سبعة أشهر قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة أبريل (نيسان) القادم، تشهد الجزائر أزمات سياسيّة وتغييرات على أعلى مستوى بشكل غير مسبوق، ففي خضمّ التغييرات العاصفة التي تتمّ بالجملة داخل المؤسسة العسكريّة، جاء الدور على البرلمان الجزائري الذي يعيش معركة محتدمة بين رئيسه وبين نوّاب الأغلبية الذين يطالبون بإقالته.
وتأتي هذه التجاذبات السياسية في ظلّ حالة فراغ وترقّب تشهدها السلطة بسبب مرض الرئيس بوتفليقة وعجزه عن الظهور والقيام بمهامه المعتادة، ممّا فتح الباب أمام التكهّنات حول طبيعة هذا الصراعات والتغييرات الاستثنائية المتتابعة في مؤسسات الدولة.
انقسام داخل الحزب الحاكم.. و«ثورة» في البرلمان
قرّر نوّاب خمس كتل برلمانيّة، من بينها الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني)، تقديم عريضة مطالِبة بإقالة رئيس البرلمان الجزائري السعيد بوحجّة، إذ وقّع على العريضة 351 نائبًا من أجل إجبار بوحجّة على مغادرة منصبه، وعن أسباب هذا الحِراك جاء في بيان النوّاب: «التجاوزات والخروقات التي تمت ملاحظتها داخل المؤسسة التشريعية والتهميش المفضوح، والمصاريف المبالغ فيها والتوظيف العشوائي»، ومطالب أخرى تدور في نفس السياق.
رئيس البرلمان سعيد بوحجة (يمين) رفقة الوزير الأول الروسي
وقد انفجرت هذه الأزمة بعد أن أصدر بوحجّة قرارًا بإقالة الأمين العام للبرلمان بشير سليماني بشكل مفاجئ، فيما أشارت بعض الصحف إلى أنّ هذه الإقالة جاءت بعد أن تصدّى الأمين العام لبعض ممارسات رئيس البرلمان «غير المشروعة».
وعن الأسباب الحقيقيّة وراء قرار السُلطة بإبعاد بوحجّة عن رئاسة البرلمان، تشير بعض المصادر الصحافيّة إلى خرقه للبروتوكولات والأعراف المتّبعة داخل مؤسسات السلطة، وتذكر المصادر حادثتين بارزتين، الأولى كانت في عيد الأضحى الماضي حين رفض بوحجّة في البداية إمضاء العيد داخل أرض الوطن والصلاة مع كبار المسؤولين في الدولة في بداية الأمر، بل فضّل إمضاءه في فرنسا لـ«أخذ أيّام للراحة» ليعود إلى الجزائر فجر يوم العيد بعد إلحاح المسؤولين، ويُغادرها إلى فرنسا بعد نهاية اليوم.
وتعرف صلاة العيد لكبار مسؤولي الدولة أهميّة كبيرة على المستوى السياسي في هذا التوقيت بالذات، إذ يتمّ نقلها على التلفزيون العموميّ من أجل التغطية على غياب الرئيس بوتفليقة الذي لا يحضرها منذ تأزّم صحّته سنة 2013.
الموقف الثاني الذي أثار سخط النافذين في الدولة كان الخرق البروتوكولي الذي قام به بوحجّة مع السفير الياباني، إذ كان من المقرّر أن يلتقي به في إطار لجنة الصداقة الجزائرية اليابانيّة، إلاّ أن بوحجّة فضّل تكليف مسؤولين آخرين بهذه المهمّة، ممّا أثار سخط السلطات ضدّه وتأكّد لديهم بأن بوحجّة لا يصلح لمنصب بهذا الحجم.
ألمانيا قد تهدد مصالح فرنسا في الجزائر قريبًا.. ما موقف الجيش الجزائري؟
لماذا لا تتمّ إقالة بوحجّة ببساطة؟
يعيش البرلمان الجزائريّ حالة شلل تام من طرف النواب الذين رفضوا مواصلة نشاطاتهم حتى رحيل بوحجّة، كما راسلت وزارة الخارجية جميع الجهات الأجنبية لغرض تأجيل المواعيد البرلمانيّة حتى انتهاء الأزمة. وأفاد مصدر لجريدة «الشروق» الجزائريّة بأن رئيس البرلمان ليس مستعدًّا للاستقالة «لا اليوم وغدًا ولا اليوم الذي بعده» حسب تعبير الجريدة.

بوحجّة (يمين) رفقة السفير المصري
وقد عمّت التساؤلات عن إمكانية اندلاع أزمة دستوريّة في البلاد، إذ أنّ نوّاب الأغلبية في البرلمان من حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطيّ يتمسّكون بمقاطعة أعمال البرلمان حتى استقالة رئيسه، فيما يصرّ الأخير على رفضها، بينما لا تنصّ القوانين المنظّمة لعمل البرلمان على إمكانيّة إقالة رئيس البرلمان من طرف الأعضاء، ولا من طرف رئيس الجمهوريّة أو أيّ جهة أخرى، انطلاقًا من مبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي فإن منصبه محصّن من الإقالة ممّا فجّر أزمة قانونيّة وسياسية داخل أروقة الدولة.
وقد انطلق هذا التحرّك من طرف نوّاب الأغلبية بصفة مفاجئة لكلّ الطبقة السياسية والإعلاميّة، إذ أنّ البرلمان في الجزائر نادرًا ما يشهد مثل هذه المطالبات في صفوف أحزاب الأغلبية التي تُعرف بالالتزام الحزبي، خصوصًا وأنّ رئيس البرلمان السعيد بوحجّة من بين أقدم مناضلي الحزب الحاكم، جبهة التحرير الوطني، نفس الحزب الذي أطلق نوّابه هذه الحملة، كما أنّ بوحجّة كان منذ 1999 من الداعمين الأوفياء للرئيس بوتفليقة، وقد جاءت دعوة رئيس الحزب جمال ولد عبّاس لرئيس البرلمان للاستقالة باعتبارها مؤشّرًا على أنّ هذا المطلب لم يصدر عن النوّاب أنفسهم، بل هو قرار من أعلى السلطات في البلاد.
الأزمة بين بوحجّة والسلطات الجزائريّة انتلقت إلى مجال الإعلام الرسميّ، فقد نشرت وكالة الأنباء الجزائرية على غير العادة خبرًا يفيد بـ«تجميد كل نشاطات المجلس الشعبي الوطني إلى غاية استجابة السيد بوحجة لمطلب الاستقالة». ومن غير العادة أن تتطرّق هذه المؤسسة الإعلاميّة التابعة للدولة لموضوع حسّاس لهذه الدرجة وتعلنه للملأ، ممّا يشير إلى أنّ قرار رحيل بوحجّة لا يأتي من النواب أنفسهم فحسب، بل إنّه مطلب محسوم من طرف أعلى السلطات في الدولة.
ولذلك تقرّر استخدام المؤسسات الإعلامية الوطنيّة من أجل الضغط على بوحجّة ومحاصرته أمام الرأي العام لتسريع تنفيذ مطلب الاستقالة، خصوصًا وأنّ السلطة تجد نفسها غير قادرة على إقالته بسبب الحصانة التي يتمتّع بها، ممّا اضطرّها لاستخدام كل الأدوات البديلة التي تمتلكها لإجباره على الاستقالة.
المارد الذي يخشاه الرؤساء.. هكذا يتحكّم الجيش الجزائري في خيوط اللعبة السياسية
هل تدخّلت أطراف داخل الدولة لدعم بوحجّة؟
شهد رئيس البرلمان تغييرًا مفاجئًا في رأيه بخصوص الاستقالة، إذ صرّح في وقت سابق لموقع «TSA» الإخباري بأنّه «مستعدّ للاستقالة» وقد حدّد شرطين لها: «أن تكون قانونيّة، وأن تأتي من الجهة التي عيّنتني» في إشارة قد يُفهم منها رئاسة الجمهورية. ليعود ويتمسّك بمنصبه ورفض الاستقالة مطلع هذا الأسبوع، مما يشير إلى احتماليّة تدخّل جهات داخل السلطة لدعم بقائه في منصبه.
وما زاد من تعمّق الأزمة داخل البرلمان، أنباء عن حدوث تزوير بالنسبة لتوقيعات النوّاب، إذ أشارت مصادر لجريدة «الشروق» أن هنالك تلاعبًا بالتوقيعات قد وقع في العريضة المطالبة باستقالة بوحجّة، وقد هددّ بعض النواب باللجوء إلى العدالة بسبب استخدام أسمائهم في هذه الأزمة دون إذن منهم.
كما زاد من غموض المشهد إعلان بعض أعضاء حزب جبهة التحرير الحاكم، دعمهم لبقاء بوحجّة في منصبه، وبالتالي اعتراضهم على قرار رئاسة الحزب ولجنته المركزيّة، كما اتّهموا المطالبين بإقالة رئيس البرلمان بأنّهم «أصحاب مصالح شخصيّة».
وتأتي هذه الأزمة البرلمانيّة في توقيت حسّاس، إذ إنّ البرلمان الجزائري في هذا الوقت من كلّ سنة يشهد مناقشة أهمّ ملف، وهو قانون الماليّة الجديد؛ وبالتالي فإن السلطة ترغب في إنهاء هذه الأزمة بأقصى سرعة، بينما تصطدم برفض بوحجّة للاستقالة من جهة، خصوصًا وأنّ القانون يقف في صفّه.
وقد استغلّت بعض الأحزاب الأزمة الحاليّة بين نوّاب البرلمان والجهات العليا التي تقف خلفهم وبين رئيس البرلمان من أجل الدعوة إلى إقامة انتخابات برلمانيّة مسبقة في نفس توقيت الانتخابات الرئاسيّة المنعقدة في أبريل (نيسان) القادم.
هل سنشهد حلّاً للبرلمان؟
استمرار الأزمة بين رئيس البرلمان ونوّاب الأغلبيّة قد يدفع السُلطة إلى قرار استثنائيّ هو الأوّل من نوعه خلال فترة حكم بوتفليقة، وهو حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانيّة مسبقة فقط من أجل التخلّص من بوحجّة الذي يتحصّن بالقانون الذي لا يبيح إقالته بأي شكل من الأشكال.
لكن بعض المراقبين يرون باستحالة هذا الاحتمال لعدّة عوامل، أبرزها هو الحرص الشديد الذي يُبديه النظام الجزائري في احترام الآجال الانتخابيّة في موعدها، ويسوّق لها باعتبارها دليلاً على الاستقرار وترسّخ الديموقراطيّة في البلاد. بالإضافة إلى ذلك فإن الإعلان عن انتخابات برلمانيّة قبل سبعة أشهر من الانتخابات الرئاسيّة يراها البعض حسّاسة للغاية، خصوصًا أنّه لم يمرّ من عُمر هذا البرلمان سوى سنة واحدة، إذ جرى انتخابه في مايو (أيار) 2017.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي تحدث فيها أزمة على مستوى رئاسة البرلمان في عهد الرئيس بوتفليقة، فهذه الواقعة تعيد إلى الأذهان استقالة كريم يونس، رئيس البرلمان السابق سنة 2004 بعد انتخاب بوتفليقة رئيسًا لعهدة ثانية، وقد كان كريم يونس مضطرًّا للاستقالة بعد أن فاز بوتفليقة بالعهدة الثانية ضد الرجل الذي انحاز إليه انحاز إليه يونس، وهو علي بن فليس، رئيس الحكومة السابق الذي استقال من منصبه من أجل الترشّح ضد بوتفليقة.
البرلمان الجزائري
وقد جاءت استقالته ساعتها بعد ضغط شديد من نوّاب جبهة التحرير الوطني الذين طالبوه بالرحيل بعد انضمامه إلى معسكر علي بن فليس ضد الرئيس بوتفليقة، فيما تمسّك هو بمنصبه ورفض الاستقالة لمدّة معتبرة، كما حاول العودة إلى «حضن النظام» من خلال إعلانه التراجع عن دعمه لبن فليس، لكن قرار مغادرته كان حتميًّا في تلك المرحلة بعد أن أخطأ في رهانه على غريم الرئيس.