تسعى دول العالم جاهدةً لمواكبة التطور العلمي الرهيب الذي يشهده العالم من حولنا بوتيرةٍ متسارعة من خلال تطوير جامعاتها والعمل على تحسين ترتيبها الدولي، ومع بروز تصنيفاتٍ عالمية للجامعات بمعايير مختلفة، ومقاييس تخضع الجامعات لتنافسية عالية، وتسلط الضوء على نجاحاتها المتحققة والمتراكمة، وعلى تراجعها أو ثباتها في أداء دورها التعليمي وطنيًا وإقليميًا ودوليًا أخذت الجامعات تبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه المعايير.
في ظل هذا بقيت الجامعة الجزائرية تراوح مكانها دون تسجيل إنجازات تدخل جامعاتها هذه التصنيفات، ومع ظهور نتائج تصنيف جامعة «جياو تونج» في شنجهاي الصينية، الذي يجمع أفضل 500 جامعة عالمية وخلوه من أي جامعة جزائرية، جعل الباحثين يتساءلون عن أسباب تدهور مستوى التعليم العالي، والبحث العلمي في الجزائر، وبالأخص بعد تصريح المسؤول الأوّل عن قطاع البحث العلمي الوزير، الطاهر حجار، بأنّ الدولة الجزائرية لا تهتم بفوز جامعاتها بجوائز نوبل، في الأسطر التالية نسلط الضوء على الجامعة الجزائرية، ونستقصي رفقة الخبراء أسباب تأخر تصنيف الجامعة الجزائرية في التصنيفات الدولية.
ما هو تصنيف جامعة «جياو تونج» الصينية؟
تقوم جامعة «جياو تونج» بشنجهاي الصينية منذ سنة 2003 بإصدار تصنيفها السنوي الذي يهدف لمقارنة الجامعات الصينية مع نظيراتها في العالم ومعرفة مدى الفرق بينهم، ويتناول هذا التصنيف في مرحلته الأولى ألفي جامعة حول العالم بشرط امتلاكها المؤهلات الأولية للمنافسة، فيحدد في الأخير التصنيف قائمةً لأفضل 500 جامعة على مستوى العالم معتمدًا على معاييرٍ خاصة، أهمها عدد أعضاء هيئة التدريس الحائزين على جوائز نوبل، والميداليات التخصصية الأخرى بين أعضاء الهيئة التدريسية، وعدد البحوث المنشورة في دوريات معترف بها دوليًا، وخصوصًا مجلتي «نيتشر» و«ساينس»، وعدد المرات التي يتم فيها الإشارة المرجعية للأبحاث، في الدوريات العلمية والمجلات المحكمة، فضلًا عن عدد الباحثين المعروفين بأدائهم المميز ومستوى الأداء الأكاديمي قياسًا إلى حجم الجامعة.
وفي منتصف أغسطس (آب) الجاري، أصدرت الجامعة تصنيفها لأفضل 500 جامعة حول العالم لعام 2018، وشهد التصنيف سيطرةً للجامعات الأمريكية التي استحوذت فيها 16 جامعة أمريكية المراتب العشرين الأولى، وواصلت جامعة «هارفارد» تصدر التصنيف، فيما شهد التصنيف تواجدًا عربيًّا بأربع جامعات سعودية، إضافة إلى جامعة القاهرة، في وقتٍ غابت فيه الجامعات الجزائرية عن التصنيف.
تضييق واتهام بعدم الشرعية.. هل كبح النظام في الجزائر الحراك الطلابي؟
«ليست بحاجة لجائزة نوبل».. جامعات الجزائر خارج التصنيف العالمي
ضمّ التصنيف السنوي لجامعات العالم الصادر عن جامعة شنجهاي الصينية 500 جامعة؛ ومع ذلك لم يظهر أي أثر للجامعات أو المعاهد الجزائرية في هذا التصنيف، الذي يعتبره كثيرون الأكثر مصداقية. وخلا تصنيف «كيو إس» العالمي لعام 2018 أيضًا من جامعات الجزائر، علمًا أنّه ضمّ 700 جامعة مختلفة من كلّ دول العالم.
وأمام هذا التصنيف المتأخر للجامعات الجزائرية، أطلق المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي دعوةً للسلطات المعنية لفتح نقاش وطني حول مستقبل الجامعة الجزائرية، وطلابها، وكوادرها التعليمية، وفي حديثه مع «ساسة بوست» أبرز الدكتور عبد الحفيظ ميلاط، المنسق الوطني لنقابة المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي، أنّ «أول جامعة جزائرية في التصنيف الدولي مرتبة بعد المرتبة 2100، وهناك فقط أقل من 10 مؤسسات جامعية جزائرية مصنفة في المراتب بين ألفين و10 آلاف من أصل 106 مؤسسة جامعية، وأن الكثير من المؤسسات الجامعية الجزائرية، إما مصنفة بعد المرتبة 20 ألف، أو موجودة أصلًا خارج التصنيف».
وأضاف ميلاط أنه «من الجانب الهيكلي الدولة لم تقصر؛ فالهياكل الجامعية الموجودة في الجزائر لا توجد في كل دول المنطقة؛ لدينا أكثر من 106 مؤسسة جامعية، وأكثر من 1500 مخبر ومركز بحث وهذه المؤسسات الجامعية، والمخابر والمراكز البحثية مجهزة بأحدث التجهيزات والإمكانات؛ فالمشكل لا يتعلق بالإمكانات المادية بتاتًا، بل يتعلق بسوء التسيير، وعدم وجود خطة واضحة للنهوض بالتعليم الجامعي في الجزائر؛ لأن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر لا تهتم سوى بالأرقام. أي عدد الطلبة الملتحقين والمتخرجين سنويًا»، ثم أردف قائلًا: «للأسف، فإن الوزارة أهملت العامل البشري، خاصة إذا علمنا أن الأستاذ الجامعي الجزائري يتقاضى أدنى أجر في العالم، ويعيش ظروفًا اجتماعيةً صعبةً جدًا، وهذا ما يعوق ترفعه للإنتاج والبحث العلمي».

وزير التعليم العالي والبحث العلمي الجزائري الطاهر حجّار، مصدر الصورة (الشروق)
من جهته أكدّ أستاذ العلوم السياسية بجامعة «سطيف»، قرن محمد إسلام، في حديثه مع «ساسة بوست»: أنّ «الجامعات الجزائرية ما زالت خارج التصنيف العالمي حسب المؤسسات المهتمة بالتصنيفات؛ إذ لم تستطع أية جامعة جزائرية ضمان تواجدها ضمن اللائحة النهائية لأفضل 500 جامعة في العالم حسب تصنيف مؤشر مركز شنجهاي الصينية، وهو التصنيف الأكثر مصداقية، وهذا راجع أساسًا إلى المعايير والمحددات المعتمدة لقياس أداء الجامعات، فمقياس شنجهاي يركز على أعضاء هيئة التدريس الحائزين على جوائز نوبل، والميداليات التخصصية الأخرى التي حازوا عليها، وعدد البحوث المنشورة في دوريات معترف بها دوليًا، وعدد المرات التي تتم فيها الإشارة المرجعية إلى الأبحاث في الدوريات العلمية والمجلات المحكمة وغيرها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار مقياس شنجهاي؛ فالحصول على نوبل يحتل حوالي ثلث التقييم، إضافةً إلى حضور البعد السياسي والتجاري».
وأكد أستاذ العلوم السياسية الجزائري على أن كل الأسباب لا تبرر غياب الجامعات الجزائرية عن التصنيفات الدولية، وأنها «مازالت تشهد إصلاحات لا ترقى للمستوى المطلوب».
لم يسبق لأية جامعة جزائرية دخول التصنيفات العالمية المعتمدة، واحتلت أفضل جامعة جزائرية المرتبة 2250 عالميًا، وفي المرتبة 13 في منطقة شمال أفريقيا، وعادةً ما تطعن وزارة التعليم العالي، والبحث العلمي الجزائرية عشية صدور هذه التصنيفات العالمية للجامعات، وينفي وزير التعليم العالي الجزائري الطاهر حجار أن تكون الجامعات الجزائرية في ذيل الترتيب العالمي، متهمًا الهيئات التي تقوم بالتصنيف بأن لها أغراضًا تجارية وأخرى سياسية، مستغربًا أن تحتل الجامعات الخاصة مقدمة التصنيف، في حين يتذيل الترتيب بالجامعات الحكومية، وكان وزير التعليم العالي الجزائري قد أطلق تصريحًا مثيرًا للجدل مطلع الشهر، معتبرًا أن الجامعات الجزائرية وإطاراتها ليسوا بحاجة للفوز بجائزة نوبل، وهو ما أثار موجة من النقد لتصريح المسؤول الأول عن قطاع الجامعات بالجزائر.
بعد رفع ميزانية البحث العلمي.. لماذا تغيب جامعات الجزائر عن التصنيف العالمي؟
فور صدور تصنيف جامعة «جياو تونج» بشنجهاي الصينية للجامعات، وغياب كلي للجامعات الجزائرية عن التصنيف، أُثير الجدل حول الأسباب التي دفعت بالجامعة الجزائرية لتتبوأ مراتب متأخرة، وعدم دخولها التصنيفات الدولية؛ إذ حمّل البعض المسؤولية للحكومة الجزائرية بسبب عدم وجود خطة واضحة للنهوض بالجامعة الجزائرية، فيما شكك البعض الآخر في مصداقية هذه التصنيفات.
في حديثه مع «ساسة بوست»، عدّد المنسق الوطني لنقابة أساتذة التعليم العالي في الجزائر، عبد الحفيظ ميلاط، الأسباب التي جعلت الجامعة الجزائرية في ذيل الترتيب بالقول: إنّ «هنالك عدة أسباب وعوامل ساعدت في تأخر الجامعة الجزائرية أبرزها الإصرار على اعتماد اللغة الفرنسية في التعليم التقني، والأبحاث المنشورة بهذه اللغة غير معتمدة في التصنيف، إضافةً إلى أنّ معظم المؤسسات الجامعية في الجزائر لا تتوفر على مواقع إلكترونية فعالة، تنشر إنجازات الأساتذة الباحثين الجزائريين، وأنه لا وجود لاتفاقات تعاون مع مؤسسات التصنيف كما فعلت مؤخرًا مصر، التي أبرمت معظم جامعاتها اتفاقات تعاون لمرافقتها في تحسين تصنيفها، دون أن ننسى عدم وجود سياسة تشجيعية للبحث العلمي في الجزائر؛ وعدم اهتمام الوزارة بدعم ومرافقة الباحثين المميزين، وأخيرًا التطبيق السيئ لنظام LMD في الجزائر، الذي يقوم بالأساس على توأمة مع المؤسسات الاقتصادية والمالية، وهي العملية التي من شأنها توفير دعم مالي للبحث العلمي».
أمّا الباحثة هجيرة بن زيطة، فترى أنّ «تصريح وزير التعليم العالي الطاهر حجار: (لا نحتاج نوبل) يلخص كل الأسباب؛ فمشكلة الجامعة الجزائرية هي مشكلة رسم سياسة عامة رشيدة للقطاع؛ لأنه يسير بعبثية وفوضوية على المستوى الهيكلي والمنهجي، لا يمكن أن تكون نتيجتها إلا الترتيب في ذيل الدول».
وتضيف هجيرة: «لا بد من إعادة النظر في فلسفة وأهداف التعليم العالي وﺗﻔﻌﻴﻞ ﺃﺩﻭﺍﺭ الجامعات، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺸﺮﺍﻛﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﻭﺍﻟﺒﺤـﻮﺙ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ التي تعالج ﻣﺸﻜﻼﺗﻪ، ﻣﻊ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﻨﻮﻋﻴﺔ البرامج ﻭﻣﻼﺀﻣﺔ ﺇﻋﺪﺍﺩﻩ متطلبات ﺳﻮﻕ ﺍﻟﻌﻤﻞ. الجامعة اليوم تخرّج مئات الدكاترة البطالين؛ فهناك ضعف في الاهتمام بالطاقات والكفاءات الجزائرية؛ ما يجعل الهجرة هي الحل، ولكي تحقق الجامعة قفزة نوعية من البحث والترتيب تحتاج تمويل يفي بمتطلبات الجامعة، ﻣـﻦ ﺍﻟﺘﺤـﺪﻳﺚ ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ، فلا يعقل أن تكون ميزانية البحث العلمي أدني ميزانية في الدولة».

مخبر بحث تابع لوزارة التعليم العالي الجزائرية، مصدر الصورة ( SciDev.Net)
بدوره يرى طالب الدكتوراه بجامعة الجزائر محمد لمين بن بوراس، في حديثه مع «ساسة بوست» أنّ «الجامعة الجزائرية باتت مراكزًا لتدريس الطلبة مختلف الدروس فقط، ولا فرق بينها وبين الثانويات؛ إذ أصبحت لا تعطي للبحث العلمي قيمته الحقيقة، بينما تعتبر الجامعة في الدول التي تحترم العلم أماكن مقدسة لحل كل المشاكل العامة والخاصة، ولو رأينا المعايير التي يعتمد عليها تصنيف جامعة شنجهاي جياو تونج، لوجدنا أن كل من كفاءة أعضاء هيئة التدريس والمنتج البحثي الأكاديمي، يشكلان أهم عاملين على الإطلاق بنسبة 40% لكل منهما، بينما تشكل النسبة المتبقية نوعية وجودة التعليم وأداء الطلاب وغيرها من المعايير».
ثم أشار بن بوراس إلى أن «جامعات الجزائر ضعيفة جدًا من ناحية الإنتاج البحثي؛ فالأساتذة يهتمون فقط بالتعليم وإلقاء الدروس، والجامعة لا تستقطب مشروعات بحث حقيقية لحلها، ولا شيء يربط بين الجامعة ومحيط العمل، فلا وجود لبحوث علمية ترفع قيمة الجامعة، وبالتالي لا تأثير لها على العلم لكون نسبة الاستشهادات بأبحاثنا ضعيفة جدًا».
فيما يرى الأستاذ قرن محمد إسلام أنّ «أبرز المشاكل التي تحول دون تطور مستوى الجامعات الجزائرية يرجع إلى الإصلاحات الكثيرة التي تأتي بنتائج عكسية، وآخرها التحول من النظام الكلاسيكي إلى النظام الجديد LMD، إضافة إلى الاهتمام الكبير بالكم على حساب النوع، لذلك يوجد تطور كبير على مستوى الهياكل والبنى والمؤسسات وعدد الطلبة وهيئة التدريس، مع إهمالٍ فادحٍ تأطيري، وإنتاج علمي ومعرفي منعدم، ومع ذلك فرديًا توجد كفاءات، وإطارات خريجي الجامعة الجزائرية يشهد لهم علميًا في المخابر والجامعات الدولية»، بحسبه.
«ساسة بوست» في جامعات الجزائر.. أيهما أفضل: الدكتوراة التقليدية أم «LMD»؟
وبحسب طالب الدكتوراه منصور عبد الرحيم فإن «السبب الرئيس لتأخر الجامعة الجزائرية يعود إلى مدى أولوية وجدوى البحث العلمي في بلد مثل الجزائر، فإن وجد بحث فيكون من أجل تقلد الرتب والأوسمة، لا من أجل إيجاد الحلول وتطوير البلد، فلا تضخ أموال للبحث حفاظًا على البلاد وأمنها الغذاء والقومي، إن صح التعبير، بل تدفع جزية لبلدان الخارج من أجل استيراد تجارب بالية لا تصلح للمستهدف، بل لإطالة عمر التبعية، وهناك أمثلة عديدة في شتى المجالات والتخصصات يضيق الصدر وتنحصر الأنفاس لذكرها».
وعند سؤاله عن مدى إشكالية التعليم العالي في الجزائر أجاب محمد إسلام: «التعليم العالي لأي بلد استثمار بالغ الأهمية لما يقدمه من إنتاج علمي ومعرفي وتقني، وما يمثله من موارد بشرية علمية وكفاءات معرفية، وللتعليم العالي إسهامات في الناتج المحلي الإجمالي للبلد، لذلك ليس عائقًا أمام نمو البلد، والعكس تمامًا هو الطريق الصحيح، إذا تم الاستثمار الحقيقي فيه، فالمفروض أن جزءً كبيرًا من الثروة البترولية توجه للتعليم العالي من أجل خلق ثروة علمية، فالاستثمار الحقيقي هو في الإنسان».

مبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية
جديرٌ بالذكر أنّ الحكومة الجزائرية رفعت ميزانية البحث العلمي في الجزائر، بعد أن خصصت لتمويل البحث العلمي موازنة سنوية قدرها 20 مليار دينار جزائري (حوالي 173 مليون دولار) ابتداءً من العام الجاري، وحتى 2023، بعد أن كانت لا تتجاوز خمسة مليارات دينار سنويًّا، وعن أسباب مضاعفة الميزانية، قال رئيس المدير العام للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي بالجزائر، عبد الحفيظ أوراق: إن «الهدف من هذه الزيادة هو تطوير مراكز ومختبرات البحث الفاعلة، والإنفاق على البحوث العلمية التي لها علاقة مباشرة باحتياجات الاقتصاد الوطني».
واحتلت الجزائر المرتبة 92 عالميًا والمرتبة السابعة عربيًا في مؤشر جودة التعليم العالي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، وذلك بعد حصولها على درجة متوسطة بلغت أربعة، فيما احتلت المركز رقم 12 (قبل الأخير) عربيًا، والمركز 108 عالميًا، حسب مؤشر الابتكار العالمي لعام 2017، الصادر من جامعة «كورنيل» والمعهد الأوروبي لإدارة الأعمال، و«المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)»، ثورة تعليمية هائلة في انتظار أطفالك.. كيف سيبدو شكل المدارس في المستقبل؟ ويتضمن المؤشر ترتيب 127 دولة.
«الشعب يريد إسقاط بن غبريط».. هل تُطيح الاحتجاجات بوزيرة التعليم الجزائرية؟