتضح الصورة أكثر في هذا الجانب.