في الغالب، كان الموقف الفرنسي يوصف بأنه داعم لـ«الثورة السورية»، بل عدّت فرنسا الدولة الأوروبية الأكثر دعمًا للحراك السوري منذ بدايته، فخلال ست سنوات من عمره، كان الرئيسان السابقان «فرانسو هولاند» و«نيكولا ساركوزي» يعتقدان أنّ حل الأزمة السورية يكمن في رحيل «بشار الأسد» وقيام حكم بديل يتفق عليه السوريون، وقد رفضا الرؤى التي تستسلم بفكرة بقاء الأسد مخافة سيطرة «الجماعات المتطرفة» على الحكم.

لكنَّ التغير الجذري في الموقف الفرنسي إزاء الوضع السوري أتى قبل أيام، عندما قالها صراحة الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بأنه لا يرى بديلًا شرعيًا عن الأسد، وبأن الأولوية في سوريا هي «مكافحة الإرهاب»، وهو ما يعني ضمنًا أن فرنسا تختار بقاء الأسد تحاشيًا للإرهاب.

موقف فرنسا من الثورة السورية قبل «ماكرون»

«موقف فرنسا كان نموذجيًا على الدوام، وبلدكم وقف باستمرار إلى جانب الشعب السوري في وجه أية محاولة لإعادة تأهيل النظام القائم في دمشق تحت ذرائع واهية»، عندما وقف رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية «خالد خوجة»، يدلي بتصريحه السابق قبل عامين، لم يكن قد مر أسبوعٌ واحد على زيارة أربعة برلمانيين فرنسيين إلى سوريا للاجتماع مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد الذي اعتادت الحكومة الفرنسية آنذاك أن تصفه بـ«الجزار».

الرئيس الفرنسي السابق  «فرانسوا هولاند»

يشكل الاستشهاد السابق موقفًا يدلل لحدٍ ما على تذبذب الموقف الفرنسي من القضية السورية، فبالرغم من اعتبار فرنسا الدولة الأوروبية الأكثر دعمًا للثورة السورية، إلا أنّ تناقضاتٍ عدّة كان يشهدها الموقف الفرنسي بين الفينة والأخرى، منها احتضان باريس لثلة من الشخصيات السورية التي ارتكبت خلال توليها وظائف حكومية الكثير من الجرائم بحق السوريين، أمثال رفعت الأسد وعبد الحليم خدام ومصطفى طلاس الذي توفي قبل أيام، حيث تواجد هؤلاء في فرنسا وقدمت الحماية لهم ولأموالهم التي جمعوها من مناصبهم في حكومة النظام السوري.

محتجون ضد النظام السوري في فرنسا

في المحصلة، لا يمكن إنكار أن السياسة الرسمية الفرنسية السابقة للرئيس الحالي «إيمانويل ماكرون» قضت بقطع كافة العلاقات مع النظام السوري، وأعلنت دائمًا انحيازها لمشروعية مطالب الثوار السوريين، وتسجل فترة حكم الرئيس السابق «فرانسوا هولاند»، باعتبارها فترة أصرت فيها فرنسا على اشتراط رحيل الأسد عن الحكم كمخرج للأزمة السورية، فهولاند كان دائمًا في الصفوف الأولى لرافضي بقاء الأسد في السلطة، أو في مستقبل سوريا.

انقلاب «ماكرون» لصالح النظام السوري

استبشر المعارضون السوريون خيرًا بمرشح الرئاسة الفرنسية آنذاك «إيمانويل ماكرون»، فخلال حملته الانتخابية بدا الرجل أكثر جدية في التعاطي مع القضية السورية التي ورثها عن سلَفَيه؛ «فرانسو هولاند» و«نيكولا ساركوزي»، وأخذ يدعو للحل السياسي كطوق نجاة للأزمة السورية، ووصف حينها رئيس النظام السوري، بشار الأسد بأنه «ديكتاتور ارتكب جرائم دانتها الأمم المتحدة ولن يكون هناك سلام من دون عدالة».

الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»

الصدمة الكبرى كانت قبل أيام، فقبل مضيّ شهرٍ واحد على تولي ماكرون الرئاسة الفرنسية، قال الرجل  في حوارٍ له مع ثماني صحف أوروبية إنه لا يرى أيَّ بديلٍ شرعيٍّ للرئيس السوري بشار الأسد، وأنّ بلاده لم تعد تعتبر رحيله شرطًا لحل الصراع المستمر منذ ستة أعوام في سوريا، مضيفًا: «نظرتي الجديدة للقضية هي أنني لم أقل إن رحيل بشار الأسد شرط مسبق لكلّ شيء لأني لم أر بديلًا شرعيًا»، وهو ما عد استدارة وتراجع للموقف الفرنسي تجاه الأزمة في سوريا، وبذلك صفع ماكرون المعارضة السورية التي كانت تستند بشكلٍ كبير على الدعم السياسي لقصر الإليزيه، حتى أنّ ماكرون  لم يذكر ولو لمرة واحدة، قرار الأمم المتحدة  2254، الذي وضعه مجلس الأمن سنة 2015، والذي يُعد إطارًا مرجعيًا ضروريًا لتسوية النزاع.

يقول الصحفي المصري «طه خليفة»: «طلقة ماكرون المفاجئة قد تمثِّل تغييرًا في السياسة الفرنسية تجاه الأزمة في سوريا، والأسد خصوصًا، فخلال حكم الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند كان الموقف الفرنسي شديد الوضوح، ولا يقبل التأويل، وهو رفض الأسد واعتباره فاقدًا للشرعية وضرورة رحيله، وظل الموقف الفرنسي هو الأكثر صراحة في الغرب، وبين دول أصدقاء الشعب السوري»، مضيفًا في مقاله المعنون بـ«إغواء الديكتاتور» على موقع الجزيرة نت: «هناك ثوابت سياسية في الدول الديمقراطية في القضايا الكبرى لا تتغير بسرعة، وأي تحول يطرأ عليها فإنه يكون وفق حسابات دقيقة ودون أن يمثل حالة انقلابية كاملة، لكن ماكرون في موقفه الذي يقرره اليوم بشأن سوريا، فإنه يحدث ما يشبه الانقلاب الفعلي تجاه سياسة بلاده إزاء الحالة السورية».

محتجون بفرنسا يمثلون دور المصابين بضربات السلاح الكيماوي

وفي محاولة لقراءة أسباب تغير الموقف الفرنسي، ودوافع إعادة التموضع بالتركيز على مكافحة الإرهاب، وربط وجود الأسد بتجنب انتشار الفوضى وتحول سوريا إلى «دولة فاشلة» كما قال ماكرون، يتّضح أن هناك ارتباطًا بتغير النظرة الاستراتيجية الفرنسية للأزمة في الشرق الأوسط وخاصة في سوريا، تلك النظرة التي تعتبر محاربة الإرهاب هي الأولوية، في ظل ازدياد الهجمات الإرهابية في فرنسا الآونة الأخيرة، كما أنّ هناك علاقة لهذا التغير بالأزمات الداخلية في فرنسا التي يعتبرها ماكرون أولوية تحتم عليه عدم الانخراط في الحروب والأزمات الخارجية، ولا يمكن استثناء أثر تداعيات تغير السياسات في سوريا، وصراع النفوذ على الموقف الفرنسي الجديد أيضًا.

كيف انسجم الموقف الفرنسي مع الروسي تجاه سوريا؟

في  20 يونيو (حزيران) الحالي، وعلى غير عادة لم يتطرق وزير الخارجية الفرنسي، جان يفيس لي دريان، خلال زيارته إلى موسكو واجتماعه  لمدة أربع ساعات مع نظيره الروسي «سيرغي لافروف»، لمصير رئيس النظام السوري، ولم يذكر اسمه ألبتة خلال هذا الاجتماع.

أما «ماكرون» الذي استضاف الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في قصر فرساي التاريخي أواخر مايو (أيار) الماضي، فقد ركز في لقائه على ضرورة زيادة التعاون مع روسيا في مكافحة الإرهاب في سوريا، حيث
قال
: «خطوطي واضحة، أولًا محاربة مطلقة لكل المجموعات الإرهابية، إنهم هم أعداؤنا، نحن بحاجة لتعاون الجميع من أجل استئصالهم، وخصوصًا تعاون روسيا»، لتعتبر هذه المواقف الفرنسية بمثابة إعطاء شرعية للموقف الروسي من سوريا، ولتظهر هذه المواقف الرسمية واقعيًا  بأن مغادرة الأسد للسلطة لم تعدّ أولوية لفرنسا، وهو ما جعل مراقبون يرون أن تغير سياسة ماكرون جاءت ليتفق وينسجم مع الرؤية الروسية التي تؤكد أنه لا يوجد بديل مناسب للأسد.

وقد تغيرت السياسة الخارجية لفرنسا نتيجة مراجعات كبيرة للسياسة الفرنسية أفضت لتغير مسارات فرنسا من الأزمة السورية، فعلى سبيل المثال لا تستطيع فرنسا مواجهة الروس حتى في تنفيذ ما أعلنته سابقًا من رغبتها في الإقدام على محاسبة النظام السوري على جرائمه الكيماوية، فعندما قال ماكرون عقب مجزرة الكيماوي في خان شيخون: «علينا أن نتدخل ضد من يستخدمون الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين في سوريا ووضع حد لجرائم الأسد بحق الأبرياء بعدما شكل الصمت الدولي عن تلك المجازر مبررًا لقتل المزيد من الأطفال والنساء دون ذنب، وهو ما لن يستمر»، هو يدرك أن الفيتو الروسي سيصد أي محاولة لمحاسبة للأسد.

كما لعب توتر العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية دورًا في تغير السياسة الفرنسية تجاه القضية السورية، فماكرون على خلاف سلفه «فرانسوا هولاند»، الذي كان منحازًا  للرؤية الأمريكية، واشترط رحيل الأسد لحل الأزمة السورية، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين باريس وموسكو، توتر دفع «بوتين» لإلغاء زيارة رسمية لفرنسا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وذلك بعد أن قال هولاند إنه لن يلتقي به إلا لإجراء محادثات بشأن سوريا.

وقد كان موقف ماكرون من الولايات المتحدة واضحًا حتى أثناء الحملة الانتخابية، فأظهر أنه لا يساير الموقف الأمريكي، وقد أصبح موقفه ذلك أكثر حدة في ظل حكومة الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب»، الذي انسحب من اتفاق باريس حول المناخ، كما برزت توترات تتعلق بالآلية التي تدير بها واشنطن حلف الناتو وميزانيته، كل ذلك دفع نحو توجه فرنسا لروسيا التي تربطها بها مصالح تتعلق بالغاز، وأملًا في إعطاء دور لفرنسا في مفاوضات الحل في سوريا.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد