منذ عام 2018 والليرة التركية في هبوطٍ مستمرٍ، ربما تخلله لحظات تحسن مؤقت لتعود الأمور إلى ما كانت عليه وتفقد الليرة التركية من قيمتها أكثر وأكثر، ولكن في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، دخلت الليرة عام 2021 وقيمتها 7.43 ليرة للدولار الواحد، ودخلت منتصف الشهر وقيمتها 9.55 ليرة للدولار الواحد، وفي نهاية الشهر بلغ الدولار الواحد ما يساوي 13 ليرة، واستمرت بالانخفاض في شهر ديسمبر (كانون الأول) حتى وصلت إلى 18 ليرة للدولار الواحد.

لم يكن الوضع السيئ لـ«الليرة التركية» هو المؤشر الوحيد الخطير على وضع الاقتصاد التركي فحسب، بل إن التضخم بلغ أكثر من 21.3%، ومعه بدأت معاناة الأتراك بسبب ارتفاع الأسعار، وضاعف المشكلة ارتفاع احتمالية انكشاف الاقتصاد التركي أمام ديون القطاع الخاص الضخمة، وديون الأفراد التي تضاعفت خلال السنوات الماضية.

ورغم كل ذلك أصر أردوغان على الاستمرار في تخفيض أسعار الفائدة، حتى أصبح سعر فائدة البنك المركزي الرسمي 14%، ومع ارتفاع التضخم أصبح سعر الفائدة الحقيقي في تركيا سالبًا، وسجل أقل انخفاض لسعر فائدة حقيقي في الأسواق الناشئة على الإطلاق، بعد أن كان قريبًا أحد أعلاها على الإطلاق (وهي مصر)، فبعد أن كان هذا الارتفاع جاذبًا لرؤوس الأموال الأجنبية، ومساعدًا في النمو الذي تحققه تركيا، أصبح خروج رؤوس الأموال الأجنبية أحد أهم أسباب الأزمة التي تمر بها تركيا.

لكن هذا الاتجاه الهابط توقف في 20 ديسمبر (كانون الأول) 2021، لتتحسن العملة بأفضل أداء أسبوعي لها منذ عام 2001، وما زالت العملة مستمرة في الارتفاع ولم ينته الأسبوع بعد، فما الذي حصل في تركيا؟ وكيف تمكن أردوغان من قلب الطاولة وتغيير قواعد اللعبة؟ وإلى أي مدى قد ينجح مسعى أردوغان في دعم العملة؟ وهل يتمكن الرئيس التركي من تحييد خطر خسارته في انتخابات عام 2023 ليستمر في خطته طويلة الأجل لتغيير النمط الاقتصادي في تركيا، والفوز فيما يسميها «حرب التحرر الاقتصادية»؟

الخطاب الحاسم.. تحسن مؤقت أم خطة مدروسة؟

طوال الأشهر الماضية أطل أردوغان في خطابات كثيرة محاولًا طمأنة الشعب التركي والمستثمرين بأن الأمور بخير، أو ستكون كذلك قريبًا، إلا أن الأزمة استمرت في التفاقم، وربما كان إصرار أردوغان على المضي في إجراءاته وأهمها تخفيض سعر الفائدة سببًا لتفاقم الأزمة في البداية، الأمر الذي أثار مخاوف أكبر لدى المستثمرين، وحتى الأتراك أنفسهم، وزاد من بيعهم الليرة التركية وشراء الدولار، مسهمين بذلك في تعميق الأزمة.

Embed from Getty Images

الليرة التركية

بدأت المعارضة برفع صوتها في تركيا، وتحدثت العديد من التقارير عن انهيار شعبية أردوغان، وبدأت المطالبات بإجراء انتخابات مبكرة؛ بينما أكد الرئيس أن الانتخابات ستعقد في موعدها المقرر، ولن تعقد في أي تاريخ سابق لها، وعليه ستنتظر المعارضة عام 2023.

كل شيء بدا متجهًا نحو الأسوأ بالنسبة لأردوغان وحزبه ومؤيديه، حتى ليلة العشرين من ديسمبر (كانون الأول) حين ألقى خطابًا جعل الوضع يبدأ في التغيير، وبالتزامن مع إقرار إجراءات كان لها أثر واضح جدًّا في الليرة التي ارتفعت من 18 ليرة للدولار الواحد في 20 ديسمبر (كانون الأول)، لتصبح أقل من 12 ليرة للدولار الواحد في ثلاثة أيام فقط، رغم وضوح هذا الأثر وتجاوز الارتفاع نسبة 30%، لكن كيف جرى إنجاز ذلك؟

لذا من أجل فهم ذلك يجب معرفة أن المفتاح الأساسي لأزمة الليرة التركية هو الثقة بالعملة، والثقة بالاقتصاد ومساره المستقبلي عمومًا، ووجود خطة واضحة للاستمرار بالنهج الاقتصادي الحالي للرئيس أردوغان، الذي لطالما استطاع الخروج من مآزق سياسية سابقة بنجاح، ولكنه كان قد خسر هذه الثقة بإدارته محليًّا وعالميًّا في الفترة الماضية، ولم يكن هناك بديل عن استعادة هذه الثقة وسريعًا.

اقتصاد الناس

منذ سنة واحدة
مترجم: «الدولار التركي».. ما آلية أردوغان «السحرية» التي رفعت الليرة مرةً أخرى؟

تضمَّن خطاب الرئيس التركي عدة إجراءات، بعضها نقدي متعلق بالليرة التركية، والآخر مالي متعلق بإعفاءات ضريبية، ورفع مساهمة الدولة في خطط التقاعد، وتصب الإجراءات المالية في الاتجاه نفسه الذي راهن عليه أردوغان سابقًا، فالإعفاءات الضريبية موجهة بشكلٍ أساسي للقطاعات الإنتاجية، وللشركات المصدرة، ولتخفيض نسبة الضرائب على أرباح الشركات، لتقليل العبء الضريبي عليها، وتشجيعها أكثر على الإنتاج والتصدير، لمعالجة مشكلة عجز الميزان التجاري الهيكلية في تركيا، لجعل قيمة الصادرات التركية أكبر من قيمة الواردات في المستقبل.

أما الشق النقدي فهو مرتكز بالأساس على تخفيف الآثار الناتجة من انخفاض أسعار الفائدة التركية سابقًا، وهو الأداة الاقتصادية الجديدة التي قدمتها السلطات التركية، وعليها التعويل الأكبر ولو على المدى القصير للجم زمام الأزمة، ورفع سعر الليرة التركية، للتمكن من تحقيق الأهداف الاقتصادية الأخرى، وتحديدًا السيطرة على التضخم ورفع النمو والصادرات.

ويرتكز الشق النقدي من الإجراءات على تحقيق الهدف نفسه من رفع سعر الفائدة التركية، دون رفعها فعليًّا، وقد يتجاوز ذلك إلى تحقيق نتائج أفضل من رفع سعر الفائدة، فالأداة المالية الجديدة تقوم على أن تعوض الدولة التركية من ينتقل من فتح ودائع بالدولار الأمريكي – أو أي عملة أجنبية أخرى – إلى تحويل وديعته إلى الليرة التركية، مقابل أي خسائر قد تنتج من فرق سعر الفائدة على الدولار الأمريكي، أو الخسارة المتمثلة بانخفاض العملة مستقبلًا، وساهمت الأداة المالية الجديدة كثيرًا في رفع الطلب على الليرة التركية، ونقل كثيرين لودائعهم إلى الليرة التركية بدلًا من غيرها من العملات، وارتفاع الطلب على الليرة يعني ارتفاع قيمتها أمام العملات الأخرى.

لكن خطاب أردوغان تضمن أيضًا شعارات ذات طابع جماهيري بخصوص الاقتصاد، فعلاوة على حديث الرئيس المستمر عن خوض تركيا لحرب تحرر اقتصادي، قد يحافظ بسببها على نسبة كبيرة من الناخبين، رغم تضررهم من نتائج النهج الاقتصادي، قال أردوغان إنه يتبع سياسة نقدية مبنية على كونه مسلمًا، ويُفترض منه محاربة أسعار الفائدة وارتفاعها الفاحش، وضررها على المواطنين.

ومع بدء صعود سعر الليرة التركية، وتناقل الأخبار عن الإجراءات الاقتصادية التي سيجري اتباعها، وحتى قبل معرفة تفاصيل هذه الخطة لاحقًا مع شرح وزير المالية لطبيعة الإجراءات، بدأ التفاعل الشعبي مع خطاب الرئيس وإجرائه، وتصدر ترند «نحن معك يا أردوغان» على «تويتر»، وخرجت بعدها احتفالات بارتفاع الليرة التركية.

ونتيجةً لكل ذلك، ولتوقع انخفاض أسعار الواردات التي ارتفع سعرها سابقًا نتيجة لانخفاض سعر الليرة، وبسبب بدء ظهور آثار الإجراءات، فإنه يمكن القول حاليًا أن الثقة بالاقتصاد التركي والليرة التركية قد ارتفعت، مما يفتح المجال لاستمرار نجاح الإجراءات لاحقًا، وتحقيق خطط أردوغان المستقبلية، ورفع احتمالية نجاحه في انتخابات عام 2023.

مقامرة بالاقتصاد أم خطة مدروسة؟

رغم النجاح في وقف مسار الهبوط، وبدء مسار الارتفاع؛ فإن الليرة التركية لم تصل حتى الآن إلى مستوياتها قبل شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، والأهم أن الأداة المالية الجديدة تحمل مخاطر كبيرة على مالية الدولة، فقد تنقل المخاطر من يد المستثمرين في الليرة التركية إلى يد الحكومة، نتيجة الإجراء القاضي بتعويض الحكومة للمودعين عن خسائرهم.

ففي حال انخفاض سعر الليرة التركية مجددًا، لن تتحمل تركيا فقط آثار هذا الانخفاض الذي تواجهه منذ سنوات، بل ستتحمل الدولة أيضًا عبء استحقاقات دفع تعويضات للمودعين، بدلًا عن كل ما يخسرونه نتيجة انخفاض العملة، ما يعني ارتفاع التضخم لأعلى مما هو عليه الآن، وتحميل الحكومة أعباء كبيرة، قد تصل إلى إمكانية عدم القدرة على السداد.

Embed from Getty Images

الليرة التركية

في المقابل؛ إذا نجحت الأداة الجديدة في تحقيق هدفها لرفع سعر العملة وإبقائه مستقرًا أو متجهًا نحو الانخفاض، فإن تركيا ستستفيد من ذلك، ولن يترتب على الدولة أي عبء مالي لتعويض المودعين، وفي الوقت نفسه فإن ارتفاع العملة بشكل معقول، وترتيب تعويضات غير ضخمة على الدولة، قد يكون أمرًا ممكن الاحتمال بالنسبة للحكومة التركية.

وتشير البيانات إلى أن لدى تركيا وضعًا تمويليًّا أفضل من الدول الأخرى ذات التصنيف الائتماني المشابه، فنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في تركيا 47%، بينما تبلغ في المتوسط 57% للدول ضمن تصنيف BB- لدى وكالة «فيتش Fitch»، ونسبة الدين إلى الواردات المالية السنوية 145% في تركيا، بالمقارنة مع متوسط 225%، وعليه فإن هناك مساحة ما لتتحمل الدولة جزءًا من المخاطر لدعم العملة واستقرارها، وهو أمر مطمئن أكثر ويزيد الثقة بقدرة الدولة على تحقيق استقرار العملة ودعمها.

هل ضغط أردوغان على البنك المركزي لدعم الليرة التركية؟

رغم أنه ليس هناك إعلان رسمي عن تدخل البنك المركزي باستخدام احتياطاته لشراء الليرة التركية بعد خطاب أردوغان، فإن بعض التقارير تفيد بأن البنك المركزي تدخل بالفعل وصرف ما بين 6 و7 مليارات دولار لدعم الليرة، وتؤكد التقارير أن البنك المركزي التركي استنزف بالفعل جزءًا من احتياطاته لتحقيق هذا الأثر، وربما لخلق أثر نفسي سريع، يدعم ارتفاع الليرة بقوة وفي وقتٍ قصيرٍ، لتعزيز خطوات أردوغان الجديدة.

Embed from Getty Images

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

وإذا كان من الوارد أن يكون أردوغان قد ضغط على البنك المركزي لتحقيق هذا الأثر، فإن من الوارد أيضًا أنَّ أردوغان استخدم طرقًا أخرى لرفع الطلب على الليرة التركية بشكل مدبر، سواءً عن طريق رجال أعمال أو شركات تركية يملك الرئيس التركي نفوذًا عليها، ليشتري هؤلاء الليرة التركية بما يملكون من دولار.

وإذا كانت هذه هي الحالة فعلًا، فإن جزءًا كبيرًا من الفضل يجب أن ينسب إلى هذه التحركات غير المعلنة، لا إلى الإجراءات التي جرى إعلانها، وتكون السلطات التركية قد دبرت لفعل كل ذلك، ليبدو الأمر كما لو أن خطاب أردوغان والإجراءات التي أعلنها لها أثر سريع، بينما الواقع أن هذه الأدوات لم تكن لتؤثر كثيرًا لولا هذه الخطوات المدبرة، ومع أن البنك المركزي قد لا يستمر في التدخل، فإن الدفعة القوية للعملة والثقة بالاقتصاد قد تسمح لهذه الإجراءات للصمود وحدها مستقبلًا.

فالخطوات الصعبة جرى اجتيازها بالفعل، وعلى الرغم من تكلفتها العالية المحتملة، فإنها نجحت في تحقيق المطلوب منها حتى الآن، وتعطي فرصة للاقتصاد التركي ولخطط الرئيس أردوغان للنجاح، وكلما استمر النجاح تضاءلت الكلفة حتى العدم، ففي حال لم تنخفض الليرة التركية لن تضطر الحكومة لتعويض أحد، وفي حال رفع مصادر الاقتصاد من العملة الأجنبية فإن أي قيمة جرى استنزافها من الاحتياطي في الفترة الحالية سيجري تعويضها لاحقًا، خصوصًا إذا نجح الاقتصاد التركي في جعل الميزان التجاري موجبًا.

المصادر

تحميل المزيد