لا شك، في أنّ الحرب العسكرية الدائرة الآن على الأراضي الأوكرانية، وما حملته من تصعيد بين موازين القوى في الفضاء العالمي، تستحوذ على جل الاهتمام. لكن سريعًا، ربما أسرع مما تنبأت له المؤسسات الدولية والاقتصادية، في أنّ الاضطرابات التي صنعها الوباء وأكمله التصعيد العسكري بين الناتو وروسيا وأمريكا وحلفائها والصين؛ بدأت النتائج المباشرة من هذا الصراع في التجلي بقوة في سريلانكا، اليوم.

فبعد تظاهرات حاشدة بدأت بعفوية وانتهت تدميرية، استطاعت سريلانكا طي حكم آل راجاباكسا وإنهاء سطوة عائلتهم السياسية لمدة دامت أكثر من عقدين من الزمن. وفي ظروف استثنائية كالتي يعيشها العالم اليوم، تقابلها اضطرابات تتقارب معها الاحتجاجات الشعبية في سريلانكا، ضد الطبقة الحاكمة قبعت فيها الأسباب السياسية في آخر قائمة الأسباب التي أطاحت الرئيس السريلانكي، غوتابايا راجاباكسا، وأجبرته على الفرار إلى جزر المالديف. وبالرغم من أن سريلانكا يبدو أنها تخلصت من راجاباكسا بشكل لا رجعة فيه، فإن أزمات راجاباكسا التي أطاحته الجماهير لأجلها لا تزال باقية.

القصة من البداية: هكذا أطاح كوفيد-19 وحرب روسيا آل راجاباكسا

نجا غوتابايا راجاباكسا، الرئيس السريلانكي الذي أطيح مؤخرًا، من ملاحقته باتهامات بالفساد وإساءة استخدام أموال الدولة، والتي من بينها تبذير أموال الخزانة العامة في بناء نصب تذكاري لأسلاف عائلة راجاباسكا عندما كان في منصب وزير الدفاع، ونجا من الاغتيال مرتين الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 2006 نفذها مسلح من جبهة «نمور التاميل»، والثانية في سبتمبر (أيلول) 2018 بعد الحرب التي شنها على تجارة المخدرات.

Embed from Getty Images

وبسبب استحالة ترشح أخيه الأكبر ماهيندا للرئاسة مرة أخرى بسبب مانع دستوري، ترشح غوتابايا راجاباسكا للانتخابات، وجرى اختياره في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 رئيسًا للبلاد، وعُين أخوه ماهيندا (الرئيس السابق) رئيسًا للوزراء. الأمر الذي كان يرمز له بمزحة، أنّ سريلانكا لا يوجد فيها إلا عائلة واحدة فقط، هي عائلة راجاباكسا.

ويبدو أنّه كان لزامًا على الطبيعة وصراعات الدول العظمى أن يتحالفا للإطاحة بهذه العائلة! فقبل تفشي وباء كوفيد-19، كانت البلاد قد حققت بكل فخر مكانة الشريحة العليا من الدخل المتوسط. أما اليوم، فقد غرق نصف مليون شخص في براثن الفقر، وأجبر التضخم المتصاعد بسرعة وانخفاض قيمة العملة، السريلانكيين على خفض مشترياتهم من الغذاء والوقود مع ارتفاع الأسعار، ودعا الاقتصاديون في البلاد الحكومة إلى التخلف عن سداد ديونها لشراء الإمدادات الأساسية لشعبها.

وفي مسح للأمم المتحدة، أفاد حوالي 70% من الأسر في سريلانكا خفض استهلاكهم من الغذاء، إذ بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية حوالي 57%، بالإضافة للكثير من الأزمات الاقتصادية.

بعد بضعة أشهر فقط من انتخاب غوتابايا راجاباكسا في 2019، تفشى فيروس كورونا المستجد، فدمر قطاع السياحة السريلانكي، الذي كان يُؤمن ما يقرب من نصف دخل البلاد من النقد الأجنبي للدولة في عام 2019. وبحلول الأشهر الأولى من عام 2021، كانت ميزانية الحكومة والعملة الأجنبية في أزمة، فمنذ وصول راجاباكسا إلى سدة الحكم في 2019 تقلص احتياطي البلاد من العملات الأجنبية من 7.5 مليار دولار إلى 3.1 مليارات، في نهاية ديسمبر من العام نفسه، الأمر الذي كان يسمح بالكاد، لتمويل شهرين من الاستيراد.

اقتصاد الناس

منذ 10 شهور
حرب في أوكرانيا وحرّ في الهند.. هل يواجه العالم أزمة غذاء طاحنة؟

كذلك سبب نقص «دولارات السياحة» استنفاد الاحتياطيات الأجنبية لدرجة أنّ سريلانكا لم تكن قادرة على سداد ديونها للدائنين الصينيين، بعد نوبة من تطوير البنية التحتية دامت عقدين من الزمان، لحقها تخفيض وكالات التصنيف الائتماني الدولية تصنيف سريلانكا، خشية ألا تتمكن من سداد ديونها الخارجية، وعلى الرغم من إصرار الحكومة على أنها قادرة على الوفاء بالتزاماتها، لم تقبل المؤسسات النقدية تقديم يد العون.

منذ بداية وصوله للسلطة، حُوصر راجاباكسا وَأَفْقدهُ كوفيد-19 القدرة على المناورة، فأصبح بين خيارين في ظل شح المصادر البديلة؛ إما الاستمرار في استنزاف الاحتياطي الأجنبي باستيراد الأسمدة الصناعية والمبيدات ودعمها، أو إجبار جميع المزارعين للتحول للزراعة العضوية الأقل إنتاجية والأغلى في القيمة السوقية.

في النهاية؛ اختار الرئيس الإبقاء على نحو 500 مليون دولار، تكلفة لدعم الأسمدة في البلاد، والاعتماد على الأسمدة الطبيعية، مستغلًا لتعطل سلاسل الإمداد والتوريد، وضبابية المشهد الذي كسا السوق العالمي، وقدرته على التعافي من اجتياح فيروس كورونا المستجد؛ في تسريع خطته التي دعا إليها في برنامجه الانتخابي عام 2019.

كان التغيير الضخم الذي فرضه راجاباكسا على البلاد، مغايرًا لسياسة الدولة منذ الأيام الأولى للثورة الخضراء في الستينيات، حين دعمت سريلانكا المزارعين في استخدام الأسمدة الصناعية. وظهرت – في الستينيات – النتائج الجيدة، كما هو الحال في معظم أنحاء جنوب آسيا، فزادت غلة الأرز والمحاصيل الأخرى بأكثر من الضعف.

وفي الوقت الذي عانت فيه دول كثيرة من النقص الحاد في الغذاء في سبعينيات القرن الماضي، كانت سريلانكا آمنة غذائيًا، وأصبحت صادرات الشاي والمطاط مصادر مهمة للصادرات والاحتياطيات الأجنبية؛ وسمح ارتفاع الإنتاجية الزراعية بتوسع حضري واسع النطاق، وتحسنت حياة جزء كبير من القوى العاملة في البلاد، حتى بلغت ذروتها في تحقيق سريلانكا لحالة الدخل المتوسط ​​الأعلى الرسمي في عام 2020، ثم أتى كوفيد-19 ومن بعده الحرب الروسية الأوكرانية، بما لا تشتهي السفن.

بالعودة لمشروع راجاباكسا الانتخابي، فقد وضع خطة لتحويل مزارعي البلاد إلى الزراعة العضوية على مدى 10 سنوات، وفي أبريل (نيسان) 2022، حظرت حكومة راجاباكسا استخدام الأسمدة الصناعية والمبيدات، وأمرت مليوني مزارع في البلاد بالتحول إلى منتجات عضوية.

كانت النتيجة وحشية وسريعة، فانخفض إنتاج الأرز المحلي بنسبة 20% في الأشهر الستة الأولى فقط، واضطرت سريلانكا، التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي منذ فترة طويلة في إنتاج الأرز، إلى استيراد ما قيمته 450 مليون دولار من الأرز! حتى مع ارتفاع الأسعار المحلية لهذا العنصر الأساسي من النظام الغذائي الوطني بنحو 50% ، كما أدى حظر استخدام المبيدات الصناعية إلى تدمير محصول الشاي، والذي يعد المحصول الأول في صادراتها ومصدر النقد الأجنبي، وتُظهر التقديرات إلى أن الانخفاض في إنتاج الشاي وحده أدى إلى خسائر اقتصادية قدرها 425 مليون دولار.

Embed from Getty Images

 مع استمرار انخفاض إنتاج الشاي، رفعت الحكومة جزئيًا حظر الأسمدة عن محاصيل التصدير الرئيسية، بما في ذلك الشاي والمطاط وجوز الهند بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2021. ولمواجهة الاحتجاجات الغاضبة، والتضخم المتصاعد، وانهيار العملة السريلانكية، علقت الحكومة السياسة الخاصة بالعديد من المحاصيل الرئيسية بما في ذلك الشاي والمطاط وجوز الهند. كما قدمت الحكومة 200 مليون دولار للمزارعين تعويضًا مباشرًا عما لحق بهم من خسائر، و149 مليون دولار إضافية لدعم مزارعي الأرز الذين تكبدوا خسائر.

كان تحرك الحكومة للجم غضب الجماهير غير كاف، فالأزمة كانت قد تفاقمت، وصارت أكبر من تحرك الدولة، وانتقد المزارعون على نطاق واسع المدفوعات لكونها غير كافية بشكل كبير، واستبعدت العديد من المزارعين، ولا سيما منتجي الشاي، الذين يقدمون أحد المصادر الرئيسية للتوظيف في المناطق الريفية في سريلانكا.

استمر التصعيد الشعبي، ونظم الأطباء والموظفون الطبيون والمعلمون والمصرفيون في العاصمة كولومبو مسيرة احتجاج على عدم قدرتهم على الحصول على البنزين أو الديزل اللازم للقيام بالأعمال الأساسية، وأدت الاحتجاجات في البداية إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء، ماهيندا راجاباكسا، في مايو 2022، بعد أن تخلفت سريلانكا عن سداد ديونها لأول مرة في تاريخها، منذ صارت دولة مستقلة.

 وبالعودة إلى بداية عام 2022، كان اقتصاد سريلانكا، ولا سيما احتياطياتها من العملات الأجنبية، يواجه كارثة غير مسبوقة. إذ كانت الدولة مدينة بمبلغ 51 مليار دولار في شكل قروض خارجية، وكان من المتوقع أن تسدد منها ما يقرب من 7 مليارات دولار في ذلك العام.

ومن ثم تسارعت التطورات في سريلانكا خلال الأسابيع الماضية، فشهدت محاولة فرار راجاباكسا من البلاد، ومنعه من السفر على أيدي الموظفين، ثم نقله لقاعدة عسكرية، قبل أن ينتهي به المطاف في المالديف. لكن الأحداث – وقتها – لم تكن قد اقتربت من ذروتها؛ فبعد ساعات من فراره للمالديف، وتفويض رئيس الوزراء، رانيل ويكريمسينغه، بإدارة شؤون البلاد؛ أعلن الأخير حالة الطوارئ؛ وأمر الجيش والشرطة بإعادة إرساء النظام.

جاء رد المحتجين فوريًا باقتحام مقري الحكومة والتلفزيون، ولا يزال المشهد ضبابيًّا في مستقبل هذه البلاد ذات التاريخ الطويل من الحروب الأهلية، وهنا يتجلى السؤال الهام: هل يمد المجتمع الدولي يد العون لسريلانكا كما الحال في أوكرانيا؟

الداخل أولًا ومن ثمّ المصلحة

تنفرد مشاكل سريلانكا، في كثير من الجوانب، بوضعها وتسببها فيها عبر قرارات غير مدروسة، كما فعل راجاباكسا بقرار التحول السريع للزراعة العضوية. ومع ذلك، فإن الانهيار المذهل للبلاد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلسلة أوسع ومتشابكة من الظواهر العالمية؛ بدءًا من كوفيد-19 الذي دمر قطاع السياحة، إلى الحرب في أوكرانيا التي أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة العالمية ودفعت بالوضع الصعب في سريلانكا إلى حافة الهاوية.

Embed from Getty Images

لكن تجدر الإشارة إلى أن الدول الغربية والمؤسسات الدولية، كان لها دور هام في تحول سريلانكا للزراعة العضوية، فمثلًا وعد الاتحاد الأوروبي، بانتقال واسع النطاق إلى الزراعة المستدامة منذ عقود، وفي الوقت الذي حظر الاتحاد الأوروبي المحاصيل المعدلة وراثيًا ومجموعة متنوعة من مبيدات الآفات ونفذ سياسات تثبيط الاستخدام المفرط للأسمدة الصناعية؛ فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال يعتمد بشكل كبير على الأسمدة الصناعية للحفاظ على إنتاج الغلات عالية الجودة بأسعار معقولة حفاظًا على الأمن الغذائي.

وذلك في الوقت نفسه الذي كانت فيه مؤسسات مدعومة من المجتمع الغربي، مثل «فود تانك» (المناصرة للزراعة العضوية) والتي تمولها مؤسسة «روكفلر» تروج للتخلص التدريجي من الأسمدة الكيماوية في سريلانكا والاتجاه إلى الزراعة العضوية.

تزامنت الحملات الداعمة لتحول الدول للزراعة العضوية، مع توجه واشنطن وحلفائها، فمثلًا تشير إدارة بايدن على أنّ البنك الدولي يجب أن يكون في طليعة الساعين إلى خفض الانبعاثات و تقليل دعم الوقود الأحفوري. فيما تجادل ألمانيا بأنه يجب زيادة الفوائد المناخية المشتركة لمشاريع التنمية إلى 30% على الأقل، وهو مقياس غامض لم تحدد برلين معناه.

ومن جانبها تريد السويد أن يضطلع البنك الدولي بدور تحويلي لمواءمة البلدان النامية مع درجات الحرارة العالمية وأهداف الصفر الصافي. وفي الوقت الذي تذكر فيه معظم هذه المقترحات «التكيف»، إلا أنها تظهر القليل من الفهم إلى أن جعل البلدان الفقيرة أكثر مرونة، سوف يستلزم استثمارات كثيفة الطاقة في الإسكان، والبنية التحتية للنقل، والتكنولوجيا الزراعية.

لكن مع اجتياح كوفيد-19 واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، التفت «مجموعة الدول السبع» والدول الغنية الأخرى إلى الداخل، استجابةً للأزمات العالمية المختلفة، بما في ذلك وقف المساعدات الموعودة للبلدان الفقيرة ودفعتها إلى حافة الإفلاس بالديون.

Embed from Getty Images

ففي تقرير مشترك صادر عن منظمتي «أوكسفام» و«أنقذوا الأطفال» الإنسانية الدولية في مايو 2022، جاء فيه أنّ شخصًا واحدًا يموت جوعًا كل 48 ثانية في كينيا وإثيوبيا والصومال التي اجتاحها الجفاف، كما أدى الصراع في أوكرانيا إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية وجعل الغذاء «بعيد المنال بالنسبة لملايين» في شرق أفريقيا.

وأشارت المنظمات في بيانها إلى أن «عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع الشديد في البلدان الثلاثة قد تضاعف منذ العام الماضي، من حوالي 10 ملايين إلى أكثر من 23 مليون اليوم»، «هذا على خلفية الديون المعطلة التي تضاعفت أكثر من ثلاثة أضعاف في أقل من عقد – من 20.7 مليار دولار في عام 2012 إلى 65.3 مليار دولار بحلول عام 2020 – مما أدى إلى امتصاص موارد هذه البلدان من الخدمات العامة والحماية الاجتماعية».

لكن وحتى في ظل وضع استثنائي كالذي تعيشه سريلانكا، فقد وقف المجتمع الدولي وتحديدًا صندوق النقد يشاهد البلاد وهي تغرق، دون فعل شيء. ففي قلب الأزمة، بدأت في 20 يونيو 2022، مفاوضات بين الحكومة المؤقتة في البلاد ومسؤولين من صندوق النقد الدولي بشأن حزمة الإنقاذ المحتملة، وانتهت هذه المفاوضات التي دامت 10 أيام دون حل فخرج رئيس الوزراء، ويكرمسينغ، بعدها ليقول إنّ بلاده «في الماضي، كانت تجري المناقشات باعتبارها دولة نامية، لكن الوضع مختلف الآن. نحن الآن نشارك في المفاوضات بوصفنا دولة مفلسة. لذلك، علينا أن نواجه وضعًا أكثر صعوبة وتعقيدًا».

 ولأن ويكرمسينغ أدرك حجم الكارثة، وانتفاء رفاهية الموقف لدى بعض الدول التي «انكمش اقتصادها» كما حدث في سريلانكا، فقد أعلن في مقابلة مع وكالة «أسوشيتيد برس» إنّ بلاده ستبحث الحصول على النفط الروسي، «بغض النظر عن العقوبات الغربية المفروضة على موسكو». خاصة أن سريلانكا بالنسبة للولايات المتحدة والعديد من شركائها الأوروبيين الذين يلتفون حول أوكرانيا، بعيدة عن تركيزهم.

حقوق إنسان

منذ 3 سنوات
كيف حول «داعش» والبوذيون حياة المسلمين في سريلانكا إلى جحيم؟

عرض التعليقات
تحميل المزيد